فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

نصوص

مختارات

عبد العظيم فنجان

 

أعجوبة العجائب

إلى رشيد وحتي

عندما شاع الخبرُ: أنكِ عصيةٌ على التناول ، غامضة ، ولا يمكن الإمساكَ بلمحة ، لمحة واحدة ، من جمالكِ ، وأن الرسامين ، النحّاتين وروّادَ الخيال ، عجزوا عن تصوركِ ، وأنَّ كلَّ مَن جسّدكِ في صورة ، في أغنية ، أو في تمثال ، خرّ صعقاً من الدهشة ، إذ سرعانَ ما تتحرك فيه الحياةُ ، فتخرجين من الحجر ، دون أن يشعرَ ، ودون أن يتمكن من الإمساك بكِ .

عندما وصل خبرُ إعجازك فكّرَ الناسُ في اصطيادكِ ، بأن نصبوا مرايا كثيرة في كلّ مكان ، في الشرق والشمال والغرب والجنوب ، وعند النوافذ والأبواب والمداخل والممرات والشوارع ، ثم انتظروا ظهورَكِ ، ولم يخطر لهم أنكِ كنتِ بينهم ، تنظرين بإشفاق إلى التوتر الذي شلّ المدينةَ بأكملها ، وهذا ما حفّزكِ على أن تكسري التوقعات ، وأن تكوني أعجوبةَ العجائب ، فظهرتِ ورأوكِ : كلُّ واحد رآكِ في مرآته بشكل ، وكانت المفاجأة أنكِ لستِ غريبةً عنهم ، فكلُّهم يعرفونكِ ، وكلُّهم شاهدوك في أحلامهم ، كتبوكِ في أشعارهم ، وترنموا بجمالك في أغانيهم ، لأنهم كانوا بحاجة إلى أسطورةٍ تناغمُ حاجتَهم الداخليةَ ، فخرجتِ من كل مرآة ، مشيتِ عاريةً أمامهم ، ولم يتحرّكوا قيد أنملة ، فقد صعقهم النورُ ، نورُكِ الذي صنعته مخيلتُهم ، ولم يعودوا إلى حياتهم ، إلا بعد أن اختفيتِ ، إلا بعد أن صاروا يطيرون في الهواء ، كالمجانين..

 

أسطورة القلم المبارك

لم أنهزم. مازلتُ متقدَ الحواس : أهيمُ في حبكِ الناصع اللهفة ، الذي وُلِدَ مقتولاً ، وأنبهرُ طويلاً في ظهوركِ الغريب ، ظهورُك المباغتُ في حياتي ، كنيزكٍ يكتفي بأن يتوهجَ ، ليطلق العارَ ضدَّ القسوة ، وهو يشق طريقَه بين الكواكب ، فلا تصلني منه إلا ذرةٌ من الغبار، لأضيفها إلى ذخيرتي من الأوسمة ، التي لا يرى لمعانَها إلا من عاش في نسغ الشرارة ، ولم يلسعه من الدفء إلا الشجنُ ، الذي ظلّ يبعثه أغنيةً بعد أغنية .

كم أود أن أخبرك أن العراقَ قد ذبل ، كما ذبلت الزهورُ المرسومةُ على قميصي ، الذي أهديتِه لي ، قبل أن تطيرَ بكِ العاصفةُ بأجنحتها اللامتناهية ، مثلَ ريشة .

لم أرتدِ ذلك القميصَ ، إلا وأنا أزورُ مثوى العصفور الذي دفناه معاً ، في الشارع الخلفي ، من الجامعة .

لم أعرفْ لِمَ بكيتُ بغزارة ، أَم على العصفورِ ، أم عليكِ ، أم على نجاتي من الموت في خنادق الحرب والأصدقاء ؟!

أتعلثم الآن ، حين أخبركِ أنني لم استبدلْ عاداتي ، فمازلت أسكرُ ، أدخن بشراهةٍ ، وأقرأ الكتبَ الضالة ، لكنَّ الأهمَّ هو أنني ما زلت أكتب بقلم البصمة ، نفسُ القلم الذي سرقتُه من حقيبتكِ ، وتركتكِ حائرةً ، في الامتحان ، وأنا غارِقٌ في الضحك !

بنفس ذلك القلم المبارك أكتبُ لأخبركِ أن العاصفةَ قد دخلتْ من الباب ، وأن الأولادَ ، أولادَكِ وأولادي ، قد فرّوا من الشبّاك ، لأنهم شاخوا من الكراهية ، بعد أن تشبّعوا بالهروب من الأمل ، فيما أنتِ وأنا نكتب أشعاراً عن حب يضحكون منه : نرى إليهم ، دون أن نحرّك ساكناً ، يُشعلون أوراقَ قصائدنا ، فهي أكثرُ دفئا من شِعرِ هذا الزمان ..

مازلت أحمل القلمَ ، قلمكِ ، كـتَمِيمةٍ ، وأتمنى حقا أن أضمّكِ بحنانٍ ، بلهفة الغريق الذي وجد كمشةً من الهواء في رئة الموت ، أن أمحوَ شمس المنفى المرسومةَ على قميص قصائدكِ ، وأن أقول : لا تعبئي ، فنحن الأَوْلى بالخسارة .
مَن سوانا يستعذبُ هذه المشقّةَ ، ويشتعلُ من شدة الأسى ، وسط هذا الكوكب الظالم والمظلم؟!

 

الحب الذي يحيي الموتى

تذكرتكِ اليومَ ، وتذكرتُ العصفورَ الذي وجدناه ، مطروحاً بإهمال ، على العشب ، تحت الشجرة التي كنا نحتمي بكثافة عريها ، كلما أشرق برقُ يوعزُ بهبوب العاصفة ، أو كلما ضغطتْ حاجتُكِ إلى التدخين ، وإلى الغناء .

اعتدتُ ، كلَّ يوم ، على الاستيقاظ بشعور مَن عاد من كل المعارك خاسراً ، ولم يبق صدعٌ إلا ورسمَ وشمَه على الهيكل العظمي لحياتي ، لكنني تذكرتكِ حالَما استيقظتُ ، لأنني شعرتُ بالزائر ، عصفورُك الوفي ، وهو يخفق بجناحيه قربَ النافذة ، فأيقنتُ أنكِ ـ بعد سنوات طويلة من ذلك الفراق الشاق ـ تفكرين فيَّ هذا الصباحَ .

قديما ، ذات يوم ، كنا قد خرجنا من اللعب في غابة جسدينا مضمَّخَين بالعرق ، بالتبغ ، وبالفرح الغامض ، الذي يلي هذه التسليةَ المحفوفةَ ، دائما ، بالمخاطر ، وكان الانتشاءُ على أشده عندما انحنيتِ ، في ذلك النهار المشمس ، بضحكتكِ الطفولية :
ـ ” سأريكَ كيف أن الحبَّ يُحيي الموتى ”
وحملتِ العصفورَ بكفيك الواثقتين إلى صدركِ ، ثم همستِ له بشيء ما ، وقذفتِه ، بقوة ، إلى السماء ، فطار.

 

دليل الصحراء

وُلدتُ ، ورموني أهلي إلى النهر في سلة . كان يجب أن أقع في يد امرأة أكبرَ منكِ ، كي أكون ابنَها ، كما في السيناريو ، لولا أنني قابلتكِ ، على صفحة الماء ، تسبحين عاريةً ، فوقعتُ في حبكِ وكبرتُ ، فجأة .
تعرّفنا على جسدينا مبكِّراً ، حتى تهرأتْ الرعشةُ ، فضبطونا نسكن معا في تفاحتَي صدركِ .
كان أبوكِ يبحثُ عني ليذبحني ، لكنه فضّل أن أتعذب بالحبّ ، عندما سمع نحيبكِ ، فنفاني بعيداً ، إلى صحراء خياله .
كان الملاكُ الموكَّلُ برعايتي يبكي ، وأنا اغني ، فقد كان عليه أن يخترق الزمن ، وأن يعيدني إلى البداية : أولدُ ويرمونني أهلي إلى النهر في سلة ، ثم تبدأ قصة تعرفين نهايتها ، لكن ما لا تدركينه هو أنني الآن ، في هذه المتاهة مع شعبي ، أبحث عن رقم هاتفكِ في دليل الصحراء ، كي أغنّي لكِ عن لحظتنا في الوجد ، في الرعشة وفي الاشتياق ، وأنتِ تبكين ، ملطَّخةً بالرغبة وباللوعة..

 

أن تكون شاعرا

هل فتحتَ صفحةً من كتاب ، فابتسمتْ بوجهكَ امرأةٌ ، ولاحقتك ابتسامتُها المشعةُ ، من صفحة إلى صفحة ، ثم ـ حين أغلقتَ الكتابَ ، مرتبِكاً من هذه المعجزة ـ خرجتْ منه ، مثلَ موكب خرافي طويل من النساء ، لتجلسَ مكانكَ : تفتحُ ـ هي ـ الكتابَ ، فتبتسم أنتَ بوجهها ، من صفحة إلى صفحة ، مذهولاً ، ومتعدِّداً مثلَ أطوارِها ؟

هل هاجرتَ وراءَها إلى هناك ، ثم عدتَ ، خالياً منها ، إلى هنا ، وعلى كتفيكِ حفنةٌ من غبار اللؤلؤ ، و تنهداتُ النجوم ؟

هل شاركتَ الملاكَ نحيبَه الطويلَ ، أو سكرتَ مع الشيطان ؟
هل رأيتَ المطلقَ في قلب امرأة ؟!

هل سجدتَ للحب ، الذي يُعلِنُه الهديرُ الذي يجرف اللؤلؤَ ، وهو ينحدر مع موسيقى نهديها ؟
هل جُننتَ من هذا ؟!
هل داهمكَ اليأسُ ، ولاكتكَ الحيرةُ بأسنانها اللامعة ؟

هل رميتَ رأسكَ من أعلى الجبل ، ووقفتَ قروناً ، في الأسفل ، بانتظارِه ؟

 

المهمّة

عندما تشعرُ أنكَ قد هُجِرتَ ، فتعيشُ منزوياً في الركن الأقصى من العالم ، معتقداً أنكَ لم تعد صالحاً للحب ، أن قلبكَ قد فقد توهجَه ، وخسرتَ نورَكَ .
عندما ينبجسُ ، فجأة ، وجهُ ملاك ، وأنتَ في عزلتكَ ، حاملاً إليكَ أمراً بإكمال المهمة ، مع قلبٍ آخر ، في روحٍ أخرى ..
عندما تكتشف أن القلبَ الإنسانيَّ ضيقٌ جداً أمامَ الوجود ، وأن الحريةَ رايةٌ لا تسقط بسقوط قلب حاملِها في لجة القنوط ..
عندما لا تعرف كيف تكتب بكلمات بسيطة عن أعجوبة الحب ، وهو يأتي ، محمولاً على ريشة الهواء..

 

أسطورة سارق الكتب

كان يجول المكتبات . يتشمّم الكتبَ ، من كتاب إلى كتاب ، ثم يشتري منها ما يعتقد أنه متوافق مع حاسته الباطنية . أحيانا يسرقُ كتابا لا يملكُ ثمنه ، أو يعجز أن يقاضيه بما يملك ، وقد شوهد ، أكثر من مرة ، يمشي عاريا ، دون ثياب ، منتشيا بما يحمل من الكتب .

كانوا يعتقدون أنه يأكلها ، يأكل الكتب ، لكنه لا يفعل ذلك ، بل كان يتلفها بطريقته الخاصة : يصفها بطرق مبتكرة ، يصنع منها بيوتا ، وينتظرُ أن يخرج أحد أبطالها ، كي يشاركه سرّه الصغير ، ولمّا لم تحصل مثل هذه المعجزة صار يدفنها في العراء ، كل كتاب على حدة ، ثم يواصل زيارتها ، ليتأكد من أن أبطالها ، واحداً منهم على الأقل ، قد عادت إليه الحياة ، بعد أن دفنه المؤلف ، دون رحمة ، بين السطور ، فالتراب أكثر حنانا من عديمي المواهب .

كان يبكي ، بحرقة ، عند الغروب ، إذا كانت هناك امرأة جميلة ، قد تركها المؤلف تخسر في الحب في كتابه . وذات مرة أقسمَ أن مراهقة فاتنة قد نادته : ” أنقذني من الاختناق ” ، وأخرجها من التراب ، لكنها لم تحتمل حنان عينيه ، ولا رقة قلبه ، فهجرته ، لأن روحه أجمل من أن تطاق ، ولم يأبه بذلك ، فينبوع خياله أوسع من أن تغلقه حصى صغيرة ، كما أنه كان أسير فكرته عن امرأة بعينها ، لم يجدها في الواقع ، فلجأ إلى الخيال ، بحثا عنها ، حتى داهمه اليأس ، فصار يضرم النار في الكتب ، حين لا يجدها هناك ، وكان يجلس هادئا أمام حرائقه ، وهو يشاهد الأبطال ، الوزراء وقادة الجيوش ، يتحولون إلى دخان .

لم يكن سرّه الصغير معروفا عندما اختفى ، فجأة ، فافتقدته المكتبات العامرة ، خرج أصحابها يبحثون عنه ، والتقوا في الطريق بأصحاب مكتبات فقيرة ، وبآخرين كان يشتري أو يستعير منهم الكتب ، ثم انضم إليهم قرّاء كان يحدثهم عن كتب تؤدي إلى التهلكة ، عن كتب تخصّب الحياة والخيال ، وعن كتب أخرى ، لم تُكتب بعد ، من الممكن أن تعيد إلى الإنسان ذاكرته الأولى ، يوم كان يعيش مع الحيوان والنبات بوئام ، ويوم كانت المرأة هي سيدة العالم .
كان الموكب ، الذي يتألف من هؤلاء ، يسيرُ محفوفا بهواء الكتب ، وهو يدور في الأزقة ، في الحانات ، في المقاهي ، وفي العراء ، بحثا عنه ، ولعدة أسابيع ، شهور وسنوات ، حتى أعجزهم البحث ، فتفرقوا في المدن والبلدان وفي الزمن ، وهم يبشرون بالكتاب الأفضل الذي لم يُكتب بعد : كتابه الذي بحث عنه طويلا ، والذي يحتوي على قصة امرأة تبحثُ عن عاشق الكتب ، الذي مات شهيدها ، فيما هو يقرأ عنها في مخطوط ، في قبو مهجور ، لم يعرف أحد أين يقع.

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *