مصطفى ملح
*حفّار القبور
حَبْلُ الغَسيلِ يَصيرُ مِشْنَقَةً،
وحينَ يَموتُ حَفّارُ القُبورِ أَصيرُ تَوْأَمَهُ،
فَأَكْنِسُ عَظْمَةَ المَعْنى،
وأَنْشُرُها على حَبْلِ الغَسيلِ لِجارَتي،
حَتّى إذا ماتَتْ أَصيرُ وَريثَها،
فَأُقيمُ في الكوخِ الذي أَخْفَتْهُ في قَلْبي،
وحينَ تُخيفُني الأَشْباحُ،
أُغْلِقُ مَنْفَذَ الكوخِ الصَّغيرِ،
وحينَ تَقْتُلُني الحَياةُ،
أَرى ضَفيرَةَ جارَتي فَوْقَ السُّطوحِ،
ولا وُجودَ لِمِشْنَقَةْ!
*لا أوبّخ قاتلي
لأَنّي مُتْعَبٌ،
فَأَنا سَأَسْمَحُ للعَنادِلِ بِالغِناءِ نِيابَةً عَنّي!
بِوُدّي لَوْ أُلَوِّنُ عَتْمَةَ الأَعْماقِ،
لَكِنَّ الفَراشَةَ – جارَتي – سَرَقَتْ جُنونَ اللَّوْنِ،
وافْتَرَشَتْهُ فَوْقَ جَناحِها العاري!
أُسامِحُ إِبْرَةَ الخَيّاطِ،
والخَيْطَ الذي وَثِقَتْ بهِ،
وأَصابِعَ الخَيّاطِ وهْيَ تَجولُ باطِنَ جُثَّتي،
ومَشاعِري المُلْقاةَ بَيْنَ الخَيْطِ والإبْرَةْ!
*القنّاص
الحَيَوانُ المَنَوِيُّ يَمْتَطي بُوَيْضَةً في رَحِمٍ ما،
يَتَشاجَرانِ أَحْياناً وفي لُحَيْظَةٍ يَتَّفِقانِ،
تِسْعَةٌ مَرَّتْ فَأُخْرِجَ الجَنينُ،
صَرْخَةُ الميلادِ كانَتْ صَرْخَتي،
مَرَّتْ أَسابيعُ فَأَشْهُرٌ فَأَعْوامٌ،
وصِرْتُ راشِداً فَعاشِقاً فَوالِداً،
لَكِنَّني ما زِلْتُ في كُهولَتي أَصْرُخُ،
لَيْتَ الحَيَوانَ المَنَوِيَّ أَخْطَأَ البُوَيْضَةَ الحَمْقاءَ،
لَيْتَ والِدي كانَ مَريضاً،
لَيْتَ أُمّي لَمْ تَكُنْ في البَيْتِ،
لَيْتَ جَدَّتي كانَتْ يَمامَةً،
وجَدّي لَمْ يَكُنْ قَنّاصاً!
*الزّمن
كُنّا ابْنَ سَبْعٍ،
بِنْتُ جارِنا نِهادٌ.. وأَنا.
نَلْعَبُ، نَلْهو، نَسْتَريحُ فَوْقَ ظِلٍّ، نَقْطِفُ الأَزْهارَ مِنْ داخِلِنا، نَجْري، نَنامُ، نَسْتَريحُ، لا نَنامُ، نَلْمَسُ التّينَةَ، نَلْمَسُ الخَطاطيفَ التي تَعْبُرُ فَوْقَ رَأْسِنا، نَجْلِسُ فَوْقَ الظِّلِّ، شَرْقَهُ جَنوبَهُ شَمالَهُ، نَقومُ مِنْ جَديدٍ، نَخْتَفي بَيْنَ السَّنابِلِ التي تَصيرُ سَقْفاً فَوْقَنا، نَظْهَرُ، نَخْتَفي، نَجوعُ، لا نَجوعُ، يَهْبِطُ المَساءُ مِثْلَ فَرْوِ دُبٍّ شاحِبٍ، نَمْشي إلى بُيوتِنا..
وفي صَباحِ الغَدِ لَمْ أَجِدْ نِهاداً..
كَبُرَتْ، فَغادَرَتْ، فَانْقَرَضَتْ.
دَخَلْتُ مُسْرِعاً إلى البَيْتِ، فَراعَني وُجودُ ابْني
وأَحْفادي.. ولَمْ تَكُنْ نِهادٌ مَعَهُمْ!
*النّسر
تَنْفَصِلُ الرّيشَةُ عَنْ جَناحِ نَسْرٍ،
لِتُقيمَ في المَدى نِكايَةً بِهِ،
يَرى النَّسْرُ بِوادٍ جَسَداً يَزْحَفُ،
يَمْشي مِثْلَ طَلْقَةٍ إلَيْهِ،
يَغْرِسُ المَخالِبَ الجَوْعى بِجِذْعِ نَخْلَةٍ،
يَنْشَطِرُ النَّسْرُ إلى نِصْفَيْنِ،
كَيْفَ أَخْطَأَ الرُّؤْيا؟!
أَرى جُثَّةَ نَسْرٍ في فَمِ الوادي،
وفي الأَعْلى بَدَتْ ريشَتُهُ،
سابِحَةً في مَلَكوتِها الصَّغيرِ،
لَمْ تَعُدْ عابِئَةً بِمَنْظَرِ الدَّمِ الذي في الجِذْعِ،
أو بِذِكْرَياتِ النَّسْرِ يَغْشاها غُبارُ اليابِسَةْ!
_______________
*نصوص من “لا أوبخ تفكير الغابة- الفصل الثاني” من مجموعة “لا أوبِّخُ أحدًا” للشاعر، الصادرة حديثًا عن “منشورات مقاربات”.