عبد الباري طاهر
وجدي سارد حداثي. امتلك الأداة الأساس للسرد (اللغة)، وموهبةً وأفقاً واسعا للخيال؛ فهو يملك أسلوباً للتعبير بمهارة وحذق.
يمتاز المبدعون اليمنيون الشباب بالإجادة في الإعلان عن النفس في لحظة النضج.
منذ أن بدأت القراءة للقاص الشاب وجدي الأهدل أدركت مدى تمكنه في فن القص، وسلامة لغته: مفردات، وتراكيبَ، ودقة أدائه، وسعة خياله، وهو يمتلك سخرية فطرية.
قَصَّهُ – منذ البدء – يتجاوز الصيغ التقليدية للقص «الموباساني»، و«التشيكوفي» القائم على البداية، والوسط، والحبكة، والعقدة.
سَرْدهُ الروائي -أيضاً- يتجاوز- أو هكذا بدأنا نقرؤه- الصيغَ التقليدية للسرديات الكبرى القائمة على الصراع: البطل الإيجابي، المنحى الإيجابي للصراع، وانتصار البطل، أو النهاية السعيدة كما عند بجدانوف.
في روايته (أرض المؤامرات السعيدة) يتجاوز الصيغ التقليدية القائمة على السرد الطولي الممتد؛ فهو يلجأ إلى التقطيع كعمل يومي ابتداءً من الثلاثاء في الرواية، وانتهاءً بنفس اليوم، متمرداً على الحبكة الدرامية، مازجاً في سرده الشيق بين مستويات مختلفة من الواقعي، والأسطوري، النظري المجرد، والواقعي، الخيالي والرمزي، والحقيقي. شخوصه متنوعة ومتعددة بتنوع وتعدد واقع منطقته تهامة .
أرض المؤامرات السعيدة تبدأ السرد من لحظة مجنونة عندما كلفه رياض الكيَّاد- والتسمية تتسق أو تندغم في التسمية (أرض المؤامرات).
يكلفه الكيَّاد بالنزول إلى تهامة (الرحم الولود لليمن وللمآسي والأحداث) كترميز السارد. وتكون البداية باغتصاب شيخ قبلي نافذ، وهي طريقة انتهجتها الرواية الفرنسية، وبالأخص أميل زولا أحد أهم رموز الواقعية السردية.
ضمير المتكلم عمدة السرد، وتزخر الرواية برصد المقدمات الأساسية لثورة الربيع العربي في اليمن.
في بلد قصي ومنفي يشكو كبار علمائه ومفكريه وأدبائه من التجاهل والإهمال، ابتداءً من العلامة الجغرافي الكبير صاحب (صفة جزيرة العرب) أبو محمد الحسن بن أحمد الهمداني، مروراً بالشوكاني- لا أقول: إن العالمية أتت إليه على طبق من ذهب، بل د ق أبوابها بإبداع سردي مائز، وبشجاعة إبداعية قل نظيرها، وبمحنة هزت ضمير سارد عالمي كبير حائز على جائزة نوبل، إنه الروائي الألماني جونتر جراس صاحب (الطبل الصفيح)، والمواقف الإنسانية الرائعة، والأعمال السردية الكاثرة.
كتب وجدي العديد من القصص القصيرة، والأعمال الروائية التي تُرجم معظمها إلى العديد من اللغات الحية: الإنجليزية، الفرنسية، والإيطالية، وله أكثر من مسرحية وسيناريو ومقالات صحفية وأدبية في العديد من الصحف والمجلات العربية والدولية، وهو على تواضعه وخجله الشديد كثير الوثوق بإبداعه الذي يحرص ألا يقدمه إلا مكتملاً ومتقناً.
أصدر وجدي روايته (قوارب جبلية) في عام 2002؛ فكانت القنبلة التي كشفت طبيعة الأوضاع بفسادها واستبدادها وعلائقها الطائفية والسلالية والقبلية.
غضب عليه الحاكمون واتهموه بتهم أدناها يكلف وضع رأسه تحت قدمه. هرب إلى دمشق وعانى في غربته الويلات فقيراً ومُجرَّمَاً.
زار جونتر جراس الأديب الألماني صنعاء، فتظاهر المنافقون بالاحتفاء به؛ لإقناعه بأن اليمن واحة الديمقراطية، وبلد احترام الأدب والفكر من رأس الدولة وحتى آخر موظف.
رُتِّبَ للأديب الألماني زيارة لرئيس القصر- أبي الأدباء والمثقفين والرواة-، وكان الكمين المعد منح جراس وسام الإبداع. رفض جراس القيام لاستلام الوسام، وطلب من الرئيس التوجيه بعودة الروائي اليمني المنفي، واضطر صالح للسماح بعودة وجدي، ووقف الحملات في وسائل الإعلام والمساجد ضده.
هناك مجلد ضخم يضم بين دفتيه عشرات ومئات المقالات المخونة والمكفرة للروائي، أما حملات خطباء المساجد فحدث ولا حرج!
أكد صالح بالعفو عن وجدي أنه كان يدير الحملة بإصبعه. أتمنى على العزيز السارد المبدع أن يشتغل على هذا الملف الخطير؛ لأنه يؤكد أن (قوارب جبلية) بطل أحداث جسام شاهدة بأحداث الأعوام اللاحقة، وكانت الرواية أحد أهم بشائر الربيع العربي.
تحدثت مع الأستاذ تمام باشراحيل رئيس تحرير صحيفة (الأيام) بالاهتمام براوية (أرض المؤامرات السعيدة)؛ لأن صحيفة الأيام لها حضور كبير في أرض هذه المؤامرات؛ فقد استشهد مراسلها سامي قاسم، وكانت الأيام بطلة الدفاع عن الحريات المدنية، وفضحت الاغتصاب وزواج الصغيرات ومن يقف وراءهما.
والرواية أول عمل إبداعي يكشف أن شيخ القبيلة الأمي والمجرم هو المغتصب. واغتصاب الفتيات يرمز في دلالته وبُعده الأخطر إلى اغتصابَ اليمن كلها.
الرواية المدهشة بشخوصها وأبعادها ودلالاتها تحتاج إلى أكثر من قراءة، وإلى قراءة تغوص في حداثة أسلوبها السردي؛ فالسارد يستخدم أكثر من صيغة، ابتداءً من خطاب ضمير المتكلم، وصولاً إلى الرؤيا المنامية التي تتكرر أكثر من مرة، وقد وظف المنام في السياق العام للأرض السعيدة بمؤامراتها.