فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

ناجي العلي.. الوطن والفن في الممارسة السياسية (3-1)

قادري أحمد حيدر*

 

الإهداء: إلى هاشم علي، رائد الفن التشكيلي اليمني فنانًا، وأخلاقًا، وإنسانًا

1- سنوات التكوين:-

كان في حياته قضية خلافية، أثار من الأسئلة والقضايا، والرؤى، والمواقف، ما جعل أطرافاً عدة تقف منه على الضد، وفي ميلاده واستشهاده ومكان قبره كذلك أثار من الخلافات والمواقف الكثير.*
كتابات كثيرة بكته ونعت رحيله المبكر باستشهاده النبيل، جميعها أجمعت على الفنان فيه، وعلى الرؤية والموقف الإنساني في سلوكه وتصرفاته على أنها جميعاً لم تتفق على تحديد سنة ميلاده، بعضهم يدونها عائدة إلى العام 1936م وأخرى إلى 1937م وثالثة إلى 38م ،
ولناجي ثلاث ولادات، الأولى: في قرية الشجرة في فلسطين قبل النكبة بعشر سنوات، والثانية بميلاده طفلاً بعمر عشر سنوات بالتمام والكمال مع ميلاد حنظلة في 13 تموز/يوليو 1969م، والميلاد الثالث في 22يونيو 1987م يوم اغتياله الأول قبل استشهاده ويوم 29/8/1987م يوم اغتياله الثاني شهيداً برصاصات الغدر الأول الذي استحال إلى ذكرى ميلاد أسطورية جديدة. أعيد ترسيمها باعتبارها يوم ميلاد آخر على عكس ما أراده القتلة ومن يقفون خلفهم.
سنوات تكوينه– بعد العاشرة- ارتبطت بالنكبة الفلسطينية /العربية بالاحتلال الصهيوني. ومنذ ذلك الحين 1948م توحد بالمخيم، صار المخيم هو العنوان، والمكان، والقضية، والهوية البديلة المؤقتة، فكثيراً ما يختصر الفلسطيني بالمخيم، والخيمة، واللجوء، والمنفى؛ والشتات، ولعل المخيم أكثرها رمزية، ودلالة للتعبير عن الحالة الفلسطينية، وعن المأساة الفلسطينية، أكثرها التصاقاً في الإشارة إلى معنى التشريد، والاجتياح، والشتات والقتل، والاغتيال، واغتصاب الأرض، حتى صار المخيم – واللاجئ – يشير مباشرة إلى الفلسطيني، بالقدر الذي يشير إلى معنى الثورة، والحرية، وعدم القبول بالأمر الواقع الذي قد يذهب ضحيته وطن كامل – كما يتراءى أمام أعيننا – بدءاً من قرار التقسيم إلى دولتين، 49% 51%، وإلى 22% لم يقبل بها الإسرائيلي وصولاً إلى دولة لا ندري ما هي ملامحها؟ وأين تبدأ ؟ وما هي حدودها ؟ وأين تنتهي؟ – ولا ندري المفاوض الفلسطيني على كم تفاوض بعد ذلك مما تبقى؟ – فهي حتى الآن ما تزال محكومة بحدود المخيم واللاجئين ، وفي أحسن الأحوال إلى باب الحكم الذاتي الذي يدخلك أبداً إلى الباب الكبير للمستوطنات كما رسمها ناجي العلي في إحدى رسوماته الكاريكاتيرية المعبرة.

لم يكمل دراسته وتعليمه، سوى إلى السنوات الأولى من التعليم العام، على أنه ثابر وتابع ذاتياً تعلمه الذاتي الخاص حتى أصبح بعد ذلك مدرساً أو معلماً لفن الرسم في الكلية الجعفرية في مدينة صور الجنوبية، في سني طفولته المتأخرة وبداية المراهقة السياسية وبداية الشباب تعلق بالمسرح، والنص المسرحي في صورته الأولية، ودخل أجواء المسرح، حباً، وتمثيلاً، وقادته الصدفة البحتة إلى فن الكاريكاتير والعمل الصحفي، وفي ذلك يقول “في البداية كان همي أن أعبر عن ذاتي بالرسم، وكان همي أن يكون الفن التشكيلي وسيلة وصولي إلى مستوى هذا التعبير، واكتشفت فيما بعد أنني استجيب أكثر للرسم الكاريكاتيري، أو بتعبير آخر توصلت إلى قناعة مفادها: أن أحفر مجرى لحياتي من خلال رسم الكاريكاتير، ووجدت فيه سلاحي الجيد”()
من أسرة فقيرة جاء، لها تاريخ في المقاومة يمتد إلى تاريخ الثورة العربية الأولى في فلسطين. ومن قلب مخيم عين الحلوة بدأ وعيه السياسي يتشكل، عين الحلوة كانت رمزا للنكبة، ومع المخيم اكتمل ذلك الوعي السياسي على حقيقة وفكرة مقاومة الاحتلال، والاستبداد والتخلف، وفي السياق والمقام عينه، رسم صورته الأولى كفدائي، ومقاوم في صورة طفل في العاشرة يقول ناجي محدداً اسمه وهويته ” الإسم حنظلة، – اسم الأب مش ضروري – اسم الأم: نكبة – تأريخ الولادة : عام النكسة – نمرة قدمك : ما بعرف لأني حافي – جنسيتك : أنا فلسطيني .. مش أردني، .. مش كويتي .. مش لبناني .. مش مصري .. مش حدا .. باختصار معيش هويه ولا ناوي اتجنس .. محسوبك إنسان عربي وبس ” وهي المفردات التي حددت هوية ناجي العلي باعتباره طفلاً فلسطينياً/عربياً ، مقاوماً من أجل حق العودة إلى وطنه رافضا الشتات والمخيم ، ذاكرته الأولى تشكلت في قلب النكبة والمخيم وهو طفل في العاشرة ، وعند سن العاشرة أُوقف عمر حنظلة ولم يتجاوزه حتى استشهاده النبيل ، واختيار سن العاشرة تحديداً ، له معنى ودلالة كبيران ، معنىً حياتيٌ ، وعمري ، فالعاشرة هي سن قادرة على الاحتفاظ بذاكرة ما كان ، وهي كذلك ذاكرة لا تنسى ما بعدها من سنين لاحقة ، وهو عمر طفولي تأسسي لما بعده ، ومن هنا في تقديري معنى اختيار العاشرة سنة بداية ، سنة التأسيس واعتبارها جزءاً من حالة مقاومة لا تنتهي إلا بانتفاء صورة المخيم واللجوء والشتات ، .. حالة بطولية ، وحول هذا المعنى وهذه الفكرة يقول ناجي العلي ” في مثل هذا السن خرجت من فلسطين ، وعشت تجربة المخيم ، حيث بدأ وعيي السياسي والحياتي يتفتح على القهر والفقر ، والتوق إلى الحرية والعودة إلى الوطن ” – إلى أن يقول – رسمت هذا الصبي – يقصد حنظلة – وجعلته بطلاً في لوحتي يومياً ، ليبقى بمثابة ذاكرة دائمة لي ، تحذرني من الانجراف في آلية المجتمع الاستهلاكي ، فأخسر روحي .. كنت أشعر أن هذا الطفل يتميز بتقاسيم وسمات تحفظ روحي وتقوي أواصر ارتباطي وعواطفي مع الجماهير التي كنت أعشقها ، وأشعر أني مرتبط بها .. لذلك فقد اعتدت أن ارسم تلك الشخصية صباح كل يوم حتى أصون روحي من التشرذم في تلك الصحراء (…) خفت أن أتوه ، أن تجرفني الأمواج بعيداً عن مربط فرسي .. فلسطين ”
لم يكمل ناجي العلي دراسته ، وتعليمه مثل الكثيرين من أقرانه من الأطفال الفلسطينيين ، واعتمد التثقيف الذاتي من جامعة الحياة ، آخذاً المعاني والأفكار من كتاب الحياة الملقى على الطرقات ، ونهل من رفوف المكتبات ، ودخل إلى المعرفة والفكر والثقافة بقوة وشغف ، وذلك ما عمق خياره الثقافي والفكري ذا الصلة العميقة بالناس ، وحياتهم ومصالحهم المادية المباشرة ، والهموم الكلية الإنسانية ، لم يأت ناجي للفن والرسم ، والصحافة من الوسط الأكاديمي ، والثقافي المجرد ،..، دخل إلى كل ذلك من قلب المخيم ، ومن قعره الغائر في أعماق حضور الناس ، والمخيم هنا ليس مستوىً واحداً ، ففيه كل ذلك التنوع الذي تزخر به الحياة في كل مكان .
من المخيم خرج ناجي العلي وقبله غسان كنفاني ، كما خرج أصحاب الكروش المتدلية من الخلف حسب أحد تصويراته الكاريكاتيرية ، وكذلك خرج منه قتلة ناجي نفسه . المخيم عالم فسيح واسع متنوع ، مليء بالمفارقات والمتناقضات ، على أن السمة الجوهرية له الثورة والمقاومة ، وكانتا الحرية والعودة ، هما عنوانه الكبير.
بقي حنظلة الطفل دون وجه ، وظل عمره كله يبحث عن وجهه ، يبحث عن فلسطين ، .. ، فلسطين هي ذلك الوجه الغائب ، أو الضائع وقد تعمد ناجي العلي إخفاءه في اللوحة ، وجعله بدون وجه ، وكأنه لا يريد أن يرى من حوله والعالم بدون فلسطين وحين يكتمل الوجه – فلسطين – يعود الوجه إلى اللوحة ، الجميع يتكلم عن فلسطين القضية والمأساة ، وهو السؤال الذي يتجول في مدارات السياسة إلى عناوين متعددة ، ومع ذلك بقي وجه حنظلة في الصورة غير مرئيٍ ، غائباً ، ضائعاً ، تقرأ وتحدد خطوط الطول والعرض الفلسطيني كما تشاء في غياب الوجه الذي تحول ضمن تحولات معادلة الزمن في السياسة الجارية من قضية صراع فلسطيني وعربي/إسرائيلي ، إلى صراع فلسطيني/إسرائيلي إلى قضية نزاع فلسطيني/إسرائيلي ، إلى قضية مخيمات، ومفاوضات وتسويات أضاعت ما تبقى من صورة الوجه الفلسطيني في الذاكرة ، وصولاً إلى تحولها إلى قضية معابر ، وكهرباء ومياه ، ورفع حصار عن غزة بعد الانشقاق الفلسطيني الفلسطيني ، إلى ضفة وغزة . كانت الخيمة والمخيم في حياة ناجي العلي رمزاً للقضية الفلسطينية ، والثورة ، والمقاومة ، والخيمة في حياته وفنه ، بعد ذلك عنت له الكثير ، أليس أعظم دلالة على هذا المعنى الذي حمله ناجي في نفسه للمجتمع وصورته في نفسه ، أن طلب في وصيته دفن جثمانه في مخيم عين الحلوة ، وليس في لندن ، بعد أن أصبح متعذراً دفن جثمانه في قرية الشجرة في فلسطين.

يكفي الإشارة هنا أن أول رسمة ولوحة تنشر له وأدخلته إلى الحياة الفنية وإلى فن الكاريكاتير كانت لوحته ” خيمة على هيئة بركان ” ، وهي اللوحة الأولى في حياته ، بعد سلسلة لوحات تركها على جدران الشوارع ، والمساكن ، والبيوت في المخيم ، اللوحة التي نشرها غسان كنفاني في مجلة الحرية العدد ” 88″ العام 1961م السنة الثانية ، وقال عنها غسان كنفاني معلقاً عليها: ” صديقنا الفنان ناجي لا يجد خيراً من الكاريكاتير ليعبر عما يرتجف في نفسه ، وقد لا يعلم – ناجي نفسه- أن الحدة التي اتسمت بها خطوطه وأن قساوة اللون الراعبة ، وأن الانصباب في موضوع معين يدلل على كل ما يجيش في صدره بشكل أكثر من كاف(…) وهو يحمل إلينا قصة فلسطين، لا ما حدث فيها ، ولكن ما يجب أن يحدث ، لكي يعود الذين شردوا من ديارهم إلى خير الأرض والوطن” .
وهي أول رسمة لناجي أدخلته عالم فن الكاريكاتير ، رسمة تصور خيمة على هيئة بركان بعدها بدأ ناجي يوقع رسوماته الكاريكاتيرية تحت إسم ناجي وكانت في الفترة 1963م ، ثم اختار في فترة لاحقة عنوان الصليب كرمز للفداء ، والافتداء والتضحية ، مع اسم ناجي أو بدونه ، وبعد هزيمة حزيران 1967م تحديداً منذ العام 1969م اختار ناجي رمزه حنظلة/الطفل الذي رافقه حتى لحظة استشهاده.

يمكن القول: إنه مع حنظلة الطفل في اللوحة اكتملت بصورة نهائية صورة ناجي العلي الفنان والمثقف ، ليس أي مثقف وكيفما اتفق ، بل ذلكم المثقف العضوي النقدي الصارم والصادق الذي يقول ما لديه دفعة واحدة ، دون تقسيط ، ونقطة على السطر ، تلك سجيته ، وذلك طبعه ، ولا يستطيع لهما تبديلاً ، إنها الحالة أو الشخصية التي تبلورت ملامحها ، ونضجت طيلة سنوات تكوينه الأولى (سنوات النكبة ، والمخيم ، واللجوء ، والمنفى ، والشتات ، والاجتياح ، والاغتيال) سنوات الذاكرة والذكرى والمأساة الممتدة في الزمن العربي الفلسطيني ، الذاكرة التي تشكلت معجونة بتراث الشعب الفلسطيني ، وفنونه وآدابه ، وحكاياته ، وأشعاره ، مواويله وأزجاله ، وأمثاله التي تمفصلت وتوحدت في كيان ذاكرة ثقافية وروحية مقاومة ، على خلفية ذخيرة سيكولوجية واجتماعية وتأريخية ، هي من يحمل روح وراية المقاومة في فلسطين وكل المنطقة العربية . فالتراب الفلسطيني أو كل التراب الفلسطيني حسب تعبير ناجي العلي ، سيبقى فلسطينياً ، وقضية عربية أبداً.

2- ناجي وفن الكاريكاتير:
أ- فن الكاريكاتير:
في تقديري أنه من المهم ونحن نتحدث عن ناجي العلي وفن الكاريكاتير، أن نقدم فكرة حول هذا المبنى والمعنى، والشكل والمضمون الذي نسميه الكاريكاتير .
في البدء يمكن القول إن الكاريكاتير ظاهرة تاريخية ، ظاهرة قديمة ، بعضهم يعيدها إلى بداية الحياة الواعية للإنسان ، بداية تأريخه الحي المدون على الجدران ، والمعابد ، والمقابر ، ظاهرة يمكن العودة التأسيسية لها إلى الرسوم داخل قبور الفراعنة ، وتحديداً الرسوم خارج القبور، ظاهرة مارسها الفنانون كطقوس دينية في البداية،وباعتبارها عملية نقدية لواقع الظلم الواقع على الناس خارج دائرة القبور والمقابر الفرعونية . المهم أن الظاهرة ارتبطت بحالة من النقد . ويؤرخ لنشأة وظهور الكاريكاتير –بالشكل الذي نتحدث عنه اليوم – إلى أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر ، إذ بدأ معهما ظهور فن الكاريكاتير السياسي ، ويمكن القول إن فن الكاريكاتير ، هو فن الحرية ، فن الانطلاق ، فن النقد ، فن الفرد الحر المبدع المتحرر من القيود ، فن العقلانية والمدنية ، فن التنوير ، وبذلك هو وليد نجيب ونبيل للرأسمالية الأوروبية الصاعدة ، سليل الثورة ، والإصلاح الديني والتنوير ، إبن شرعي لعصر الأنوار ، ويرتبط بالآلة الحديثة ، والمطبعة بقدر ما هو منتج رأسمالي صناعي، نتاج الثورة الصناعية العلمية وهو كذلك منتج له صلة بالجماهير ، وبالرسالة المكتوبة التي تحملها الجماهير ، وفي هذه المرحلة ظهرت المانفيستوهات “البيانات ” الأيديولوجية الكبرى ، والرسوم الكاريكاتيرية السياسية الناقدة للحالة الرأسمالية ، وانعكاساتها السلبية على أوضاع الناس ( العمال والفلاحين ) اتسعت معها ظاهرة النقد الفكري ، والسياسي وبالعودة إلى كتاب البيان الشيوعي لماركس ، سنجد أن طباعاته الأولى احتوت رسوماً كاريكاتيرية نقدية ساخرة من الأوضاع الاقتصادية والسياسية في ذلك الحين .
وحول هذا المعنى لنشأة فن الكاريكاتير يقول الباحث والناقد التشكيلي محمد الأسعد ” مع أواخر القرن الثامن عشر بدا الجو مهيَّأً لظهور الكاريكاتير السياسي بفعل ثورتين ، الثورة الصناعية والثورة الفرنسية ، ووجد فن الكاريكاتير بين يديه وسائط تمكنه من الإنتاج على نطاق جماهيري ، كما وجد اهتماماً عاماً بالسياسة موضوعه الجديد .””
ويرى البعض أن المصدر اللغوي لمفردة الكاريكاتير الذي تحول بعد ذلك إلى مصطلح ، يعود إلى جذور اللغة الإيطالية .
ومن المهم ونحن بصدد الحديث عن فن الكاريكاتير والرسم ، أن نحدد الفرق النوعي بين الفن التشكيلي ، وفن الكاريكاتير ، باعتبارهما شيئين وعالمين مختلفين عن بعضهما البعض ، من الدور ، والوظيفة ، وساحة التلقي (الجمهور ) .
الفن التشكيلي فن إبداعي نخبوي ، تعبيري تجريدي بالمطلق ، يتوزع أو يحتوي الأشكال الفنية التالية : فن النحت ، الرسم أوالتصوير (الزيتي) ، الجرافيك.

فن نخبوي تحتفي به القلة المثقفة في الغالب ، فن بعيد عن الممارسة السياسية المباشرة ، روح النقد فيه لا تُرى بسهولة ، بحاجة إلى عين فنية ناقدة ، وعقل مثقف . فن لا صلة له بالعمل الصحفي .
أما فن الكاريكاتير فهو فن جماهيري واسع الانتشار ، هو فن البسطاء والفقراء ( المعترين ) حسب تعبير اللهجة اللبنانية ، فن يتوجه للجميع ، نخبة مثقفة ، وناس عاديون ، وأشباه متعلمين ، فن ذو صلة بالهم السياسي والحياتي المباشر للناس ، الكاريكاتير حالة أو ظاهرة اجتماعية ولكن يصنعها فرد حر مستقل ، وهو فن يتجه للسلطة بالنقد ، وللناس بالتحريض والتعبئة ، والكاريكاتير اليوم في الغالب فن ناقد متمرد ، رافض ، فن ساخر يقدم في رسوماته ضحكاً كالبكاء ،
فالكاريكاتير يكاد يكون هو العمل الفني الوحيد الذي يجمع في وقت واحد بين الضحك والبكاء ، فالسخرية والنقد غالباً ما يكون مبعثهما الألم أو الفرح، أو- السخرية – محاولتان لتجاوز لحظة ألم ، أو شيء من عبث الحياة ، يقول صلاح جاهين: “أنا أرسم من أجل أن أعبر عن شيء ، وإذا ابتسم القارئ لما أقوله بالرسم يكون الكاريكاتير جيداً ، وأكون قد نجحت .. أما إذا لم يضحك ، فأكون قد نجحت بدرجة أكبر “”
وهو تأكيد أن – لا السخرية ولا الإضحاك هدفان بحد ذاتهما ، قدر ما يحملانه من رسالة وقضية وفكرة ، وتخلو جميع كاريكاتيرات ناجي من الإفراط والمبالغة في الإضحاك .
ويقدم شيخ الرسامين الراحل زهدي العدوي تعريفاً للكاريكاتير بقوله: “هو أن تقول في رسومك ما تتمنى الجماهير أن تقوله “”
وفي جميع رسومات ناجي العلي الكاريكاتيرية لم يتعاطَ مع النقد والسخرية ، والضحك كضرورة ، بل باعتبارها فضاءً للحرية وهنا تتجلى قيمة فنه الكاريكاتيري وخلوده باعتباره فضاء حرية مفتوح يمكن لمن يشاء توظيف رسومه الكاريكاتيرية في نقد التخلف ، الاستبداد والفساد والطغيان .
الكاريكاتير هو ممارسة للفن في أعمق تعبيراته ، هو الهزل ، أو السخرية الناقدة، المفكرة والحادة ، كما هي عند ناجي العلي ، فن الكاريكاتير كان أداته ووسيلته الكفاحية في الدفاع عن نفسه وعن فلسطين ، وعن كافة الشعوب العربية ووسيلته في الدفاع عن القيم الإنسانية الكبرى ، والكاريكاتير حقيقة فن صعب ، وجاد ، وهو فن ملتزم ، على عكس ما قد يتبادر إلى ذهن البعض .
الكاريكاتير يجعل الضحك طريقا للتفكير العميق
ويشترك الفن التشكيلي وفن الكاريكاتير في عدة سمات أو خصائص :
عقل فنان مبدع،
عين بصيرة ومبصرة غائرة في دقائق التفاصيل الحداثية والإنسانية،
يد حاذقة مهنتها ومهمتها إعادة تركيب خطوط الواقع والشخوص وخلق حياة بديلة في قلب اللوحة .
الفن التشكيلي وفن الكاريكاتير ، الاثنان يشتغلان بالرسم والخطوط وفن الرسم عموماً الجامع بينهما ولكل منهما خصائصه وأدواته.
يلتقيان في أنهما يحملان رسالة تنويرية وثقافية وسياسية ، وأخلاقية وجمالية ، الفن التشكيلي يمارس هذا الدور والمهمة عبر عملية توصيلية معقدة ومركبة ، والآخر بصورة مباشرة وبسيطة ، وتأثيره مباشر وسريع
كلاهما خرِّيج كلية الفنون الجميلة من حيث الدرس الأكاديمي ، حيث يتم التخصص في درس الكاريكاتير في كلية الفنون كمادة مستقلة شرط حضور الموهبة في الاثنين.

الأداة والوسيلة الوحيدة في فن ناجي العلي الكاريكاتيري هو الحبر الأسود على الصفحة البيضاء .أي أنه يشتغل بالحبر الأسود ليعيد إنتاج معادلة الأسود والأبيض في اللوحة ،- على عكس غيره من فناني الكاريكاتير الذين يستخدمون الألوان – والشيء المهم، الواجب إيضاحه في فن الكاريكاتير أنه فن يجمع بين العمل الفني والصحفي ، وحتى الإخراج الفني للصحيفة أو المجلة ، وكثير من فناني الكاريكاتير يشتغلون في تصاميم الديكورات المختلفة .
وهنا ينتصب سؤال هو: هل حالة الفصل بين الفنان التشكيلي ، وفنان الكاريكاتير مطلقة وقاطعة؟ مع أننا أشرنا إلى السمات والخصائص المشتركة فيما بينهما وهي في الحقيقة صفات وسمات أكثر مما تم حصرها.

وهنا يمكن القول: إن الفنان التشكيلي يمكن أن يكون في الوقت ذاته فناناً كاريكاتيرياً جيداً أي يمكن أن يخرج من الفنان التشكيلي فنان كاريكاتير كبير ، ولكن في تقديري أنه من الصعب أن يخرج من فنان الكاريكاتير فنان تشكيلي كبير ، وحالة الجمع بين الفنين في ذات فنان واحد موجودة وقائمة وهناك أسماء عديدة ، في مسيرة وتاريخ الفن العربي والعالمي تؤكد ذلك.
على أن الجمع الخلاق في ما بينهما هو الأمر المتعذر ، وحالة الثنائية هذه بين التشكيلي ، والكاريكاتيري ، تذكرني بحالة الذات المبدعة القابعة بين الشاعر والناقد ، لا بد أن يأتي الإبداع والتميز في إحداهما على حساب الآخر ، فالجمع الخلاق في كليهما في تقديري أمر صعب إن لم يكن متعذراً ، هو نفس الأمر وإن بمستويات ودرجات مختلفة نجده قائماً في ثنائية التشكيلي ، والكاريكاتيري . علماً بأن الكاريكاتيري لا يخلو من التعبيري والتجريدي والتشكيلي.
ولناجي العلي الفنان أعمال تشكيلية جميلة ، نحتية ، وتصوير زيتي ، ويمتلك ناجي العلي ثقافة تشكيلية عميقة بشهادات العديد من نقاد الفن التشكيلي ، ومبدعيه من فنانين تشكيليين وإن ليس بالدرجة ذاتها التي اشتغل عليها كفنان كاريكاتير .
إن من يترك خلفه أكثر من أربعين ألف رسمة كاريكاتير يعني أنه أعطى كل وقته وفنه لذلك الفن ، وإن كان دخل للكاريكاتير من باب الفن التشكيلي وإن لم يكن قد اكتمل في هذا المجال ومن هنا ارتبط اسمه بفن الكاريكاتير. وهو مدخلنا للفقرة التالية.

——————–
=الهوامش:-

* الاقتباسات والاستشهادات غير الموثقة حيثما وجدت جميعها مواد مأخوذة من الانترنت.

ناجي العلي، نقلاً عن كتاب ” ناجي العلي، الشاهد والشهيد ” ص 31 منشورات دائرة الثقافة والإعلام الشارقة، تقديم وإعداد د.عمر عبد العزيز 1997م.

2- محمد الأسعد “مجلة الآداب البيروتية ص 71 العدد سبتمبر وأكتوبر /2002م السنة الخمسون.
3- نقلاً عن كتاب د.محمد كروب (شخصيات وأدوار في الثقافة العربية الحديثة ) ص 171 ط أولى 1987م مؤسسة الأبحاث العربية، النص مأخوذ من حديث صحفي لصلاح جاهين.

4- محمد بغدادي، كتاب (كاريكاتير حجازي فنان الحارة المصرية) من المقدمة ص 18 المركز المصري العربي ط أولى 1995م.

_________________
*قادري أحمد حيدر: كاتب وباحث يمني

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *