أحمد الفلاحي
تأتي مجموعة “الموت يدخن أيضا” بتجربة شعرية غنية بالمحتوى واللغة، لأنها تعتمد على الرمزية والتجريد في استكشاف موضوعات الحياة والموت والزمن والوجود والعدم. وتعتمد هذه النصوص بشكل كبير على الصور الشعرية المعقدة والاستعارات الإيقاعية، مما يتيح للقارئ التفاعل مع النصوص واستخلاص المعاني منها. وسأقدم في هذه المراجعة تحليلا شاملا لبنية اللغة والشعر، والمنهج الذي اتبعته النصوص في بنائها.
أولاً: البنية اللغوية للمجموعة
تُظهر مجموعة “الموت يدخن أيضًا” انحيازًا نحو اللغة المكثفة والمعقدة، حيث تمتزج الكلمات في ترتيب غير مألوف مما يترك القارئ يخمن ما يعنيه بناءً على كل سطر. وتعتمد هذه النصوص بشكل أساسي على نهج يقلل من اللغة من حيث المصطلحات ولكنه يوسعها في المعنى، حيث أن كل كلمة أو جملة تقريبًا مشبعة بمعاني متعددة.
- الصور المجازية، تمتلئ المجموعة بالصور المجازية التي تمثل الأساس لبناء المعنى، إذ لا يتم تصوير الموت والحياة كحدثين منفصلين في وقت معين، بل كظروف دائمة تتفاعل مع الشخص في كل لحظة من حياته. على سبيل المثال، في نص “أكثر من موت عادي” يتم تقديم الموت كشيء يدخل حياة الشاعرة ببطء، مثل دخول العاشق إلى كيانه، على حد تعبيرها:
“يستيقظ الموت من نومه
من غياب قطرات الندى
من صمت الماء وارتطام الصوت بالصدى”
هذه الصورة تجعل الموت ليس مجرد نهاية، بل هو تغير طبيعي تدريجي ومستمر، متشابك مع تفاصيل الحياة اليومية. تساعد هذه الاستعارات الغنية على تعزيز الروابط الأخلاقية بين العناصر المختلفة في النصوص، حيث أن الطبيعة (الماء، الضوء، الصمت) والموت والحياة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا.
- الاعتماد على الرمزية، تُستخدم الرمزية على نطاق واسع لإنشاء صور معقدة لموضوعات الحياة والموت. في “طريق الزمن وظله” يتم تقديم الزمن ككيان متمرد، متخلى عن ظله، حيث يصبح هذا الظل رمزا للمكان والزمان للتبعية أو الاستسلام. وفي هذه الحالة، الزمن ليس خطيًا، بل هو ظاهرة جامحة لا تتبع القواعد المعتادة. ومن الواضح هنا أن الزمن يصبح هو الكيان الجديد وغير التقليدي، وليس مجرد تسلسل للأحداث، بل يصبح حالة يمكن للفرد أن يتجاوزها، أو يخسرها.
- البنية المعقدة تعتمد الكتابة على بنيات لغوية معقدة، حيث يتم الجمع بين الكلمات والعبارات بطرق غير عادية. أحيانًا تجعل هذه الأنماط النص يبدو وكأنه قواعد يجب كسرها، كما يقول الشاعر: “عمق النهر/مياهه تجذب جسم الأرض نحوه/يعود الزمن من رحلة إلى ذهنه”. وهذا الترتيب يمنح النصوص تعقيدًا وجودة فلسفية. ولا يجد القارئ نفسه في مواجهة معاني جاهزة وسهلة الفهم، ولكنه يواجه باستمرار تحديًا لفهم كيفية تفاعل الزمن مع الأرض والماء في هذه الصور المعقدة.
ثانيا: أساليب الشعر والكتابة في الديوان
- تعدد الأصوات في النص
من الخصائص المهمة لهذه المجموعة تعدد الأصوات، حيث يستخدم الشاعر تقنية تقديم الأصوات التكميلية لإنشاء نص تجريبي. الأصوات هنا ليست بالضرورة أصواتًا حوارية، ولكنها تمثل أشخاصًا (مثل الزمن والموت والنور) يتفاعلون مع الشاعر ويكافحون من أجل التأثير على تجربته. على سبيل المثال، في نص “دموع الموت”، يتحدث الموت وكأنه شخص حي يتفاعل مع العالم، فيقول: > “نفس الموت الذي رأيته بالأمس/ إيقاف المارة”. وهذا الفناء الضمني لا يجعل النصوص مجرد انعكاسات اجتماعية، بل بين الشاعر وعناصر الحياة التي تعتبر عادة مجرد تأملات. وهذا التعدد يعزز من تأثير النصوص، مما يمنح القارئ تجربة متعددة الطبقات.
.2تداخل الزمان والمكان
تعتمد الكتابة على تداخل الزمان والمكان في خلق الإيقاع الشعري. الزمن في النصوص ليس مجرد سلسلة من الأحداث، بل يتم تصويره كشيء يتجاوز الحدود الطبيعية. الزمن “يهرب” و”يتجاوز” و”يعود” و”ينحني” في هذه النصوص، مما يعكس فهمًا شاملاً للزمن كجزء من التجربة الإنسانية العاطفية والنفسية. المكان أيضًا لا يظهر كخلفية للأحداث فحسب، بل يتفاعل مع الزمن والشخصيات ليخلق تجربة معقدة، كما يظهر في نص «قطة تبكي في الفم الثلجي»، حيث يصبح الثلج رمزًا للعزلة والموت، بينما دفء الصباح يضفي على النص طابعاً حياً.
.3التكرار والإيقاع
التكرار أسلوب شائع في المجموعة، يُستخدم فنيًا لإعطاء النصوص صدى داخليًا. ولا يقتصر الأمر على تكرار الكلمات أو العبارات فحسب، بل يتجلى في موضوعات متكررة مثل “الموت” و”الظل” و”الوقت”. وهذا التكرار يخلق وحدة داخلية معينة في النصوص، حيث يكرر القارئ نفس المواضيع والرموز في كل نص تقريبا. وتكرار هذه الرموز يعطي النصوص شكلا دائريا، بينما تقاطع العناوين النصوص لتشكل بنية متماسكة.
ثالثًا: العلاقة بين الحياة والموت في النصوص
ومن أبرز المواضيع في المجموعة العلاقة بين الحياة والموت، إذ يتم تقديم الموت على أنه جوهر الحياة، وليس كحدث منفصل ينتهي، وفي نص “أكثر من موت عادي” يُصّور الموت ككائن حي يتحرك ويتفاعل مع الإنسان. ويعكس هذا التفاعل بين الحياة والموت وجهة نظر فلسفية ترى أن الموت ليس نهاية المطاف، بل هو استمرار للوضع الراهن، مما يدل على تأثير فلسفة الحياة على الشاعر.
رابعًا: التحليل النفسي للشخصيات والرموز
تتناول النصوص مشاعر الخوف والخسارة والعزلة التي تعيشها الشخصيات في مواجهة الموت والزمن، إذ تعكس هذه المشاعر الوعي الجماعي للبشرية بشأن مسائل الحياة والموت. وفي نص «دموع الموت»، تقدم الشاعرة موت الفتاة كلحظة مفاجئة وغير متوقعة، ناقلةً إحساساً بالخسارة يحدث في لحظة غير متوقعة. وتظهر رموز مثل “الظل” و”الزمن” و”النور” بشكل متكرر لتوصيل العقل الباطن للإنسان ومحاولاته فهم هذه المفاهيم المعقدة، كما يكشف الظل عن الوجود الغامض، والزمن يوحي بالهروب المستمر، والضوء يكشف عن البحث عن المعنى في وسط الظلام.
خامسًا: النقد الفلسفي في المجموعة
تحتوي النصوص على جانب فلسفي قوي، فهي تتناول موضوعات الوجود والعدم من منظور نقدي، ويُفهم الزمن على أنه كيان معقد ومتغير، في حين يتم تصوير الموت على أنه حالة ثابتة من الوجود تصاحب الإنسان. تضع هذه الرؤية الفلسفية النصوص في إطار نظري يتجاوز التجربة الشعرية البسيطة إلى مستوى فلسفي أكثر نقدية. وتظهر النصوص أن الشاعرة لا تهتم بنقل الصور الشعرية الجميلة فحسب، بل تسعى أيضًا إلى طرح أسئلة فلسفية حول الحياة والزمن والموت والوجود، تكشف هذه الأسئلة عن حيرة المرء في مواجهة هذه المفاهيم، وتبين المحاولة المستمرة لفهمها.
تحليل نماذج من نصوص المجموعة
الموت يدخن أيضا
جاري الفيتنامي،
صاحب متجر التبغ،
لا يدخن
كان يقول لي: توقفي عن التدخين،
ستموتين باكرًا.
كنت أرد عليه بعبارة لجاك بريل
: الحياة هي أيضًا الموت.
أمس، توفي نغوين،
وترك لي علبة سجائر كتب عليها:
الموت يدخن أيضًا.
يصف النص الموت بمخلوق يومي عادي يمارس فعل التدخين، إذ يقوم سرد النص على مزيج من عناصر غير مرتبطة في كثير من الأحيان (الموت والتدخين)، لكنه يقدم الموت بطريقة تخرجه من عالم التجريد وتضعه في الحياة اليومية في مجال الحياة. ويقارن النص بين طبيعة التدخين وكثرة الموت، وكأن الموت فعل يومي استثنائي، يزيل الخوف من الموت ويجعله جزءا من حياة الإنسان. ومن الناحية البنيوية، يخلق النص علاقة بين الحياة والموت ليس فقط من خلال المنطق المباشر، ولكن من خلال التشابه البنيوي بين الفعلين. يتم تصوير الموت هنا كعملية حية، مما يعيد تعريف العلاقة بين الحياة والموت كحالة من التداخل المستمر.
موت أكثر من عادي
يَستيقُِظُ الموُتُ من نومِهِ
مِن غيابِ قَطَراتِ النَّدَى
مِن صمتِ الماءِ
وارتِطامِ الصَّوتِ بالَّصَّدَى
يُطُِّلُّ بكاملِ شَهوتِهِ
يَعرُِفُ طَريقَُهُ إلََّيَّ
يَتَبَُعُ رائِحتي كَعاشِقٍ أليفٍ
نسي جسدَُهُ في سَريرِ نومِهِ
وجاءَ ليحتََّلَّ جِسمي
يَعرُِفُ تَماماً كَيفَ يُلاعُِبُ
حَّبّاتِ العِنَبِ الُمتَدَّليةَ مِن عُُنُقي
يَلعَُقُها حََّتَّى تَسُقُطَ مستسلِمَةً
في فَمِهِ..
يأُخُُذُ يدي مِّني
وبيدِهِ يَُشُُّدُّ على مِعصمي
يمتَّصُّ زُرقةَ السماءِ مِن تَحتِ أَظافِري
حََّتَّى تسُقُطَ أَصابِعي
تقوم عملية البنية النصية والكتابة على تحويل الموت من نهاية مأساوية إلى مشهد عاطفي رومانسي، إذ يصور النص الموت كعاشق يتبع الشاعر ويمد رقبته كما لو كان في حالة حب عاطفي. يعيد هذا المنظور صياغة العلاقة التقليدية بين الحياة والموت، مما يجعل الموت جزءًا من التجربة الحسية والعاطفية. ويعتمد الإطار هنا على كسر الحواجز بين الحياة والموت من خلال تصوير الموت كحدث حميم ومشحون عاطفياً. ومن منظور بنيوي، يعيد النص صياغة الموت كجزء من الحياة اليومية والعاطفية، مما يوفر فجوة بين ما نعتبره عادة نهاية، وما نعتبره استمرارًا. يعكس هذا المزيج فكرة أن الموت لا يعني الغياب، بل هو وسيلة للحضور المستمر.
طَعُمُ الصمِتِ
بالأمِسِ
ظننُتُ أَنَّ يدَكَ سَتَزرَُعُ قَلبي بالِّدفءِ
وأَّنَّ مَلمَسَ تِلكَ الرَّعشَةِ النّاعِمَةِ
التي مَرَّت بِرفقٍ بيننا
سَتضرُِبُ الصمتَ في عُُنُقِهِ حََّتَّى يَتَكََّلَّمَ
مَرَّرُتُ اسمكَ بالأَمسِ
على طَرفِ لِساني،
تَذََّوقُتُ طَعمَُهُ بِشَهوةٍ
حََّتَّى ذابت حُروُفُُهُ في فمي
فابتَلَعُتُُهُ..
البارِحةَ
حينَ انتبَهَ الفَجُرُ إلى لمعَةِ الضوءِ في أَعُيُننا
خَجِلَتِ السَّتائُِرُ وأشاحت بوجهِها
عَمّا ارتَكَبَتُهُ في السِِّّرِّ أَيدينا.
يبني النص علاقته بين الصمت والصوت بحيث لا يكون الصمت عديم الصوت، بل حقيقياً، ومن وجهة نظر بنيوية، الصمت في هذا النص ليس مجرد افتقار إلى اللغة، بل هو شيء مشبع بالمعنى. يتعامل النص مع الصمت ككيان مستقل يمكن سماعه، أو حتى تذوقه. يحمل الصمت في داخله معاني لا توصف، ولكن يتم التعبير عنها بطرق غير لفظية. وفي هذه الحالة يصبح الصمت شكلاً من أشكال الكلام. ومن الناحية البنيوية، يعكس هذا الإطار فكرة أن المعاني يمكن فرضها على الصمت تمامًا كما يمكن فرض المعاني على الكلام.
بشكل عام يمكن القول أن (الموت يدخن أيضاً ) هو عمل شعري يعتمد على الرمزية والاستعارة لتقديم صورة معقدة عن الحياة والموت، إذ تعرض النصوص بنى لغوية قوية واستعارات عميقة، مما يخلق تجربة غنية ومعقدة للقارئ. كما تعتمد النصوص على تقنيات مثل تداخل الزمان والمكان، وتعدد الأصوات، والتكرار لإنشاء نصوص متعددة الطبقات حول موضوعات فلسفية عميقة. ويعد البناء الشعري واللغوي للمجموعة من أقوى جوانبها، إذ تقدم النصوص بطريقة تجعل القارئ يعيد النظر في العلاقة بين الحياة والموت، والزمن وتقاطع الحياة. إن استخدام الشاعرة للتقنيات الأدبية يجعل من هذه النصوص أعمالاً ذات مغزى فلسفي مجازي.