فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

الأدب الرقمي ورسائله المشفرة للعالم.. قراءة في نص ل صدام الزيدي

فتحية دبّش*

الذات الشاعرة حين تتوحد بأوجاعها-

أفتح خزانة الليل
وأخبِّئ فيها جراحاتي
لكن يداً تمتد
لتنثر عند هذا الحائط
مواجع القلب
يدٌ من رمادٍ وضوء…
(صدام الزيدي)

___________

تروق لي جدا هذه النصوص القصيرة جدا و التي تنفلت من معايير النقد تارة و تذعن له طورا.
كثيرا ما قرأت للكاتب اليمني صدام الزيدي، و كثيرا ما تساءلت عن درجة الوعي التي بها يكتب ما يكتب…
فنصوصه من الخوارق تشكيلا و تدليلا…
هذا النوع من القصائد القصيرة جدا، و التي تجمع بين تقنيات هي من الحرفية بمكان، حيث يفيض التدليل على التشكيل و تنسدل على الحروف عشرات المعاني و الرسائل المشفرة للعالم.
ليس للنص عنوان، خاصية لعلها ستصبح من خصائص الأدب الرقمي بامتياز، حيث الكاتب يذعن للحظة ارتقاء روحاني و يصّاعد وعيه إلى اللاوعي
فتتداخل العوالم، و تفقد العتبة مدلولها و وظيفتها، و كأن بذلك محاكاة لسيكولوجية انسان العصر الحديث الذي وحده خُلعت كل دروعه و اقتحمته الآفات من كل صوب بين حروب، و لجوء و تقوقع و تشظ و غيرها من صنوف التيه الوجودي المتربص به.
فإذا كان الانسان هكذا بلا واق و لا راد للآفات، فماهي الفائدة من العناوين للنصوص؟
إن لحظة انفراد الكاتب بشاشته هي لحظة انكشاف للذات، وحده أمام همه و شاشته و يبدأ اندلاق الوجع و انهماره…
و لعلها واحدة من سمات الأدب الرقمي حيث يقول الكاتب النص لحظيا…
و يصور حالته و هو يلقي بحميميته على الشاشة، و بضغطة زر يهدي نفسه للقارئ الذي هو أيضا في لحظة تلق ينفرد فيها بذاته و بجهازه…
نص من ستة سطور، احتوى على أربعة أفعال (أفتح، أخبئ، تمتد، تنثر)
أفعال تحيل القارئ إلى تقاطبات الإنفتاح و الإنغلاق،
فالذات الشاعرة فاعلة (أفتح)، تمتلك الوعي بالفعل و تقدم نفسها في مشهدية واقعية يعمد فيها إلى إعادة (الليل) كوحدة زمنية محورية في أدب البوح بحيث أن الليل هو لحظة انزواء تأوي فيها الذات للذات و بالتالي تحيي الهواجس و المواجع بعد أن قتلتها حركة النهار و جلبة السعي السيزيفي لممارسة ما يشبه الحياة…
و هنا إحالة على إشكالية سيكولوجية البوح، فالليل دليل على السواد/opaque/العتمة/الستار… و حين فيه تنكشف الجراح تظل حميمية، يخفيها الليل عن فضول الآخرين، على عكس النهار الفاضح للإعتمالات النفسية و الذهنية.
يفتح الشاعر (خزانة الليل) و فيها (يخبئ جراحاته) و حين يستأنس إلى الستر تمتد (لتنثر عند هذا الحائط
مواجع القلب
يد من رماد و ضوء)…
حالة أخرى من حالات التشظي، من الكل (أنا) إلى الجزء (اليد) و لكنه وجدانيا يتعدد، و يبتعد عن ذاته و يعبر عنه الشاعر باستخدام الأنا في البداية و استخدام ضمير الغائب في النهاية…
تحضر الذات الشاعرة حين تتوحد بأوجاعها و تغيب حين تنفصل عنها و تنثرها على الحائط الفايسبوكي…
أليس النقر على الشاشة فعل بوح؟ أليس النشر المباشر بوحا؟ أليس في كل ذلك هروب من مواجع الذات و بحثا عن احتواء الآخر/المجهول للأوجاع و بالتالي التخفيف منها؟
و ما قيل في هذا النص يصلح لكثير من الأدب الرقمي الذي أنتجته الحرب و اغتراب الذات فكان تصويرا دقيقا لأزمة الوجود الجديدة …
شكرا لحرفك الموجع الذي يصلنا فيطربنا وجعا…
_________________
*كاتبة وناقدة تونسية تقيم في مدينة “ليون” الفرنسية

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *