باريس: فضاءات الدهشة
انعقدت الليلة الماضية، الندوة الإليكترونية الأولى التي يشرف عليها المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح، وكان موضوعها عن الفكرة الفلسفية في العمل الفني السينمائي والمسرحي استمرت ساعة ونصف، قام بإدارة النقاش الكاتب والمخرج السينمائي حميد عقبي، رئيس المنتدى، وطرحت مداخلات شارك فيها كل من: رباب حسين (أكاديمية وإعلامية من مصر)؛ يوسف هبة (مخرج سينمائي يمني مقيم بالجزائر)؛ حسن وهبي (ناقد من المغرب العربي)؛ جمال عساف (مخرج أردني مقيم بدبي)؛ منصور عبد الغني (ممثل ومخرج يمني)؛ آدم عشاب (ممثل مغربي)؛ رشيدة الشيباني (فنانة مغربية مقيمة في بروكسل)، وبحضور عدد من أعضاء المجموعة من عدة دول شاركوا بطرح أسئلة وتعليقات، حيث يبلغ منتسبي المجموعة ما يقرب 150 فنانا وفنانة من فرنسا وبلجيكا وإيطاليا والعالم العربي.
افتتح عقبي ــ مدير الندوة، النقاش، مرحبا بالمشاركين والمشاركات، ومذكرا بأهداف تأسيس هذه المجموعة (جروب واتس آب)، كملتقى يجمع أهل السينما والمسرح في المهجر الأوروبي مع أهل الفن والسينما والمسرح في العالم العربي من أجل خلق شراكات فنية وتبادل الخبرات وتقوية الحوارات الفنية والنقاشات المفيدة.
ثم طرح ملخص لموضوع اللقاء الذي يركز على موضوع حساس ومهم وهو الفكرة الفلسفية في الفيلم والمسرحية: أهميتها؛ دورها؛ كيفية تقويتها واستمرارها وعرضها بقوالب جمالية فنية بعيدا عن المباشرة أو الاستسهال.
ويرى عقبي أن أي عمل يخلو من فكرة فلسفية لا يعد عملا فنيا ولكن قد تواجه معارضة أو سوء فهم من المنتج مثلا.. وذكر عقبي أنه في فيلمه الأول “محاولة للكتابة بدم المقالح” الذي أخرجه عام 1997 كفيلم تخرج من كلية الفنون الجميلةــ جامعة بغداد، والفيلم معالجة سينمائية لقصيدة “محاولة للكتابة بدم الخوارج” للشاعر اليمني الكبير عبد العزيز المقالح، حيث أن المشرف على الفيلم رفض السيناريو الذي انطلق واعتمد على فكرة فلسفية تمجد المقاومة والرفض، وبعد نقاشات طويلة مع شعراء ونقاد رحبوا بالمعالجة وهنا اقتنع المشرف مع تخوفات كثيرة وبعد تنفيذ العمل فاز بعدة جوائز والأهم أن الشاعر المقالح أعجبته الفكرة ولكنه طلب تغيير اسم الفيلم لأنه أحسه صادما.
وقال عقبي إنه يحاول المزج بين أفكاره وتصوير بعض أحلامه وجنونه وتمريرها في أي عمل يكتبه أو يخرجه وأنه يقدس المرأة والحرية ويميل للأفكار الفلسفية المتحررة والصادمة وحتى أفلامه الثلاثة الأولى كانت سينمائيات لقصائد شعرية لكنه أحب في القصائد الأفكار الفلسفية الإنسانية ومزجها برؤية ذاتية ولم تكن الأفلام فيديو كليب مثلا بل رؤية سينمائية تنطلق من أفكار فلسفية عميقة.
ثم تحدثت رباب حسين (أكاديمية وكاتبة مصرية درست اللغة الكورية ولها عدة دراسات سينمائية)، منوهة أن أي عمل فني مهما كان نوعه ومدته وشكله يجب أن يحتوي على أفكار فلسفية، وهذه الأفكار تعد مسبقا وتكتب في ملف الفيلم أو المسرحية لكن البعض قد يعجز عن المحافظة عليها عند التنفيذ وهذا يكون بسبب أن هذه الأفكار ربما ليست واضحة للمخرج وفريق عمله “أي مخرج يجب أن ينطلق من فكرة ويوظف الوسائل وتتضح الفكرة خلال العمل وإلا يأتي مثلا مشهد يعارضها أو قد تعرض الأفكار بطرق سطحية هشة فتضعف وتموت”.
وبينت “رباب حسين” أن الإيقاع التشويقي المتنوع يجعلنا نتابع ونحب العمل ثم نناقشه ونحلله وفي حال تنفيذ العمل بشكل هزيل قد يصعب فهم الأفكار أو قد لا تكون هناك أفكارا، “وهذا مرض أصاب السينما المصرية والعربية فأصبحت معظم الأفلام تخلو من الفكر والفن”.
كما ترى “حسين” أن غياب التناغم بين كادر العمل ووجود خلافات بين الكاتب والمخرج أو اختيار كادر ضعيف غير محترف قد يضر ويحطم أي فكرة وعمل. كما أن الإمكانيات الإنتاجية الضعيفة جدا والاستعجال في التنفيذ وغياب الخبرة والابداع الفني ينسف أي عمل ويكون النتاج عمل ناقص ومهلهل. وهناك سبب آخر: فقد تكون الأفكار مقلدة أو مسروقة أو مكررة وكذلك أساليب التنفيذ؛ وفي هذه الحالات لا تعيش أي فكرة فلسفية مهما ادعى المخرج أنها موجودة وهنا لا ينفع التجميع من هنا وهناك وعندما تكون أفكارا وقضايا بعيدة عن بيئة والواقع الذي ينتج وينتمي إليه فريق العمل فهي أيضا قد لا تجد من يفهمها أو يتحمس لها ولا يوجد شيء يأتي صدفة بل يجب أن تكون لدى المخرج مؤهلات إبداعية فنية وموهبة ويتعب على عمله بالبحث والقراءة وفي حال انعدام ذلك ووجود فراغ فكري لدى المخرج فهنا لا يمكنه أن ينتج فكرا أو فنا.
ومن جهته، ذهب الممثل والمخرج منصور عبد الغني (من اليمن) للقول إن المخرج قد يأخذ فكرة ويعالج قضية اجتماعية ما لكنه سرعان ما يتيه وتضيع الفكرة الفلسفية بأحداث لا علاقة لها بالفكرة التي انطلق العمل لمعالجتها.. وتساءل عبد الغني: إذن، كيف يمكن الخروج من هذا المازق؟
ومن جهته، استشهد الناقد المغربي حسن وهبي (من مراكش)، برأي مهم للناقد السينمائي محمد نور الدين أفايه، من كتابه “الصورة والمعنى” يقول فيه: “ليست السينما انعكاسا للواقع بقدر ما هي اشتباك بصري وجمالي بين ما انطبع في المخيلة من أشياء الواقع وما اختزن في الذاكرة من رصيد رمزي وما يمتلكه الفاعل السينمائي من قدرة على التخيل لذلك يجد النقد السينمائي نفسه أمام صورة مركبة ومتعددة ومن أجل فهمها وتأويلها يتعين عليه امتلاك حساسية نقدية تتبلور نتيجة تكوين نظري فلسفي وجمالي ومشاهدة متواصلة للصور السينمائية”.
ووفقا لـ”وهبي”: “النقاش الفلسفي يستدعي من المخرج أن يطرح أسئلة عميقة مبنية أولا من السيناريو.. وهنا السيناريست الجيد هو من يستطيع أن يأخذ من الواقع واختيار موضوعه ليصيغها بقالب صوري يثير المتلقي، فهو يعكس أسئلة متعلقة بالإنسان والطبيعة وأسئلة حول طبيعة العلاقات الإنسانية وغيرها وهنا سنكون مع فيلم فلسفي”.
منوها على ضرورة أن يعي المخرج بمهمته في توليد الأفكار الفلسفية ويسقيها.. قوة العمل تكون عندما يكتب الفيلم بالكاميرا، فيكون خلقا إبداعيا صوريا وتشكيليا، نحس أمامه أننا نتعايش مع قصيدة شعرية صورية وأهزوجة موسيقية.
كما يؤكد المخرج السينمائي اليمني يوسف هبة (مقيم بالجزائر) أن الفكرة الفلسفية للعمل الفني تعد عنصرا أساسيا.. وأضاف: يتحمل مخرج الفيلم مهمة صعبة، لذلك يجب أن يكون ذو مواصفات إبداعية وخياله واسع وعليه الربط بين النص والجانب التقني ووسائل التنفيذ لتصل الأفكار واضحة وسهلة. فتوظيف الصورة واختيار زواياها ووضعيات الكاميرا ليست موضحة بالنص؛ هي مهمة المخرج بحيث يخلق صورة تتعمق بالفكرة، كما علينا ألا نهمل عمق الكادر ونوعية اللقطة وما يمكن أن تحمله من دلالات تخدم الأفكار.
وختم “هبة” مداخلته بالتنويه إلى أن لكل عمل فني رسالة ما يريد المبدع ايصالها للمتلقي، وكل هذا يجب أن يصل صوريا.
وأعطى مدير الندوة عدة تعقيبات على الطروحات السابقة. ونوه أن “فاقد الشيء لا يعطيه”؛ فإذا كان فريق ومخرج العمل ومنتجه لا يحملون فكرا ولا إبداعا فمن الطبيعي أن تكون النتائج كارثية ولعلنا نلاحظ هذا في المنتوج السينمائي المصري والعربي بشكل عام، فقد شهدت السينما عصرا مزدهرا وكثافة في الانتاج في الكم والنوعية من الأربعينات إلى التسعينات، ثم خفت وضعف الانتاج وكثرت الرداءة وأصبحنا نشاهد أعمالا قليلة جدا تستحق المشاهدة وتتسم بالأفكار. وأيد ما تشدد عليه “رباب حسين” في ضرورة الانسجام الابداعي بين فريق العمل وضرورة دعم الأفكار الجادة.
كما عقب على طرح الناقد حسن وهبي بضرورة أن يشتبك الفن بالواقع والخيال ويغوص في الواقع ولا يكتفي بتصوير السطح الظاهر وأعطى عدة أمثلة من أفلام شاعر السينما الإيطالية “بير باولو بازولينيي” لا سيما في فيلمه “أوديب ملكا”؛ فالفيلم تناول أسطورة قديمة بطريقة عصرية ليس للتوثيق أو التسلية ولكن لقراءة الواقع ومعالجة أفكار فلسفية معقدة بطرق سهلة وفنية ترفع مستوى ثقافة العامة وتتحدث عنهم وتصورهم وتحكي ألمهم وأوجاعهم، فالسينما والمسرح من الفنون الإنسانية بالدرجة الأولى ويحملان الحلم والفكر والأمل.
كما عقب على ما طرحه يوسف هبة وخاصة تبسيط الشكل وقال عقبي أن هناك من المخرجين الفلاسفة الكبار خلقوا أفلامهم الأخيرة وكان بعضها يتسم بالتعقيد الشديد أمثال غوادرد وانغمار بيرغمان وآلان رينيه ولكن هؤلاء لهم رصيدهم ومحبيهم وخبرتهم وتجربتهم الفنية والحياتية وما بها من تراكمات ومتغيرات عصرية وقلق وجودي وفلسفي تضخم أكثر وربما من يشاهد أعمالهم الأولى سيفهم الأخيرة. معتبرا أن البساطة لا تعني الهشاشة.. وأن الضعف والفن هما أداة للحوار الاجتماعي والفكري وهو أيضا أمر يحمل متعة جمالية ولعل ذلك يجعلنا مثلا نعود لمشاهدة روائع السينما المصرية والعالمية.
ثم عادت رباب حسين للحديث وقالت إن النظرة الفلسفية التي تطرح قد تكون مثيرة للجدل ولكن أحيانا تكون صعبة الفهم كما فعل يوسف شاهين ويصبح الفيلم نوعيا ويصعب لشريحة عامة. وهنا “الناقد عليه أن يلم بعدة عناصر فنية ليستطيع الكتابة والتشريح بعمق وصدق وعليه أن يتطرق للأفكار الفلسفية وحاليا نلاحظ نقدا ناقصا يشبه النفخ المبالغ فيها”. وتابعت: هناك عدة مشاكل مثلا تعاني منها الدراما والسينما وخاصة التكرار والنسخ والتقليد وفقدان الجدة والحداثة والاستمرار بأنماط قديمة وقد تكون مواضيع هامة.
وهنا ساندت “حسين” ما طرحه “عقبي” حول ضرورة إثراء العمل بالدلالات والمحسنات الجمالية والتي تأتي من مخرج مبدع وتتطور بتراكم الخبرة؛ فالفنان الجاد يتجدد ويجدد في أساليبه والمخرج المبدع يتعاون مع فريقه بشكل كامل ويستفيد من كل عنصر لأن السينما والمسرح والدراما فنونا جماعية، فمثلا الممثل قد يضفي من إبداعه وحتى أصغر شخص بالعمل… وتحدثت كمثال عن فيلم الممر “فرغم الميزانية الضخمة والنجوم الكبار إلا أن ثمة عناصر ثانوية هبطت بالفيلم مثل الكمبارس وبعض الديكورات والخلفيات وهكذا فأقل شيء قد يسبب مشكلة تضعف من قيمة العمل.
كما تطرقت د. رباب حسين إلى أهمية بناء الكادر ليكون مشحونا بالأفكار. وقالت أنه “بدون تخطيط وحرفية إخراجية تموت الأفكار.. والناقد الحقيقي هو من يحلل بصدق وليس مجرد وصف خبري.. والأفكار الفلسفية علينا أن نستشفها من خلال العمل الفني وليس المقابلات الصحفية للمخرج وكاتب العمل”.
تعددت الأحاديث والتعليقات وكان آخر المتحدثين المخرج الأردني جمال عساف المقيم بدبي والذي يرى أن السوال المطروح عنوان الندوة محيرا بعض الشيء كوننا نقع مع الشكل الأدبي ثم تحويله إلى شكل السيناريو والذي هو يختلف ويتميز بمواصفات خاصة ومختلفة عن القصة أو الرواية ثم يتحول إلى فيلم.
وقال أن الفيلم يحتوي عناصر لغة صورية وعناصر تكميلية ومراحل تنفيذية عديدة، هنا المخرج من سيجمع ويرتب وهو المسؤول عن كل شيء وإذا كان يعي فكرة الفيلم ويفهمها سيقدر على خلق قالب فني تنسكب فيه الفكرة الفلسفية ويشعر بها المتلقي بشكل مختلف إذا كان الفيلم مثلا ماخوذا من قصة أو رواية وقد تحدث مشكلات بعد عرض وانتشار العمل بين المخرج والكاتب الأول أو المخرج والسيناريست.
وبيّن “عساف” أن لكل شكل فني ونوع أدبي لغته الخاصة ولكل شكل ونوع جمهوره ومحبيه والفن والأدب إبداع إنساني لكل واحد سحره ولذته.
استغرقت الندوة ما يقرب ساعة ونصف وهنا ختم حميد عقبي ــ رئيس المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح: هذه الندوة الأولى وأعتبرها ناجحة جدا بجذبها عدد كبير من المداخلات وكذلك لقيمة وأهمية ما تم طرحه وستستمر الندوة تقام مساء كل يوم أحد السادسة بتوقيت باريس وستبث المداخلات مسجلة بعد جمعها وعمل مونتاج بسيط كأحد الأنشطة الفنية التي يحرص المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح على إنتاجها.