أحمد الفلاحي
يعدّ هاني الصلوي تجربة متميزة في الشعر اليمني والعربي الحديث، فهو يأخذ النص الشعري إلى فضاءات أخرى بعيدًا عن التقليد والصور الرتيبة. إذ يشكل هذا الشاعر مدرسة حداثية متفردة تتيح للدارس والمتلقي على حد سواء فرصة الاستمتاع والتلذذ بعبق النص واهتزازاته.
أفضل نموذج يمكن دراسته من نصوص الشاعر للبرهنة على ما قررناه آنفًا أو رصدناه، هو نص “وصية ليس كمثل قالوا البنات” المنشور في مجموعته السابعة “الأخيرة”، وأعني مجموعته “رقبة مسالمة تخرج من تحت أظافري” المنشورة عام 2016. حيث يشكل النص ملحمة من القلق الوجودي والتناقضات: الحياة، الموت، الزمن، والمكان وتذبذب الرؤى. وهذا التذبذب يولّد خلخلة في ذهنية المتلقي لكسر نمطية تلقي النص.
من القراءة الأولية للنص، نجد أن المرحلة الظاهرية “التي ما تلبث أن تتكشف” ترتبط بشكل وثيق بالمؤثرات الخارجية، مثل شكل النص البصري وهندسته التركيبية وعنوانه. سوف أبتعد عن العتبات النصية والقراءة البصرية للنص والتعالق النصي وأكتفي بتحليل الخطاب وبنيوية النص. يكفي القول هنا إن النص بشكله البصري وتشكيل البياض يمثل لوحة متزاحمة بالسواد.
العنوان “وصية ليس كمثل قالوا البنات” مغاير تمامًا لجميع العناوين المألوفة لدى أغلبية الشعراء، وهي عادة يتفرد بها الصلوي في عنونة قصائده ومجموعاته الشعرية. فالعنوان جملة تحمل بين طياتها حالة وجودية تبدو مكررة؛ فكلمة “وصية” تدل على وجود مرحلة فراق آتية بعدها إما موت تام أو ابتعاد الموصي مكانيًا عن المُوصَى. وإضافة عبارة “ليس كمثل قالوا البنات” إلى وصية، هذه الإضافة كسرت حدة الإيحاء الدلالي لتلك المفردة وأوجدت شحنة دلالية زمكانية أوحت بالعودة إلى مرحلة الطفولة والمراهقة بوصفهما زمنًا، وإلى المهد “موطن الشاعر الأول” بوصفه مكانًا.
يستهل الشاعر النص بالتسويف: “سوف أترك لكِ حينما أنفق تجاعيدي كلها”، حيث لم يتطرق الشاعر إلى الموت بصورة مباشرة، بل أشار إلى تقادم العمر الذي يأتي الموت كنهاية حتمية لذلك التقادم، متحدثًا عن التجاعيد الدالة على الزمن المعاش، وهو مرحلة زمنية ليست بالقصيرة. “لتوزيعيها على المنحدرين من النهر”، النهر الذي يرمز للحياة والتجدد والاستمرارية، النهر المرتبط بالتعميد بالمفهوم الديني في التراث المسيحي، “المنحدرون من النهر” نهر الشاعر الذي جعله أصلاً وجذرًا لتلك السلالة. بدأ الشاعر بتفصيل تجاعيده “سنوات عمره” وتوزيعها، ثم أسند لكل واحدة شكلاً ولونًا وحالة: “الحادة” التي ستكون سكيناً تقطع أيادي لصوص العسل، “المدببة للنحيفات” خوفاً على أجسادهن من الاصطكاك، “السهلة للمصطافين، المحمرة للغرقى، المحدثة للجدات، الملساء لعازف البيانو المكتئب، القصية للمطلقات، القهوية لأبناء الفأرة سهام، اللواتي سيتبعنني إلى اللحد للمشيعين، البدائل لأشجار السنف والبنج البلدي، المستعجلة للخيالة”.
حرص الشاعر على اختيار شكل ولون وحالة كل تجعيدة (مرحلة عمرية) وأسند لكل تجعيدة ما يوافقها. فمثلاً، السهلة للمصطافين، المصطافون الذين يعيشون حالة ترف ويحبون الحياة السهلة، المحمرة للغرقى بوصفها وجبة ساخنة تذهب عنهم عناء الغرق وبرودة الماء، المحدثة للجدات اللواتي يطمحن بعودتهن إلى سن الشباب أو البقاء أحياء لفترة أطول، القصية للمطلقات ليمنحهن زاوية قصية بعيدًا عن الظلم الاجتماعي، القهوية لأبناء الفأرة سهام الذين كثيرًا ما ترسلهم سهام إلى بيت الشاعر في طفولته ليقترضوا بعض القهوة ومتطلبات المطبخ.
لون الشاعر تجاعيد هذه المرحلة بلون القهوة “سنوات غبراء” تدل على القحط والتصحر، وأرفق لفظة الفأرة بجارته التي تتصرف كالفأر الذي لا يترك شيئًا إلا وقضمه.
“اللواتي سيتبعنني إلى اللحد للمشيعين”، وهب تلك التجاعيد الأخيرة للمشيعين الذين في العادة سيتحدثون عنه بنميمة أثناء الجنازة، كأنه لم يترك لهم شيئاً عقوبة على النميمة.
إن استخدام الشاعر للفظة “التجاعيد” – ووصفها – بدلاً من “السنين” وإسناد كل مرحلة عمرية “تجعيدة” لفئات المنحدرين من النهر، جعلت للنص هندسة تخيلية تشير إلى عدم عفوية النص، ونعد ذلك ميزة لا عيباً. كما أن الشاعر استخدم بلا وعي أسلوب الدالة الجيبية ”sin x” في الرياضيات، التي تأخذ شكل الموجة المنطلقة من القيمة الصفرية إلى أعلى نقطة وهي الواحد، ثم تعود إلى الصفر وتنحدر إلى أدنى قيمة. هذه الانقلابات تشير إلى الإيقاع في النص الذي حدث على مستوى الدلالة لا اللفظ.
للنص جانب نفسي يتمثل بحالة القلق من الموت، قد لا يكون موتاً حقيقياً، مما يعني أن مناخ النص يشير لفترة كتابته، وهي فترة زمكانية كان الشاعر شبه منفي عن مكان إقامته المعتادة، بمعنى أن هناك اغترابًا قسريًا. هذا التوجس داخل النص أبرز رغبة الشاعر بالعودة إلى المهد أو اللحد، واستدعى كل مراحله العمرية كـ “فلاش باك” ليرى من خلاله، بوصفه محتضراً، كل مراحله وأحداثه القديمة.
ويمكن تفكيك النص إلى أربعة محاور هي:
1. تشظي الذات الشاعرة التي اعتمدت الحوار مع الآخر، والمنحدرين من النهر، وكل الشخوص في النص.
2. العودة إلى الماضي، والصراع مع الحاضر والمستقبل، والرؤية المكانية التي تتداخل مع تلك الأزمنة.
3. التناقضات والنفي وعدم التأكد، وهو مبدأ فلسفي كأنه يمثل نظرية الشك الديكارتية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التضادات اللفظية والدلالية.
4. التسويف والحركة الدراماتيكية التي تشكلها الأفعال في النص، كأفعال الأمر والماضي.
في النص، هناك وحدات دلالية وقضايا وأفكار عن الموت والحياة، عن الماضي والمستقبل والحاضر، وهناك صور وتراكيب تمثل متوالية هندسية تتعاقب لرسم مدى واسع للمتلقي وخلق بيئة تجعل القارئ جزءًا من النص، فيتعايش مع كل تلك المراحل.
نستطيع القول إن معجم الشاعر هاني الصلوي اللغوي وحقوله الدلالية وأسلوبه المميز في بناء النص، ينم عن وعي كامل بالحداثة ودراستها بعمق. كما أن استخدامه لفعل الأمر بتلك الحرفية يدل على وعي الشاعر بمدى تأثير هذا الفعل بعد “سوف” على ديناميكية النص:
“سوف أدع أنفي على برتقالة البيت للمراقبة”.
يستخدم الشاعر الانزياح الدلالي للفضولي الذي يدس أنفه في كل شيء، فيصبح الأنف كبيرًا بحجم برتقالة، أو وضعه على مقبض الباب الكروي الذي يأخذ شكل البرتقالة ويراقب من خلف ثقب الباب… “سوف أترك قفاي لتضليل الشرطة ودعاة الموت الرحيم وشهادة وفاتي”. مفردة “قفاي”، ويقصد بها المؤخرة، تدل على انحراف وشذوذ الشرطة والأطباء وكتاب المحاكم الذين لم يحترموا عملهم ومهنهم التي يجب أن تكون خدمية.
انحني ــــــــــــــــــ بذكاء مفرط
تجلدي ـــــــــــــــــ كما يليق بوصية
ارقصي ــــــــــــــــ في العزاء
كل فعل أمر هنا يقابله مغايرة للفعل… “قولي لهم: عاش يحب أيوب طارش عبسي وجبريل والثلاثة الكوكباني”. هذا السطر يخبرنا بالكثير، كأنه يفصح عن حالة الشاعر السياسية والدينية والعاطفية. فأيوب طارش يمثل لوناً غنائياً عاطفياً ووطنياً، ويمثل تركيبة سكانية كبيرة في اليمن وهو من نفس مدينة الشاعر. الثلاثة الكوكباني يمثلون لوناً غنائياً آخر ومنطقة جغرافية وسكانية مختلفة، أي أن أيوب والثلاثة الكوكباني يمثلون اليمن بكل اختلافاته.
أما جبريل، والذي أفضل أن يقصد به الشاعر “جبريل حامل الرسالات”، فيدل كل ذلك على أن الشاعر يريد القول: أحب هذا الوطن بكل تنوعاته، وأحب الفن، وأؤمن بكل الرسالات السماوية.
ظل الشاعر يحب ذلك الوطن لا يقاسمه شريك “إلى أن انفجرت امرأة في قلبه عجز الحكماء عن شفطها منه…” “انفجرت امرأة في قلبه”.
صورة مدهشة في غاية الانسجام، تدل على الانفجار العظيم الذي يشبه الانفجار الكوني Big Bang وتشكل الكون آنذاك. لكن هنا تكوّن الكون الآخر الذي أراده الشاعر؛ فالمرأة سر الحياة، والقلب مكمن الحب، والرجل المكمل لهما، ثلاثية الديمومة التي تعني بالنزوع الإنساني. فقد استطاع الشاعر أن يقولبها بقالب جميل ليبعد عن أن تذهب تلك الصيرورة، حيث عجز الحكماء عن شفطها منه.
عني معجم الصلوي باليومي، وهو يرافق الأحداث المعاصرة، بدليل هذه المفردات: الانفجارات، شفط الدهون، الشظايا، الإرهاب، الرصاص الحي… ثم يدخل الشاعر في محور العودة إلى الماضي:
شب وهو يرعى القيقب ــــــــــــــــــــــ ألقمته العزلة.
افتتح حياته ــــــــــــــــــــــ يكمن لأعقاب السجائر، يشتري بها فضول العذارى.
أحداث غالبًا ما مرّ بها الجميع، لكن الشاعر استخدم تلك الصور والمجازات لرسم تلك المرحلة بحلوها ومرّها، منتقلًا إلى مرحلة التناقضات:
- العدل: ألا تلتفتي أبداً … حب مستحيل
- الوردة: ألا تبلغي العطر
- النشيد: ألا يصل الصوت
- فمي: ألا أكون ثرثارًا
- الحلاج: أن أحتاج مزرعة للدلافين
- الحصان: سيرها راجلة
- الكتب: للأرصفة
حملّيهم أبناء النهر دمي واطلبي الثأر: “أخبريهم أنه جنى على نفسه بالتطير وهو يجني الزهايمر في الأساطير والملاحم… مات فُولد فمات فمات فمات فمات فمات، فعاش.”
يختم الصلوي نصه بثنائية الموت والحياة، وهي الصيرورة الأبدية التي جعلت من النص وحدة عضوية تراجيدية، بدءًا بالعنوان وانتهاءً بعبارة “فعاش”. يمكننا إذن القول في الختام: إن الشاعر الصلوي خلق نصًّا إبداعيًّا صبّ فيه كل خبرته الكتابية والإبداعية لرسم لوحة رائعة، قلّما نجد مثلها، وملأها بكل التفاصيل.
(ميدل ايست ونلاين)