سامية البحري/ تونس
جلست إلى مكتبي.. قلبت دفاتري.. وأخذت أرتب قصائدي
تلك التي سأتوج بها مجموعتي الشعرية الأولى
فبدأت مغامرتي مع رأسي.. ذاك الرأس الغبي..
كلما أمسكت بكتاب يتلبسه الجنون..
ويبدأ في دق مساميره الخبيثة..
وأرد عليه بأقراص صغيرة… فيهزمني..
عبثا أحاول أن أنام.. ويراودني الشك
ترى هل هذا الرأس لي؟
هل هذا الرأس يغار من كتبي ومقلمتي؟
أتسلل إلى السطح…
أمشي على أطراف أصابعي.. بعد أن ارتديت فستاني
الأبيض وأطلقت شعري للريح..
وقد تعطرت خصلاته بنفحات من الذكر الحكيم..
كان وجهي أبيض.. أبيض.. كنتف الثلج..
وكان قلبي.. يرتجف.. يرتجف كجناح السمانى..
والليلة مقمرة.. ساكنة…
والسماء أقرب ما يكون…
وأنا أبعد ما يكون..
وأتوه… أتوه.. في خط من نور يرتق الأرض بالسماء
وأسمعها تتلو علي الحكايا..
يخرج علي صوتها كالصدى..
كانت هي.. كانت جدتي التي بها أهيم..
كانت تقول لي وأنا أتسلق وجهها كقطة
تبحث عن موقد دافئ ذات شتاء قاطع..
_إنك تحب البياض.. وتحب الصدق..!!
وتهب السكر والحلوى.. ولعبة جميلة..
وإنك _إن غضبت_
تمسك بنا في قبضة واحدة..
وتضعنا في نار حامية..
فأنظر في تلك اللحظة إلى المدفأة المنتصبة أمامنا
وأهمس في أذنيها، وأنا أرتجف
_هل الله يمتلك مدفأة كبيرة مثل هذه المدفأة؟
فتردف جدتي في حماس
_بل أكبر.. وهي تدعى جهنم..
جهنم _يا عزيزتي _ شديدة.. لها أبواب…
على كل باب يقف….
لا يموت من يلقى فيها؛ بل فيها يحيا..
وقودها النار والحجارة..
و…و…و…و تنساب الكلمات من بين شفتيها
كانسياب الأفعى في حقل خصيب
أصغي.. أصغي.. لا أفهم ماذا تقول..
كل ما فهمته أن جهنم مدينة كبيرة… كبيرة جدا..
لا تكف عن الاشتعال…
وتلك المدينة بلا سماء…
لا تعرف شمسا ولا مطرا.. ولا قمرا.. ولا عصافير..
وأنغرس في حضنها كشوكة.. حتى يسرقني الكرى..
وكبرت.. كبرت.. كبرت..
وصوتها لا يغادرني..
وكبرت مدينة جهنم معي.. وتضخمت..
وبكيت كثيرا.. عندما أدركت أن جهنم ليست في السماء
كما قالت لي جدتي..
بل جهنم على الأرض…
وبكيت أكثر عندما علمت أن جدتي قد كذبت علي..
وخفت عليها كثيرا..
لذلك أنا أقف بين يديك الآن لأقول لك
اغفر لجدتي يا إلهي..
وعلق ذنوبها في رقبتي.. فقد كنت لا أنام..
إلا بعد أن أشقيها.. وإذا بكيت يسبق كفها الطاهر
الدمع إلى وجنتي..
وإذا شعرت بالبرد تنزع غطاء رأسها وتدثرني..
وإذا مرضت تجلس عند رأسي.. وتقرأ كل القرآن..
كانت تقول لي دائما
أنت قطعة من وجودي.. فإذا رحلت سآخذ النصف
وأترك فيك النصف الآخر…
ها أنا… أراها الآن… ها أنا أسمعها..
هي… نعم.. هي جدتي بلباسها الأبيض الجميل
وغطاء رأسها الملكي.. وتلك الوردة التي تضعها
في شعرها… و ابتسامتها الساحرة.. وجرابها المشحون
بالحكايا.. و…و…
ترى هل جاءت جدتي لتسترد نصفها الآخر؟؟