إدريس زايدي :
الشعر وجهة أخرى للرحيل
في ديوان “العصافير لا تكترث بما يحدث” للشاعر عبد الغني المخلافي .
سياق الشعر عند الشاعر عبد الغني المخلافي
إن ديوان “العصافير لا تكترث بما يحدث” للشاعر عبد الغني المخلافي، هو الديوان الرابع بعد: للوجع مكان في عينيه وأبواب ليس لي إغلاقها وفخ على شكل قصيدة . وديوان “العصافير لا تكترث بما يحدث” بني على ستة عناوين: إهداء فمدخل ثم جيش من المؤنسات ووميض خافت والعصافير لا تكترث بما يحدث ثم منفى آخر.
إن الديوان على حجم سبع وتسعين صفحة، بما يعني أن توزيع الكلام يحمل دلالة، وكأن شكل التوزيع يحمل معناه، قد يعود للدفقة الشعورية والحال. وهي التي يعلن عنها الإهداء المكثف بداية، حيث يقول” إلى أوقاتي الغارقة بالدهشة ” والمُهدى له زمن مضمخ باندهاش أوقات الشاعر …، ولعل الكلمات تكشف دلالة هذه الدهشة، كما يبين ذلك المدخل القصير جدا بقوله الشعري:
لا عداوة بيني وبينك أيها الألم
أوقف مدّك المترامي
دعْني أُفرغُ منك
ولو لبعض الوقت
هكذا يتوحد الإهداء والمدخل في طرح إشكالية الزمن( أوقاتي- بعض الوقت)، على اعتبار أنه زمن شعري ونفسي ما دام بناؤه مجردا تصويرا، يتحدد بذات الشاعر الثقافية، وهو ما سيعكس نوعا من الصراع الدرامي قوامه أساليب تخرج عن دلالتها الحقيقية إلى ما يقتضيه الحال، في عناوين : جيش من المؤنسات – وميض خافت – العصافير لا تكترث بما يحدث – منفى آخر. وهي أربع قصائد منها قصيدة بعنوان الديوان. ويضم كل عنوان لفظا يربطه بالأخرى( جيش- وميض – لا تكترث – منفى).
ومن خلال هذه الألفاظ يتحدد سياقات القول الشعري، وكأننا أمام وحدة المقول في كل الديوان، يعود على حال الشاعر المنفلتة من الإعلان عن الزمن ليغوص في أسئلة الوجود بما هو علاقة بين الذات وما حولها، والتي تجعل من موضوعات الوجود أدوات لتمرير الذات نحو القبض على وضع تستأنس به، هو (جيش من المؤنسات) والتي لن تكون غير الكلمات الشاعرة. بهذا يتحقق العود إلى الشعر كمفهوم محايث للوجود عند الشاعر عبد الغني المخلافي، وجود شعري جاء عبر مقاطع تتنامى عبر تدوير الفعل الشعري، والذي انطلق من الذات الشاعرة(جيش من المؤنسات)ليعود إليها في (منفى آخر) فيتحول الأنس إلى سجن ونفي، وهذا سيسمح للشاعر بأن يتحقق في فعل الدهشة المعلن عنها في الإهداء ككلام جواني لن يبرح الذات المتكلمة. وهذا سيعمق لدى الشاعر مفهوم الشعر حيث المعنى يهرب منه. ولما كانت القصيدة تحمل فورتها، تنبسط الحروف والكلمات والعبارات في لبوس لغة المجاز الحيّ، الذي يأبى أن يشبه ظلّه الذي يهرب باستمرار، وكأن يقين الشاعر في لا جدوى البحث عن الزمن من خلال الفعل أو المكان. إنه زمن يمتد في الكلمات وبالكلمات.
ومن خلال هذا التقديم السياقي يمكن تتبع الديوان عبر مستويات ثلاثة، يتعلق الأول بحداثة القول، والثاني بالحس الدرامي وفشل المجابهة ، أو التيه والضياع من خلال (العصافير لا تكترث بما يحدث)، والثالث بشعرية اللغة بين الرصد والصدّ .إضافة إلى ما يتخلل النصوص من لعبة التقديم والتأخير في الجملة الشعرية
الذات وحداثة القول الشعري
وأقصد بحداثة القول ما تميّز به الديوان من قلق المرحلة، وهي سمة الشعر المعاصر الذي يتوهج بأسلوبه غير المطمئن لحال ثابتة…فالشاعر عبد الغني المخلافي في ديوانه يبحث عن وضع للذات في سياق أسئلة العقل، الذي به يحدد كلامه الشعري جاعلا من الحرية مسلكا للربط بين الموجودات التي يراهن على أن تشاركه تأملاته وتستجيب لرؤياه، فهو يبحث عن سبيل لإخضاع الحال لمقاييس العقل والنفس. وليس له غير لغته كأداة معجمية تمارس حقها في التمرد على المعنى، إذ أن كل عبارة أو مقطع يخفيان سيلا من النبضات التي تأبى أن تكتمل، وكأن اللغة سيل من هذا الوجود المنفلت … يقول في أول قصائد الديوان (جيش من المؤنسات):
أعود تاركا ثرثرة الشوارع خلفي
على عجلة أغتسل
أرتدي ثياب الكلمات
هذا المقطع يؤكد واقعا اجتماعيا من صفاته الثرثرة، والثرثرة كلام غير منظم ولا يحمل معنى، لذلك يغادره الشاعر فيغتسل ليرتدي لغته المنظمة، هي لغة الشعر. هكذا يقيم بالاغتسال سدا بينه وقيم المجتمع التي لا تحمل دلالة المدنية في شوارع المدينة . وبين هذا الحد يلبس لغة العقل التي يؤكدها بالانفصال والاتصال في آن. ذلك القول الشعري الذي سيحرره من لغة لا تحمل مدلولها . وكأن الشاعر يهرب من لغة ثابتة إلى أخرى تلتمس حركتها في حرية المجاز. وكأن الشعر عنده يقاوم بالبحث عن أسئلة المعنى الذي يعتقد وجوده في الهامش، لكن ثرثرة الشارع لم تسعفه أن يجد للحياة معنى، فيعود إلى الاحتماء بالكلمات، كجمال قوْليٍّ وفني قادرٍ على التخفيف من وطأة المعاناة والألم، جاعلا من لحظة الماضي بابا لتذكر ما كان يمتلكه ( قبل اليوم كان لكْ) من لحظات الفرح مع جيش المؤنسات ( كمنجة – سحابة – انتصاب القامة – خمر- الأغنيات – فاكهة الشعر – غزال – طائر يشدو ) في قوله :
قبل اليوم كان لك
جيش من المؤنسات
كمنجة، سحابة
انتصاب قامتك في وجه الريح
خمر الأغنيات
وفاكهة الشعر
غزال في مروج البنفسج
وطائر يشدو بأحلى النغم.
ولعل مفهوم الحداثة ينزع نحو اللغة البسيطة، لأنها ترى أن الشعر هو ما تعلق بلغة مفهومة تكتسب جمالها من عمق المعيش اليومي والبسيط . لكن الشاعر لا يستحضر هذه اللغة إلا ليؤكد جرحا عميق لم يندمل، كما يوضح قوله( قبل اليوم كان لكْ) وهي عبارة تخفي عمق الألم الذي صرح به الشاعر بداية.
الحس الدرامي وفشل المجابهة : أو التيه والضياع
إن التأمل في القاموس يهتدي بيسر إلى معاناة الشاعر ، فهو الهباء الذي يطارد الوقت ، فهو على غرار شعراء العصر الحديث الذين لا يطمئنون لحال، فكان القلق الوجودي والحزن والتيه والشعور بالاغتراب غذاء لأشعارهم، يقول :
أتطاير كالغبار خلف ظهر
الوقت المنصرم
على أرصفة الليل
لا شيء يلملم أحزاني المتناثرة
في متاهات من الحيرة المترامية
والصفعات القاسية من الغربة
أعود متعثراً
فالشاعر يحمل أجوبة الانكسار لأسئلة مرفوضة على ظاهر اللغة، الأسئلة التي تكررت كلازمة تؤسس لرغبة البوح المتمنع رغم ظاهرية الكلام، وهو ما يشكل عالم الشاعر الذاتي في كثير من المقاطع في الديوان، وقد استلهم الشاعر من السرد ما يجعل القصيدة تتوالد تحقيقا لفعل الكلام وكأن القصائد تعلن انشطار الذات وتمزقها ، بين فعلي(أتطاير وأعود )، ويوضح ذلك بنيات النصوص التي تشي بأنها مكونة من مقاطع يجمع بينها الشرخ الذاتي في محاولة لإيجاد معادل شكلي لتشظيها ، بدءاً بالذات والمكان والأزمنة كطقوس احتفالية بالحزن الذي يخيم على الجملة الشعرية، وكأننا بصدد أغنية مستبدة وقاهرة والتي صيرت شاعرنا سندبادا تائها في دورة لا يعرف منتهاها ، حين يقول في قصيدة ( وميض خافت)
أنوي الذهابَ إلى أقاربٍ..
أتراجعُ خِشْيَةَ شَكْواهم
وارتفاعِ ضغطِي .
ثم يستأنف السير في معانقة المخاطب المفترض والذي يعيش في عالم الشاعر الحالم ، ما دامت المخاطب افتراضا لا يتجاوز انكسار الذات من خلال الفعل المضارع : أنوي – أتراجع – أخلع– أغتسل – آخذ – ألهث – أروض- أداهم– أهرب – أنسل – أطلق – أراقب …
وهي كلها أفعال تحيل على معنى مرجعية ومنها تتكون مرجعيات أخرى لغوية في خارج الذات التي كبلتها الحرب، يقول:
ألهثُ فِي كتابٍ إلكترونيٍّ
حسبَ مِضمارِ القراءةِ
أروضُ السليقةَ
أداهمُ الفكرةَ بلغةٍ مِطْوَاعَة
إلى أن يقول:
أهربُ مِنْ لُغةِ الحربِ
إلى شِعرِ محمدِ الماغوطِ
ورياضِ الصالحِ الحسين
وأعمالِ دويستويفسكي
هكذا تشكل العزلة حربا في الذاكرة والذات ، بين جحيم جدار الغرفة والرصاصة الساكنة في الجمجمة … وهذا سيمنح النص الشعري نفسا مقطعيا، وتسلسلا سرديا كما في القصيدة، حيث يتنازع الشاعر لغة الشعر التي تمتد في رحلة العذاب…
ولقد اسعف شاعرنا لغة السرد بما هي سفر في المواجد الشعرية ، وكأن الرحلة لا تكون إلا بلغة التحرر من القيود، بما يعني استكشاف لأغوار الذات في الأمكنة والأزمنة، فيخلق الشاعر موسيقاه الخاصة لدفقات للمشاعر والرؤى الثاوية في زاوية مبؤرة في الذات ينطلق منها لينفتح على الرغبات يغازلها في لغة المجاز المناوئة والمجاوزة لغة المعيار في الآن نفسه. ولعل هذا التحرر سيكتسي قيمته في قصائد الديوان حين تتساوقُ لغة السرد مع الإيقاع الداخلي، بعيدا عن ذلك التصنع الذي فجرت الرومانسية اسئلته بالعودة للذات لتخلق عالمها الخاص كطبيعة وفطرة، يقول أحمد زكي أبو شادي ” إن روح الشعر الحر إنما هو التعبير الطليق الفطري كأنما النظم غير نظم لأنه يتساوق مع الطبيعة الكلامية التي لا تدعو إلى التقيد بمقاييس معينة من الكلام ” هكذا تغدو القصيدة عند الشاعر عبد الغني المخلافي مطواعة للُغة السرد التي تستخدم لغة التوصيف والسفر في كل مجالاته. الأمر الذي سيجعل من قصائد شاعرنا تتجه نحو دمج الذات بموضوعها، متحررا من تلك الأنا العاتية حين يجعلها موضوعا مفعولا به.. ونلمس هذا في قصيدة (العصافيرُ لا تكترثُ بما يحدث) التي يقول فيها:
وسطَ غابةٍ متوحشةٍ
أبحثُ عن مخرج
في وجهِ الريحِ مشرعةٌ قصائدي
عندَ الفجرِ
أطلقُ وابِلًا من الغناء
في زمنِ كورونا
العصافيرُ وحدها منْ تبادلُني الود
ومن خلال هذا المقطع يتجه الشاعر إلى الطبيعة حيث يتحقق معنى الحرية، فيستعير منها لغة التوحش ليبسطها على مرجع يسكنه في عالم الناس، حيث الحرب وثرثرة الرصاص، في زمن وباء كورونا، فلا يجد من يبادله الود غير العصافير. ومهما تكون العصافير فليس يبعد معناها عن الطهارة سواء في الطبيعة أو في عالم الطفولة الذي يحن إليه الشاعر، يقول:
يطوفُ بي طفلُ الأمسِ
سهولُ وهضابُ بلادِي.
ثمَّةَ معزوفةٌ غنائيةٌ
تقدمُها العصافيرُ
ولوحةٌ خلابةٌ يعرضها المطر.
ويقول :
يضربُني الحنينُ كعاصفةٍ هوجاءٍ
عندَ الصباح
مجبولٌ علَى العصافيرِ
والابتسامِ اليانِعِ من ثغرِ أنْثَى
إن الشاعر في قصيدته يقيم في اللغة وينبعث منها، بحثا عن مخرج لا يتحقق إلى بالعودة إلى( العصافير – ثغر أنثى) حيث يسافر ليتنفس بالمجازات أسئلة تمثل خطاب الإثارة التي تمتطي صهوة الذات صوب موضوعها، وهذه الرغبة هي التي ستجعل من ” العصافيرُ لا تكترثُ بما يحدث ” كقصيدة متمنعة ارتضاها الشاعر أن تكون مشاكَسة لغوية ، فكان الشعر إشكالية جدلية بين الأنا والآخر، إذ يتلمس تكوينا شعريا يجمع بين الواقع كإدراك غير تام وبين المتعالي الشعري المجاوز باستمرار، وهو ما يمنح العنوان استعارة رقيقة من خلال الجمع بين ( العصافير ) و( لا تكترث ) والجمع بينهما حاصل بالطبيعة، لكن ذلك يمنح الدلالة أن تعدد إحالاتها في زمن انكسار القيم، إلى حدّ الشعور النفسي بانسداد الأفق الذي تترجمه لغة الشعر المشحونة بمعجم السقوط والضياع توصيفا للحال، كما في قصيدة (منفى آخر) حيث يقول:
حزنٌ في المدَى، في القرَى
في الحقولِ، في الوجوه
ملامحٌ مطموسةٌ
عصافيرُ مشنوقةٌ، أغصانٌ قاحلةٌ
دواماتٌ سحيقةٌ
حوافٌّ حادةٌ، ذواكرٌ مثقوبةٌ
أحلامٌ مذبوحةٌ، أوتارٌ ممزقةٌ.
وطنٌ – إلى الوراء
هكذا يبلغ الوجع منتهاه فيثور الشاعر يعدد من أشكال السقوط، ليعممها بل ويجمعها في سقوط الوطن. ويتعمق الحس الدرامي لديه، ويكبر الاغتراب في كل شيء، كم خلال ملامح الحزن التي لم تترك جانبا إلا وضمخته واستبدلته بقدرة على القول الشعري الجميل.