مهند الخيكاني
في الحقيقة مضى وقت طويل منذ أن مرت مجموعة شعرية على يديّ واستمتعت بها، وشعرت بأنني اقرأ نصًا متكاملا وعميقًا في جملته وفي رؤياه كبنية واحدة مجتمعة.
هذا ما شعرت به وأسعدني عندما قرأت
“ما يضيئه الظلام ويطفئه الضوء”، للشاعر الرائع حمدان طاهر المالكي.
إن أجمل ما يميز نص حمدان كما هو معروف عنه، تلك القدرة الهائلة على الحديث عن الموضوعات الشاسعة بإيجاز قلَّ نظيره، دون أن يشعرك بوجود خلل أو نقص، محافظًا على مسافة الإيحاء اللازمة بين جملة واخرى، تلك التي تجعل القارئ يصل الى النهاية سلّمةً سلمة دون عناء أو صعوبة أو شتات وبلا زوائد. كما أن القارئ لن يستشعر حرص الشاعر في جعل النص على هذه الشاكلة، بل سيبدو وكأنه خُلق هكذا دون عناءٍ أو مشقة، وهو ما اسميه الاحترافية، حيث امتزاج الصنعة بالصدق.
يبلغ عدد النصوص 44 نصًا بدءًا من التوطئة، مختلفةً في موضوعاتها بغرابة نادرة، حيث إنها تطل على مآسي الحياة، والصراعات الفردية تتبعثر على مجتمع بالكامل على الرغم من خصوصية الحياة التي استدعت الشاعر لكتابة هذه النصوص.
وهو الأمر الذي يشير الى أن الفرد هو مجتمع مصغر عن المجتمع الأب، مع بعض التعديلات الناتجة عن تدخلات شخصية أو تربوية تضفي اختلافات طفيفة هنا وهناك، تظهر على سلوك الانسان كشخص مختلف عن الآخر، ولا يلتصق به كما يحصل داخل حدود الشخصية النمطية.
النص الذي يكتبه حمدان وهو يشخّصُ الحياة ومن وجهة نظره ومعاناته، هو في الأخير تشخيص لمعظم ما يعانيه الأفراد الآخرين الذي يقعون ضمن حدود الجماعة، الشعراء والفنانون بشكل عام، هم مجتمعات صغيرة تحاول أن تستقل عن الشجرة الأم، حتى تصحح مسارها أو لتمرير العقبات والمصائب في محاولة لتخفيفها.
وهي بالتالي كلها محاولات لتحقيق اعلى سقف من “الفردانية” التي تتيح للفنان رؤية الحياة بشكلها الصريح لا بشكلها المؤدلج.
لا أدري إن كان العنوان يمكن أن يقع في إطار ما نسميه “جماليات القبيح”، لأنه يعتمد بالدرجة الأساس على كيفية النظر الى ثنائية الضوء/ الظلام، فإذا كنت كقارئ تنظر الى الظلام على انه من القبائح فقط سيكون رأيك ضمن مايفترضه الشائع، وإذا كنت ستنظر الى هذه الثنائية بتجرد أكبر مما أودعه الشائع في العالم والمجتمع فيك حول الظلمة والظلام، فأنت ستضيء عينيك عبر الظلمة التي يشير إليها الشاعر، وستصاب بالعماء جراء مايكشفه الضوء، ولعل أقرب نصوص المجموعة الى العنوان والى هذه الثنائية حسب رأيي خاصة هو نص “البحث عن يوسف آخر”، ص 51: رأيتُ احد عشر رجلاًكانت ثيابهم غريبة الوجوه أيضا غريبة نزلوا من سيارة حديثة قالوا بصوت واحد هل رأيت غلاماً؟وصفوه بأحسن الصفات حين أخرجوا صورته كانت صورته تشبه يوسف قلت: أليس هو يوسف النبي قالوا: لسنا متأكدين من ذلكأرجوك ساعدناابحث معنا عن أي شيءيدل عليه حتى لو كان قميصاً ممزقاً.
ما أثار اهتمامي ايضا في هذا النص الذي يحاكي ثيمة مستهلكة كثيرا ومكررة، إن الشاعر هنا يضع القارئ في مأزق حقيقي حينما يقول: “أليس هو يوسف النبي؟”، فنحن لا نعلم إن كان يشير الى نفسه بيعقوب والانتظار المريع الذي لاقاه، أو هو أحد أقاربه وصحبه، أو أن يوسف في زمن الشاعر الفني مكشوف الملامح، يعرفه الناس أجمع؟!
وتخلل المجموعة أيضا مجموعة من النصوص القصيرة “مقاطع”، لكنها مقاطع من النوع المستقل بذاته والمكمِّل أيضا لبقية النصوص اللاحقة، وليست تلك النوعية التي تكمل بعضها بعضًا عبر الموضوع لتنتهي الى نص واحد، لكنها تخسر معانيها ومقاصدها إذا أفردتها بعيدا عن مثيلاتها، وهنا أوردُ لكم مقطعًا قصيرًا من نص “موت بصفة غير قطعية” ، ص 10، المقطع السابع:بعد أن غاب كثيرًاوجدناه أخيرا أخي الذي صار جمجمةًبين أسنانهِ كلمات كثيرة لم نفهمها.
هذه مجرد لمحة صغيرة ومستعجلة عن الكتاب بغرض الانصاف واطلاع الناس عليه والاحتفاء بالمنجز الجميل والجيد الذي يقي نفسه من خراب الازمان وتغيراته الفظة..