فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

نصوص

نافذة

جميل مفرِّح

 

حيث تقع النافذة من الجدار، أكون حاضراً في غيابكَ القارس.. تُطلُّ مني لتطمئنَّ على ظلك المتروكِ على قارعة الشارع، وتحاول أن تتفحَّصَ المارَّةَ، تراقب عيونهم وأياديهم ولفتاتِ وجوههم.. تتخيَّلُ نفسكَ قابعاً في رؤوسهم، ثم تتذكر ما يجب أن يقال داخل وخارج كل رأس.. تضع يديك على كتفيَّ وتضغط ملياً عليهما مع كل خاطرة تستطيع إنجازها.. أشعرُ بتنميل في أجزائي، وأسترخي على غير عادة لهذا المساج غير المقصود.. وحين ألتفتُ لأشكرك، أجدُ من الصعوبة بمكان أن أصل إلى خيوط تخيلاتك العالية.. أنتظرُ، وأنتظرُ، علَّ أحدها ينهزم أمام عواصفك الثائرة بصمت، ولعله يتدلَّى باتجاهي، وإن كان على هيئة جثةٍ باردة.. غير أنك أكثر براعة من أن يغافلك خيطٌ واهنٌ من الذكريات..

*****

أحاول أن أشغلك بتحريك كتفيَّ، فلربما تجد الريحُ ولو ثقباً افتراضياً في انهماكك، تعبره وتبعثر ما صففت من مكعبات الذاكرة بداخلك.. أحتاجُ فقط لهزة خفيفة بقدر زفير أنف، يتسلَّل إلى مخابئك المظلمة كأحجية أزلية.. ذلك كفيلٌ بأن يعيدك إلى النافذة التي تتكئُ عليها، وينبهك بأن هنالك من يشاركك هذه اللحظة الثمينة، ومن تدفعه الحاجة واللهفة لأن يكون أكثر من مجرد نافذةٍ، تعبرها باتجاه نصفيك وزمنيك الضائعين في مساحة صغيرةٍ من الضوء والظل تشبه قطعة شوكولاتة بلونين.. أيهما في الداخل وأيهما في الخارج؟ ذلك ما لم تستطع أن تفصح به حتى اللحظة..!!

*****

هل أستطيعُ أن أظل زمناٌ طويلاً مجرد نافذةٍ مفتوحةٍ بينك وبينك..؟ ربما قد أستطيع ذلك ما دام بإمكاني أن ألامسك ولو لمرةٍ واحدةٍ كلَّ ساعة..

ولكن… هل ستحتمل أنت أن تحتفظ بحصتك من البرد ومن الصفعات المؤلمة التي تقتات عليها ريح كانون..؟ وهل ستستطيع قدماك أن تقاوما الارتجاف وحملك مزيدا من الوقت، وأن تنهرا الشيخوخة وهي تقترب منك بتسارعٍ مضاعف..؟ هل ستقاوم شفتاك الصمت الباذخ، وتظلان متعانقتين زمنا كافياً، لأن تبني فكرتك الرملية على هذا الشاطئ الذي يلعب بالريح كما لو كانت كرة مطاطية..؟ بل هل ستتمكن من التخلص من هذا الانشطار الآخذ في الاكتمال..؟

*****

الانشطار الذي علقتُ أنا -كنافذة- في المنتصف منه، دونما حاجة تلح أو سبب يذكر، ما يزال يجيد الاتساع، وأنت تراكم، مرة بعد أخرى، فشلك في أن ترفع يديك من على كتفيَّ، وأنا أئن باتجاه الداخل، داخلي، لئلا يخزك صوتي، أو يعيقك شيء من الشكاوى التي تتكوم هنااااك.. قد أنفجرُ في اللحظة التالية لهذه اللحظة، وقد أتمكن من حيازة ذرات أخرى من مورفين الاحتمال الذي تنبعثُ روائحُهُ من كل جزء فيك، وقد تنتهي اللعبةُ بيننا بتبادل المكانين..

عندها سأعلن عدم حاجتي لنافذة، وأفتحُ باب الغرفةِ، أو أقتلعه نهائياً، لا مشكلة.. وسأحرصُ على أن أمحو أي أثر لك على جداري، وكأنك لم تكن غير خاطرةٍ موجزةٍ، تركتها إيماءة امرأةٍ عابرةٍ.. لم أتمكن حتى اللحظة من التعرُّف عليها.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *