غالية عيسى*
// في الثامن من مارس هديتي للمرأة العربية عامة، والصديقات في مؤتمر إسطنبول خاصة.
على هامش مؤتمر إسطنبول الدولي للغة العربية والعلوم الإنسانية الذي أقيم في تركيا شهر فبراير الماضي (2020)، تعرفتُ على نُخبة رائعة من المثقفات العربيات، وكنتُ أحسب أن الشتات السياسي الذي فُرض قسوةً علينا قد بعثرنا من الخليج إلى المحيط، لكن جمْعنا كان روحياً واحداً وقومياً ماجداً تماماً كاللغة العربية وضادها المجيد، ومجدها التليد.
في فندق بيكولو منطقة بكروكي
كانتا د. آمنة ود. ربيعة من ليبيا، هما أول من قابلتهما في مطعم الفندق، كان صباحاً جديداً على دمي العربي المتبعثر، كان قلبي وحيداً يشعر بالقلق، و عيناي تراقبان زوايا المطعم، تبحثان عن وجهٍ يحملُ دماً عربياً وبشرةً قمحيةً يبدو عليها ظمأ الصحراء أو لون بلح الشام وعنب اليمن، وإذ بي ألمحُ، ملامح ليبية تبسمت لي أعينهن العسلية، فشعرت بالبُشرى، وغرقتُ طويلاً في عناقهن، لم يكن عناق أجساد بقدر ماهو عناق أُمتين فرقتهما الحرب، وما زال يجمع بينهما الدم والحب والدين، تحدثنا كثيراً، ثم غنتا لي أغنية ليبية رائعة يقول مطلعها:
يا غالية يا حب قلبي كله
يا شمس بانت والسحاب اتجلى
في فندق رامادا كان حفل افتتاح المؤتمر
صالة الفندق تقفز من أرجائها الملامح العربية، كانت تتصاعد من الجدران رائحة الحناء السوداني المنبثقة من يدي د. سعاد، وكنتُ أسمعُ خرير ماء نهري دجلة والفرات ينساب من عيني د. ليلى والأستاذة رغد، كانتا تستقبلان الجميع بابتسامة عراقية لملمت أوراق الموصل والنجف على شجرة تراثية الحضارة وحضارية التراث تنثال من شتلاتها رائحة النقاء التي غمرتني دفئاً وعذوبة حين سافرتُ مع د. هدى في عناقٍ عربي طويل الفرحِ قصير الوجع.
في الجلسة البحثية الأولى
كعادتها جلسات النقاش العلمية تبدأ جافة وصارمة وكذلك مضينا أثناء تفعيلها، وكعادتي أحب التقاط صور اللحظات الجميلة وتوثيقها، التقطت بعض الصور للدكتورة فايزة من سلطنة عمان وقد تميزت في آداء بحثها باتقان ومنهجية نالت إعجابي، ثم لفتت انتباهي وردة لبنانية شقراء تجلس في الجهة المقابلة لي، من الوهلة الأولى أدركت أنها ستكون رئيسة اللجنة الذي سأعرض خلالها بحثي، كانت تبتسم لي كلما رأتني التقط صورة لها، وبعد الكثير من الإبتسامات المتبادلة عرفتُ انها د. عائشة شكر، من الجامعة اللبنانية، تعانقنا روحياً كمجدافين يعانقان سطح البحر على قارب تمتد أشرعتهُ من جبال صنعاء إلى جبال لبنان العظيم .
رحلة على جسر البوسفور..
صورة جماعية
قبل الصعود إلى الباصات في فناء فندق رامادا التقطنا صورة جماعية، حين كان المصور يصرخ بصوتٍ عالٍ: صورة جماعية، “ابتسموا”، ومع صرخته كنت أُلملم جراحي العربية وأنا أبتسم بقوة وثبات، وكأن شيئاً بداخلي انتصر، وكأنه بكلمته قد أصلح ما بداخلي انكسر، كلمة (جماعية) أوحت لي باجتماع الكلمة العربية التي تجزأت واجتماع الأمة العربية التي تفرقت.
وميض فلاش الكيمرا، وصوتها (تك…تاك)، ضحكنا جميعاً والصورة طلعت حلوة.
في الحافلة:
لم أكن أريد الصعود في تلك الحافلة، ففي إحدى مقاعدها، كانت تجلس دكتورة من بلد……. لا أحبه، وكنت أتحاشى الاقتراب منها أو الحديث معها، حرصاً على مشاعرها خشية أن يصلها إحساسي السيء إتجاه بلدها، فهي وأن كانت عادلة أو مثقفة واعية لابد أن تتألم على وطنها؛ لأني أعرف جيداً، ماذا يعني الوطن وكيف يسافر في دواخلنا حبه.
لكنها أصرت أن أجلس قربها، فوافقت على مضض إذ لا مفر، فالحافلات كلها ممتلئة، جلست قربها وكنت أشم رائحة النخوة والمروءة من دمها العربي، فاستفاقت في دمي مشاعر الدفء والحنين، حين قالت لي أن قصيدتي( مع السياب) التي ألقيتها في حفل الافتتاح جميلة وأنها تحب اليمن وتحب شعبه وأنها آسفة لكل ما حدث في اليمن، بدأتُ حينها أردد قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فالشعوب لا شأن لها بما يفعل حكامهم، ثم عانقتها بصفاء، وقرأنا شعراً كثيراً.
أمام معلم البوسفور التاريخي
كنت أشعرُ بالدمع ينسكب من قلبي كلما نظرت إليها، كانت تشبه أمي كثيراً، ليس في وجهها فحسب؛ بل حتى في أمومتها وعطفها وخوفها علي من البرد القارس هناك، قالت لي بنظرة الخائف: ارتدي ملابسك الثقيلة يا ابنتي! فانفطر قلبي من فرط الدفء في كلمتها، كانت تحرسني نظرات الأم من عينيها كلما تحركت هنا أو هناك، وكدت أن أُغني لمارسيل خليفة “أمي تعدُّ أصابعي عشرين عن بُعدٍ تمشط لي بخصلة شعرها الذهبي” إنها د. جهيدة من الجزائر العظيم، أرض المليون شهيد، والمليون وردة، والمليون حُلم.
على السفينة في قلب بحر مرمرة
إحمرار العلم التركي وبياض نجمتيه وهلاله أضفى على زرقة البحر بهاءً آخر، وكانت الرياح تلفح وجوهنا العربية المهترئة فتفرش النوارس أجنحتها على رؤوسنا المكتظة بذكريات الحرب والدمار فيمسح بياض أجنحتها المتناغم مع زبَد الأمواج تلك الآثار، ثم يشرق البياض بداخل أرواحنا وتصفو الأذهان، وتطرب الآذان ثم تشتاق لسماع نغمات العود العربي. في تلك الأثناء بدأت دكتورة محاسن التي كان يتقاطر من ملامحها الأصيلة ضوء الحضارة البابلية وتهمس بغداد بألحان تشبه هدير الأمواج على وجنتي د. زهرة وهي تغني ممسكة بأيدي د. عاتكة “وتغرقان في ضباب من أسى شفيف كالبحر سرَّح اليدين فوقهُ المساء دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف” في أنشودة مطر السياب وحُلم العراق.
في إعمار مول
كان الجو بارداً حين أوصلنا باص الرحلة إلى إعمار مول حتى نتناول وجبة الغداء.
هناك تفرق الجمع وانتشرنا بين مطاعم المول، ووجدتني أمشي معها، أنا وهي فقط، وكم تحاشيت الجلوس معها من قبل، فهي أيضاً من بلد……..، أسرف كثيراً حكامه في تشريد شعبي، كنت أوقن أن لا ذنب لها في الأمر، ولا لبقية الناس هناك، لكن إحساساً غير مبرراً كان يرفض الاقتراب منها، وعلى ما بدا لي أنها كانت تفهمني تماماً وتشعر بي كثيراً، لذلك اقتربت مني وسألتني عن الأوضاع في بلدي، فانفجرت وأخرجت كل ما عندي من مشاعر سلبية اتجاه بلدها وما فعلوه، كنت أتوقع أن ينتهي اللقاء بخصامٍ حادٍ كحدة صوتي، لكنها فاجأتني حين قالت أنها توافقني وأنها جدّ آسفة على ما يحدث، وتحدثت معي بعقلية الأستاذ الواعي العارف لكل التفاصيل؛ لكنهُ القمع والقهر الذي يعاني منه كل من يخالفهم. فلم أعد أشعر اتجاهها إلا بالحب والحسرة عليها وعليَّ وعلى كل عربي لم يعد مصيره بيده، صادر الظلمُ حريته، وقيَّد القمعُ لسانه، وكبتَ القهرُ رأيه.
في سوق السلطان أحمد
كانت روائح التوابل والمكسرات تجتاح المكان، غير أن قهوة جزائرية بوصفة من د. كريمة فتحت شهية د. ليندا، فبدأتْ بالبحث عن مقهى يقدم قهوة جزائرية وذهبتا في غياب طويل على امتداد السوق، ولا أعلم هل كان الحنين إلى رائحة القهوة الجزائرية أم إلى رائحة الوطن؟
من الجزائر أيضا كانت د. ليلى غاضبة مني في بداية الأمر؛ لأنني ذكرت الكثير من الدول العربية في قصيدتي عدا الجزائر، على الرغم أن قصيدتي ركزت على أراضي الحروب، لكن عتابها لي كان مبرراً، فما أجملنا حين نشعر بانتمائنا العربي، ونرسمُ أشواقنا تذكاراً ننقش بريشة ألوانه حروف الوطن.
رحلة إلى تل العرائس
من على ارتفاع شاسع تطل إسطنبول برونقها التاريخي، بحر مرمرة الذي يفصل بين قارتي آسيا وأوروبا، ورياح باردة، تلفح وجوهنا، وكنت ألتصق بالدكتورة هدى في ذلك الوقت باحثة عن يدها الدافئة فوجدتها والتقطنا هناك الكثير من الصور الجميلة، من أعلى تل العرائس كان المنظر أشبه بالسحر، كنا جميعا هناك نمشي بخطوات واحدة ونرجو غاية واحدة، تسارى إلى أفقي الذي طار في تلك اللحظة إلى حلم الخطوات الواحدة، ولمحت أبواب القدس تفتح بأيدينا وخطواتنا الثابتة، وإذ بي أرى ابتسامة د. هيفاء من جامعة اليرموك الأردنية، وكأنها قرأت نور الحلم في ذهني فابتسمت حين رأتني أصغي لسائق الحافلة السوري وهو يسرد على قلبي الموجوع قصة هروبهم من ويلات الحرب في سوريا ومغامرة رحيلهم المؤلمة عبر البحر الغاضب إلى تركيا.
في حفل اختتام المؤتمر
كانت د. أميرة ذات ابتسامة عذبة واسعة مثل نيل مصر، وكانت ابنتها تتقاسم معها صفاء الملامح ونقاء الروح المنبثقة من نسيم إسكندراني اللفحة، تجوب رائحته قمم الأهرامات المعتقة بعبق التاريخ والحضارة، كنت أشعر بقوميتها العربية وهي تجلس قربي مرددة عبارات الحب والخيبة التي سمعتها حسرة من قلبها المصري الفسيح باتساع أم الدنيا وروعة حضورها رغم التهميش والتغريب والتهجير.
ومن الجزائر أيضا تعالت أصوات الجمال من قلبين رائعين (كرامة وصبرينة) أعين بريئة وأحلام شابة تلمس سحاب الأمنيات، وترسم على جناح الليل طائرة الأماني بغدٍ أجمل.
العودة إلى اللاوطن
جمعتنا أيام جميلة ثم غادرنا إسطنبول، كل إلى أرضها ووطنها، متجاهلين فكرة أن البعض منا ليس لها وطن، عُدنا لنرضع شتات ترابنا العربي المترامي الأطراف، لكنني عدتُ حاملةً أمل الحب الذي انسكب من حرف الضاد في أعينهن؛ ليستفيق معه دمي العربي ويبتسمُ.
في الثامن من مارس، نحن لا نرغب بالتهاني الكلامية والمُلصقات والأغاني والشعارات الفضفاضة، نحن نبحث عن أفعالٍ تُعيدُ لنا كرامتنا وأوطاننا وأفكارنا وحرياتنا ودمِنا العربي الذي انهدر.
* غالية عيسى: شاعرة وكاتبة يمنية مقيمة في سلطنة عُمان
8 مارس 2020