فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

بوست

الشاعر والناقد عبد الحميد الحسامي: صوت المثقف غيبته البندقية وجامعاتنا لا تنتج المعرفة

حاوره: صدام الزيدي،

 

قال الأكاديمي والناقد اليمني عبد الحميد الحسامي إن “الصوت الثقافي في اليمن أصبح غائبًا حين علا صوت البندقية على كل صوت”، مشيرًا الى ان “المؤسسات الثقافية تم تجييرها لصالح صوت البندقية، وصوت الطائفية”.

وعن “قصيدة الحرب”: “هي الآن في لحظة غيبوبة”. أما المشهدين الإبداعي والنقدي: “كلاهما غائب عن ذاته وعن الآخر”، لكنه، بحسرةٍ، يتحدث عن البحث العلمي في اليمن: “أحواله لا تسر. مصاب بما أصيب به بلد أنهكته الحرب، ومزقته الصراعات”.

ويرى بروفسور عبد الحميد الحسامي (فيما لو أسندت إليه مهمة تحديث مؤسسة التعليم العالي والبحث العلمي في اليمن)، أنه: “لابد من تحويل الجامعات من مؤسسات تلقين وتلقي إلى مؤسسات إبداع وإنتاج معرفي”.

كما يكشف الحسامي لأول مرة، في حوار مع “فضاءات الدهشة” حكاية الشعر معه (له ديوانان مخطوطان لم يريا النور بعد): “ما أن تطل قصيدة برأسها حتى يثب الناقد الضمني الرقيب في داخلي شاهرًا عصاه الغليظة فتتوارى القصيدة وتلوذ بالفرار”، لكنه يستدرك: “عزائي أنني أمارس النقد بلغة الشعر”.

ويتداعى الحوار، إلى “الحداثة” كمصطلح، وكتفاعل عربي: “إشكالية كبيرة من إشكالياتنا الفكرية والنقدية والإبداعية، لا يمكن أن نعيش بلا ذاكرة أو دون أن نتفاعل مع الآخر، وإذا ما حاولنا أن نعيد كل شيء لصانعه فربما نجد أنفسنا عرايا في صحراء”.

إلى ذلك، يتمنى عبد الحميد الحسامي (أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك خالد في أبها السعودية وعضو تحكيم عشرات الرسائل/ الجوائز العلمية بجامعات عربية) أن ينأى طلاب الدراسات العليا (على المستوى العربي) بأنفسهم عن التكرار، في غياب ما يشير إليه ب: “الباحث المسكون بقلق المعرفة”. وعن اختياره ضمن لجنة تحكيم جائزة الملك فيصل العالمية، (وهو الذي حصد جوائز علمية ونقدية عربية وصدر له 12 كتابًا بحثيًا ونقديًا حتى اللحظة)، يؤكد: “أشعر بزهو أن يضاف ذلك إلى سيرتي العلمية”. ومتحدثًا عن انتقاله منذ سنوات للعمل الأكاديمي في السعودية: “وجدت الفرصة للفعل والتفاعل والانطلاق نحو الفضاء العربي”.

________________

*الحرب وانعكساتها على واقع المثقفين والكُتّاب، في اليمن؟ وعلى المعالم/ الملامح الثقافية؟
– أولا أرجو أن تتقبل شكري وثنائي على هذه المحاورة التي نبشت كل جوانب الحياة العلمية والشخصية والإبداعية لدي.
أما سؤالك عن الحرب وانعكاساتها على واقع الثقافة والمثقفين، فهو سؤال يثير المواجع والآلام؛ وقبل خمسة عشر قرنًا قدم الشاعر زهير بن أبي سلمى توصيفًا جامعًا مانعًا للحرب حين قال:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ***وما هي عنكم بالحديث المرجمِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة***وتضر إذا أضريتموها فتضرمِ
فالحرب لا يوجد فيها منتصر، والخاسر الأكبر في هذه الحرب هو الوطن والمواطن، وقد ذاق من الحرب في اليمن القاصي والداني مراراتٍ لا تحد، وكانت انعكاساتها علينا في اليمن، بل على المنطقة برمتها، بكل مستويات الحياة، وما الشأن الثقافي عنها ببعيد، ولعل الأمَرَّ في الشأن الثقافي أن الحرب أخذت طابعًا أيديولوجيًا مزق أو أسهم في تمزيق الهوية الثقافية، وباعد الشقة بين المثقفين، كما تراجع الشأن الثقافي لتوقف مؤسساته، وانشغال المثقف اليمني اليوم بلقمة عيشه، بأمن حياته، أي أنه غدا مشغولًا بضروريات حياته البيولوجية، التي هي معلومة من المواطنة والحياة بالضرورة، ويجب على الدولة توفيرها بوصفها من أولويات مسؤولياتها؛ وبدلًا من أن يتفرغ المثقفون لصناعة الشأن الثقافي، وتوجيه بوصلة الحياة، أصبح الصوت الثقافي غائبًا أو يكاد حين علا صوت البندقية على كل صوت، والتهم الشأن القتالي والحربي كل مناشط الحياة.
وقد ذاقت المؤسسات الثقافية من الحرب ما ذاقت، على المستويين الحسي والمعنوي، فتهدمت المنشآت الثقافية، أو عطلت فعالياتها، أو تم تجييرها لصالح صوت البندقية، وصوت الطائفية.
لكن المثقف الأصيل يظل أصيلًا عتيًا، يحاول أن يزرع شتلة حياة على أنقاض الحرب، ويتمرد على قسوة الظروف، وهو ما نلاحظه من مناشط تمكنت من الانفلات من هذا الوضع، عبر إمكانات التقنية، أو من خلال إقامة فعاليات تنابذ الحرب، وتستعصم بالحب والحرف والجمال، وتلك جهود ينبغي أن تنحني لها الكلمة إجلالًا؛ لأنها تستعصي على الذوبان في سيكلوجية الجماهير المحاربة أو المحتربة، أو المذعنة المستسلمة، ففي كل منشط ثقافي صوت مضمر، ورسالة صامتة مدوية “أن لا للحرب، نعم للحب” فشكرًا لكل من يزرع في أفقنا المخنوق قبسًا من ضوء، ولكل من يمنحنا الدفء في رحاب الكلمة في صقيع الحياة، شكرًا لمن يحيي فعالية، أو يحقق إنجازًا معرفيًا، شكرًا لكل من يبتسم رغم “التجهم في السماء” وفي أقطار الأرض.

*من خلال متابعتك للمشهد الشعري اليمني في سنوات الحرب… هل يمكن الحديث عن قصيدة حرب تنجز الآن؟
– المشهد الشعري في سنوات الحرب إما مندغم في صوت الحرب، وبالتالي فهو جزء منها، وهو رجع صدى لصوت البندقية، أو هو رافض لها، ينشد فضاء المحبة والسلام، لكن القصيدة التي يمكن أن نسمها بـ(قصيدة الحرب) تقتضي نوعًا من التأمل لتجربة الحرب، فالجماهير الآن في سكرة الحرب مثل جمهور الكرة على مدرجات الملعب، لكن الزمن كفيل بأن يجعل الأجيال تمحِّصُ التجربة، وتدون المعاناة، وتقوم بمراجعة المواقف، وحينها أيضًا تستبطن القصيدةُ الوجعَ، وتتحسسُ رضوض الذات وانكساراتها بنوع من الأناة والتأمل الواعي، فهي الآن في لحظة غيبوبة، أو ما نحسبه كذلك. سندرك حجم المأساة التي حلت بنا، ومدى خذلان النخبة السياسية للشعب، وجنايتها على الوطن، ونزقها في التعامل مع التاريخ، واستهتارها بطموحات أجيال، ومناكفاتها التي أفضت بنا إلى هاوية سحيقةٍ ما لها من قرار.
وستجد أدب الحرب – بعد مدة ليست طويلة- ظاهرة جلية: قصة ورواية ولوحة تشكيلية، ومسرحية …سنعرف ونعترف، ونشخص كل مواقفنا وخيباتنا، وسيدوِّنُ المبدعون مظاهر الاستسلام والخنوع، وتوفز الرفض، ووثبات الاستعصام بالقيم، وسيشخصون خيانة بعض أعلام النخبة المثقفة التي داهنت الظلام، أو ذابت في القطيع.
وفي المقابل ستمجد الكلمة كل مشعل ضوء ينافح عن الحرية وسط ظلام دامس، ويرسم ملامح الدرب في صحراء التيه، … حينها يمكن أن نقول إن لدينا “أدب الحرب” ومنه قصيدة الحرب.
سندرك كل ذلك، سنعترف أمام مرايا ذواتنا، وأمام ضمائرنا.

*نادراً ما نسمع عن أطروحة ماجستير أو دكتوراه لباحث يمني، تتناول الأدب اليمني (الشعر على نحو خاص) وينعكس الأمر كذلك على أطاريح لباحثين من خارج اليمن.. هذه القطيعة (إن أمكن أن نقول عنها قطيعة أو شبه قطيعة)، في ما بين الرسالة البحثية والنقدية (العلمية) والأدب اليمني ما هي أسبابها، برأيك؟
– هناك –في تقديري- إشكال عميق في قضية الدراسات العلمية في الجامعات، وهذا الإشكال يتمثل في كون الدراسات لا تنطلق من رؤية واضحة، بل يمكن القول إن الرؤية الاستراتيجية منعدمة، فالمشروعات البحثية تشتغل (خارج نطاق التغطية) خارج الضرورة المعرفية والحضارية، فقد ينفق الباحثون سنوات طويلة في مناقشة قضايا لم يعد لها حضور في حركة المعرفة، ولا في حركة المجتمع، ولا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا ليس تعميمًا؛ فالتعميم مطية الزلل، فهناك جهود مشكورة تلامس هموم الأدب وحركته المعاصرة على المستوى اليمني وعلى المستويات الأخرى، لكنها جهود لا ينتظمها مشروع، ولا تنبثق عن استراتيجية علمية ترعاها مؤسسات البحث العلمي على مستوى الوزارة وعلى مستوى الجامعات. وللأسف فإن كثيرًا من رسائل الماجستير، وأطاريح الدكتوراه أصبح نهبًا للضياع، أو الموت السريري على رفوف المكتبات.
وفي ظل تطورات التقنية كنت أرجو أن تنهض وزارة التعليم العالي بأرشفة كل ما أنجزته الجامعات اليمنية إلكترونيًّا على موقع الوزارة، ويشمل ذلك الرسائل العلمية والبحوث بكافة مستوياتها؛ ليكون مرجعًا يتاح للباحثين الاطلاع عليه وفق ضوابط معينة وحتى يكون ذخرًا للأجيال، فهل من مجيب؟ وكم تألمت حين زرت مكتبة إحدى كليات جامعة عدن فوجدت المكتبة مكتظة بأطاريح علمية تتضرع إلى الله من قسوة إهمالها، وقد علاها الغبار، وأصابها الإهمال، فمن ينقذ هذه الأطاريح العلمية التي أنفق فيها الباحثون ليالي معجونة بالضنى والسهر؟
أما بحوث التخرج في مرحلة البكالوريوس فلن أتحدث عنها فهي تتم في ظل قاعدة (إسقاط واجب)، ومصيرها مكب النفايات، فمن يستطيع من رؤساء الجامعات أن يقول إن هناك 1% من بحوث تخرج الطلاب في التخصصات العلمية والإنسانية تم إنجازه عن وعي، وتمت المحافظة عليه، في مكتبات الجامعة؛ من يوم تأسست جامعة صنعاء وإلى آخر جامعة حكومية أو خاصة على امتداد اليمن لا يستفاد بشيء منها، ويعد مقلب النفايات أبرز العارفين بمصائر تلك البحوث، مع العلم أن الجامعات في حقيقتها هي مؤسسات بحثية قبل كل شيء.
أما في اللحظة الراهنة فكيف نتحدث عن بحث علمي حقيقي والباحث اليمني شبه غائب عن حركة الفعل الشعري، وحركة التجربة الإبداعية في اليمن؛ لأن الأستاذ الجامعي المهموم بالقضايا الإبداعية الحية يكاد يكون غائبًا، ولأن الاستراتيجية الوطنية في الاهتمام بحركة الفعل الثقافي والإبداعي غير حاضرٍ تمامًا في وعي القائمين على المؤسسات الثقافية والتعليمية والإبداعية. باختصار ليس هناك عمل مؤسسي، الفوضى هي عنوان المؤسسات.
أما الاهتمام بالمشهد الإبداعي في الدرس الأكاديمي على المستوى العربي، فإن المؤسسات الثقافية وفي مقدمتها الملحقيات الثقافية مسؤولة كل المسؤولية عن عدم تقديم المشهد الإبداعي للدارسين والمهتمين، فجل اهتمامها ينصرف إلى المخصصات المالية للطلاب، وكأنها ملحقيات طلابية وليست ملحقيات (ثقافية).

*في دراستك “الحداثة في الشعر اليمني المعاصر 1970-2000″، تناولت (بالدراسة التطبيقية) نصوصًا (احتوتها الدواوين الشعرية) لأربعة شعراء: عبد الله البردّوني (عمود)، عبد العزيز المقالح (تفعيلة)، شوقي شفيق (تفعيلة تقترب من النثر)، وأحمد ضيف الله العواضي (تفعيلة). ومبررًا اختيارك لهؤلاء، كعينة، أشرت إلى البردّوني والمقالح بوصفهما من جيل التأسيس، وإلى شفيق والعواضي كجيل امتداد؟ ما أهم ما أنجزته الدراسة؟ ولماذا غاب كُتّاب قصيدة النثر؟
– أطروحتي للدكتوراه في جامعة الموصل التي أنجزتها سنة 2003م، وناقشتها قبيل الحرب بأسابيع، كانت مؤطرة بسياقات كثيرة، معرفية وإبداعية، وبعضها إدارية يتعلق بسنوات الابتعاث، وضغط الظرف السياسي وتأزمه قبل الحرب، وأظن أن الدراسة اجتهدت في قراءة المشهد الشعري في اليمن من زاوية (الحداثة) وتجلياتها في القصيدة الخليلية والمدورة، والنثرية، ولعلها كانت وفية لأطروحتها، وأسئلتها التي انبثقت منها، وحاولت الإجابة عنها. ولعل أهم ما حققته الدراسة أنها أصغت إلى النص بلغة طرية، ومنهجية دقيقة، وجهاز مصطلحي واضح، يكتنه حداثة النص الشعري ويتتبع منعرجاته وتحولاته عبر جيلين في شكل القصيدة وفي رؤيتها، كما أن الدراسة تمكنت من قراءة ملامح الحداثة في قصيدة خليلية متمثلة بتجربة البردوني، وهذا يعزز الرؤية التي تعد الحداثة قبل كل شيء حداثة الرؤية، وإن تباينت الأشكال الإيقاعية التي تحملها.
ولم تغفل الدراسة قصيدة النثر، فتجربة شوقي شفيق كانت نموذجًا لتجليات الحداثة في القصيدة التي تميل إلى النثرية، ومغادرة النمط الإيقاعي الخليلي أو التفعيلي أو المدور.
لقد كانت الدراسة دعوة ضمنية للباحثين ليلتفتوا إلى حركة الشعر المرتبطة بحركة الحياة، وتعقب تحولات الحركة الإبداعية على مستوى اليمن في تداخلها وتخارجها مع حركة الإبداع عربيًّا وعالميًّا، ولا أخفيك القول إن هذه الدراسة قد فتحت لي نوافذ مهمة على المستويين المعرفي والفكري، وكانت محطة تحول نحو أفق التعدد ونحو العربي والكوني، كما أن هذه الأطروحة ترتب عليها ما ترتب من اشتغالاتي البحثية المتلاحقة التي ترتبط بها بحبل سري مباشر أو غير مباشر. وكم أسعدني حين وجدت هذه الأطروحة ضمن مقررات التعليم العالي في بعض الجامعات اليمنية، كما لاقت اهتمامًا من المتخصصين والباحثين في الماجستير والدكتوراه.

*”الحداثة” كمصطلح، بالنظر إلى منجزها الذي فرض نفسه، عربيًا.. هل يذهب إلى المستقبل، الذين (كانوا أو مازالوا) يرون فيها تبعية ثقافية للغرب؟
– الحداثة إشكالية كبيرة من إشكالياتنا الفكرية والنقدية والإبداعية، حار فيها المثقفون وداروا، وتجادلوا وأفاضوا، لأن كثيرًا من الذين نادوا للحداثة كانوا متشيعين للصبغة الغربية، بل متحزبين لها، وفي المقابل كان هناك طرف آخر متحزب للتراث، وللأسف كان أغلب الطرفين لا يفقهون حقيقة الحداثة، فخاضوا معركة لا طائل منها، وللعلم فحركة التاريخ تفرض نفسها شئنا أم أبينا، والزمن لا يعود إلى الوراء، كما أننا لا يمكن أن نعيش بلا ذاكرة، وفي الوقت نفسه لا نستطيع أن نعيش دون أن نتفاعل مع الآخر، وإذا ما حاولنا أن نعيد كل شيء من مأكل وملبس ومشرب لصانعه فربما نجد أنفسنا عرايا في صحراء من التيه، وتجدر الإشارة إلى أن كثيرًا من الدارسين يجعلون من الحداثة قيمة لا ترتبط بزمن، فأبو تمام حداثي في لحظته؛ لأنه تجاوز ذائقة عصره، وقدم تحولًا نوعيًّا في القصيدة بناء ورؤية، كما أن الشوكاني – مثلًا – يعد حداثيا في الجانب الفكري؛ لأنه تمكن من التمرد على الجاهز وتقديم منجز فكري له خصوصيته النوعية، ويمثل صوتًا جديدًا.. وهكذا يمكن أن نقيس حالات مماثلة في الفكر والأدب والسياسة..إلخ

* لك ديوانان شعريان مخطوطان.. متى كُتِبت قصائدهما؟ وما الذي يمنع من أن يريا النور؟
– كتبت معظم قصائد الديوانين في الفترة الممتدة ما بين 1989م وحتى 2003م وفي هذا التاريخ 2003م بدأ النقد يكبر في داخلي وتستهويني عوالمه، وفي كل يوم تزداد هيمنته وسلطته، وما أن تطل قصيدة برأسها حتى يثب الناقد الضمني الرقيب في داخلي شاهرًا عصاه الغليظة فتتوارى القصيدة وتلوذ بالفرار، وهكذا هي قصتي مع الشعر، أو قصة الشعر معي، لكن عزائي أنني أمارس النقد بلغة الشعر، فلم تزل بيني وبين تلك اللغة علاقة حميمة دافئة، ومن يقرأ كتبي وبحوثي العلمية سيجد آثارًا بينة تقول من هاهنا مرَّ شاعر.
أما قصائدي فإنني أحتفظ بها في دواوين مرتبة ومهيأة للطباعة، ولكنني أشعر أنني قد تجاوزتها فقد لا ترى النور، وقد تراه من باب تسجيل تجربة مرحلة، فأنا أصبحت اليوم بعد اثني عشرة كتابًا مطبوعًا وحوالي ثلاثين بحثًا علميًا فضلًا عن الأوراق النقدية والمحاورات والقراءات المتنوعة أصبحت مهجوسًا بالنقد، ومسكونًا بعوالمه التي تأخذ عليَّ وقتي من الصباح الباكر وحتى وقت المنام.

* لماذا يغيب الناقد “الحقيقي” عن مواكبة المشهدية الابداعية (الأدبية) في اليمن؟ بالنظر إلى حركة النقد الراهنة وشلليتها (إن جاز لنا التعبير)؟
– يبدو لي من خلال متابعة المشهد الإبداعي والمشهد النقدي كذلك أنهما يعيشان حالة من الارتباك، فكلاهما غائب عن ذاته وعن الآخر، فالمشهد الإبداعي لا يحاول أن يستبطن حركته ومدى تطورها وتجاوزها للتكرار والإصغاء لمعطيات الحركة النقدية عربيًّا وعالميًّا، والمشهد النقدي في اليمن يبدو وكأنه غير معني للحركة الإبداعية باطرادها ونموها وارتباكها على السواء، والأصل أن ينطلق النقد من جهازه التنظيري، وفي الوقت نفسه من جوهر الحركة الإبداعية في حركة جدلية تؤثر وتتأثر وتفعل وتنفعل، حركة تجادل وتفاعل خلاق، فتفضي الحركة الأدبية إلى فعل نقدي مثمر، وتؤدي الحركة النقدية إلى خلق حركة إبداعية مبصرة. هذا التجادل لا يتخلق إلا في فضاء واعٍ حين يعرف المبدع والناقد مسؤوليتهما، فضاء يكتنفه الوعي وتحركه جهود مؤسسية تعمل على توجيهه وتشجيعه وتنمية روح النقد، وقبول النقد، والبعد عن الشللية التي تجني على الإبداع وتزيف رؤية المبدعين لإبداعهم، وتهضم مبدعين مثابرين. لقد كان الفضاء التقني معطًى مهمًّا ينبغي للمبدعين استثماره في تحقيق حركة إبداعية واعية ومبصرة تنفتح على المداءات الممكنة، لكن روح الشللية والمجاملات المجانية تسللت إلى وسائل التواصل التي غدت بيئة خصيبة للمجاملات والأحكام الانطباعية العجلى التي تظلل كثيرًا من المبدعين وتجعلهم يعيشون حالة من الوهم والزهو بتجاربهم التي كان من حقها عليهم وعلى النقاد أن يكتب لها التمحيص لكي يكتب لها النجاح.

* فيما لو (وضعت الحرب أوزارها) عدت إلى اليمن، وأسندت إليك إدارة مهمة تحديث مؤسسة التعليم العالي والبحث العلمي.. ما الذي يمكن أن تفعله؟
– لا شك في أن الرؤى النظرية بهذا الخصوص كثيرة، ولكن الواقع لمعطياته المختلفة قد يفرض شروطه، وهنا يكون على المسؤول أن يكابد قدر الإمكان لتحقيق رؤاه، وتحويلها من مجرد رؤى إلى واقع إجرائي، وأول ما يمكن أن يفعله أي مسؤول في هذه المؤسسة هو رسم استراتيجية واضحة من قبل خبراء، استراتيجية تنهض على الثوابت الدينية والوطنية والمعرفية، وتحويل الجامعات من مؤسسات تلقين وتلقي إلى مؤسسات إبداع وإنتاج معرفي بدءًا من مرحلة البكالوريوس وانتهاء ببحوث ترقيات الأساتذة، وتوجيه هذا الإنجاز المعرفي إلى ما يخدم حركة الحياة والتنمية السياسية والاقتصادية والثقافية والإبداعية، ورصد ميزانيات لائقة بالبحث العمي، وتشجيع الكوادر المنتجة، وإثراء المناهج التعليمية بالمفردات التي تعزز موقعنا الحضاري وهويتنا الثقافية. إنني أطمح لأن تتحول الجامعات إلى ورش للبحث العلمي.

* أمضيت سنوات من العمل الأكاديمي في جامعات يمنية، ثم انتقلت إلى السعودية (جامعة الملك خالد في أبها) … ما الذي أضافه لك هذا الانتقال؟.
– بالتأكيد تعد تجربة الأكاديمي تجربة تراكمية، لا تتشكل هويتها من فعل أحادي، بل تتشكل من تراكم خبرات تشكل تأطيرًا لتلك التجربة، وحينما تتعد بيئات العمل فإن ذلك يكون في صالح التجربة الحياتية والأكاديمية معًا؛ فكل بيئة لها خصائصها التي تميزها عن غيرها، وإذا كانت جامعتا تعز وصنعاء قد شكلتا أرضية معرفية، فإن جامعة الجزيرة في السودان التي احتضنت مرحلة الماجستير، وجامعة الموصل التي أنجزت فيها أطروحتي للدكتوراه كان لهما أثر كبير في تراكم الخبرة والمعرفة، ويأتي انتقالي من جامعة إب إلى جامعة الملك خالد متعاقدًا في قسم اللغة العربية بكلية العلوم الإنسانية ليمثل إضافة حقيقية تعد هي الأكثر غنًى وخصوبة لعدد من الأسباب: الأول: امتدادها الزمني من 2008 إلى الآن. وهو امتداد مكنني من قراءة المشهد الحياتي والنقدي والإبداعي في المملكة، والكتابة فيه وعنه.
ثانيًا: تنوع المدارس العلمية التي يضمها قسم اللغة العربية، فهو قسم يضم ما يزيد عن ستين عضو هيئة تدريس من المملكة العربية السعودية ومن المتعاقدين يمثلون عددًا من الدول، اليمن، مصر، السودان، سوريا، الأردن، الجزائر، وتونس.
ثالثًا: النشاط الذي تشهده المؤسسات الأدبية والأكاديمية في المملكة العربية السعودية، ذلك أتاح لي الانتقال إلى فضاء واسع، والإفادة من خبرات جامعة الملك خالد والجامعات السعودية عمومًا والأندية الأدبية والمؤتمرات العلمية والفعاليات الثقافية، وفي هذا الفضاء تمكنت من تحقيق كثير من الأهداف من خلال المشاركة بالبحوث العلمية، وتقديم المشهد الإبداعي اليمني، وطباعة عدد من المؤلفات، والتعرف على المشهد الإبداعي في الخليج والكتابة عنه، وحصد عدد من الجوائز في السعودية وقطر والإمارات. وأهم من ذلك كله عقد علاقات علمية وصداقات حميمة مع عدد من الأكاديميين والمثقفين الذين التقيتهم في مدينة أبها، أو في الندوات والمؤتمرات العلمية داخل المملكة وخارجها، ولا يمكن أن أغفل ما اكتسبته من خبرة في تدريس مرحلة البكالوريوس ومرحلتي الماجستير والدكتوراه والإشراف على عدد من الرسائل العلمية ومناقشتها، والتحكيم لعدد من الجوائز في المملكة وترقية عدد من الأساتذة في جامعات سعودية وعربية لدرجتي (المشارك والأستاذية)، لقد كان قسم اللغة العربية بيتًا دافئًا حميمًا في زمن الشتات.
وباختصار يمكن القول: لقد هيأ لي قسم اللغة العربية في كلية العلوم الإنسانية بجامعة الملك خالد الفرصة للفعل والتفاعل والانطلاق نحو الفضاء العربي.

* أشرفت على/ حكّمت في عشرات الرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه) لباحثين في عدة جامعات عربية.. أهم ما لفت انتباهك، فيها؟
– لفت نظري عدد من الظواهر:
أولا: ندرة الجديد المتسائل القلق في الطرح العلمي الأكاديمي، وغلبة التكرار والنمطية والقصور عن مواكبة التحولات المعرفية العالمية، وندرة الأطاريح العلمية التي تصغي لأسئلة الواقع وتحولات الحياة، فكثير من الباحثين يستمرئوا السير في الطرق المألوفة ولا يكلفون أننفسهم تجشم الصعاب، كما لفت نظري نمطية الإشراف وندرة الأساتذة المحققين في المعرفة، فضلًا عن استعجال الباحثين في الإنجاز، كل ذلك يجعلنا نفتقد الأطروحة الرصينة التي يمكن أن نقول إنها تشكل إضافة حقيقة للمعرفة، فنحن نبحث في طالب الدراسات العليا عن باحث يضع لبنة جديدة في المعرفة، باحث ينأى بنفسه عن التكرار، باحث مسكون بقلق المعرفة.

* “البحث العلمي” في اليمن.. ما هي أحواله وشجونه؟
– لقد وضعت يدك على الجرح، فالبحث العلمي مصاب بما أصيب به البلد عمومًا فكيف نتحدث عن بحث علمي في وطن ممزق أنهكته الحرب، ومزقته الصراعات، وذلك عكس نفسه على كل مساقات الحياة ومنها المساق العلمي والتعليمي. إن الأستاذ الجامعي اليوم يبحث عن أدنى مقومات الحياة، وعن أبسط حقوقه، يبحث عن راتبه وقوت أولاده، فكيف ننتظر منه أن ينشغل بالبحث والباحثين؟ إن أحوال البحث العلمي في اليمن لا تسر.

* “الوطن”، وسط هذا المنزلق المؤسف، وفي خضمّ متوالية حرب لم تترك شيئًا مبتهجًا.. كيف تعيش يومياته هناك؟ وما الحل للملمة الروح اليمنية، (أو ما تبقى منها)، من وجهة نظرك؟
– أنا ابن وطني، وقد قال أحمد شوقي:
وطني لو شغلت بالخلد عنه***نازعتني إليه في الخلد نفسي
أما الزبيري فقد قال:
كلما نلتُ لذة أنذرتْنِي***فتلفتُّ خيفة من زماني
وإذا رمتُ بسمةً لاح مرأى***وطني فاستفزني ونهاني
وإذا كنت منذ سنوات قد غادرت اليمن للعمل في جامعة الملك خالد بأبها، فاليمن لا يغادرني لحظة، أعيش أفراحه وأتراحه، تطلعاته وانكساراته، وكلما سالتْ قطرةٌ دم من أحد أبنائه في أي شبر منه فكأنما تنزف من قلبي، فما كنت يومًا أتوقع أن تكون حرب بين أبناء وطن واحد، كانت تجمعهم قاعات الجامعة وصالات الأعراس والفعاليات الاجتماعية والسياسية، وفرقتهم الحرب، هذا المأزق العميق هو طعنة في خافقي، مأزق أودى بعقود من أحلامنا، وجعلنا نتخوف من أنفاق تترآى لنا في دروب المستقبل، ولا خروج من هذه الأنفاق إلا بوعي بأن الوطن لا يمكن أن يكون حكرًا على فئة أو حزب أو طائفة، وحينما نؤمن بأن الوطن يتسع للجميع سيعيش عليه الجميع، وإذا ضاق بعضنا ببعض فسيضيق بنا تراب الوطن، ولن تتسع لنا سوى المقابر، فلا سلام إلا بالتعايش ونبذ الأطر الضيقة.

* كيف تقيم مدونة النص الأدبي (اليمني)، اليوم، على منصات التواصل، وعبر بصيص اصدارات هنا وهناك (في أتون حالة شلل ثقافي يرافقها تعذر وصول دوريات من الخارج)؟
– في الوقت الذي كانت شبكات التواصل الاجتماعي وانفتاح قنوات تواصل المبدعين مع بعضهم ذات أثر إيجابي في تحقيق التقارب بين تجارب المبدعين وآنية الإبداع والمعرفة، فإنها شكلت تحديات كبيرة أمام التجربة الإبداعية في اليمن وفي غيرها، ولعل ذوبان الحدود وسهولة اختراق المبدع لفضاءات شاسعة ومتعددة، قد جنى ذلك على تجربته فأصبحت تجارب المبدعين في الوطن العربي نسخة واحدة أو تكاد. لقد شاركت في تحكيم جوائز عربية، واطلعت على مئات الإصدارات وهالني ما وجدت من تناسخ واستنساخ، وفقدان البصمة الإبداعية لدى جمهور الشباب، ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا القلة القليلة، وهناك ظاهرة أخرى لا تقل عن هذه الظاهرة، وأقول ظاهرة لأنها تجاوزت منطق الحالة، تلك الظاهرة هي غياب العمق الرؤيوي لدى تجربة الشباب، إنها تجربة مسطحة قد تجد فيها لعبًا وتلاعبًا باللغة وتشقيقًا وتطويعًا للمفردات، لكن ما يشعل الشعرية الحقة هو الرؤية، هو العمق الثقافي الذي يمتح منه الشاعر، وهنا يصبح المبدعون الشباب أمام مسؤولية في إثراء تجاربهم برصيد ثقافي ثري ما لم فستبقى تجاربهم أشبه بفقاعات لا تلبث أن تتلاشى في الهواء.

* مؤخرًا، تم استضافتك في جامعات هندية بمدينة حيدر أباد ضمن برنامج محاضرات علمية للطلبة وطلبة دراسات عليا هناك.. أهم انطباعاتك عن هذه الرحلة؟
– شعرت بسعادة غامرة أن أقدم نفسي ورؤاي في المعرفة والإبداع والبحث العلمي إلى جمهور خارج نطاق الجغرافيا العربية، لكنه جمهور داخل نطاق الرابطة اللغوية العربية، وقد وجدتُ حفاوة بالغة لدى جامعات هندية وشغف بالعربية، وحب منقطع النظير لدراستها والبحث في الأدب العربي. لقد كانت فرصة لتبادل الآراء والخبرات، فكم يحن الطلاب في الجامعات الهندية إلى مكتبة للأدب العربي واللغة العربية، وهو ما نأمل أن تقوم به المؤسسات المعنية باللغة العربية والأدب العربي حتى تكون المصادر العربية متاحة لأولئك الطامحين للقراءة والبحث في علوم العربية وآدابها.

* حكَّمت في عدد من الجوائز، كان منها جائزة الملك فيصل العالمية، فماذا يعني لك ذلك؟
– لا شك في أن تحكيمي لعدد من الجوائز في المملكة وخارجها يأتي ضمن منظومة مناشطي العلمية والثقافية، كل ذلك يحقق نوعًا من الحضور الذي يجعلني قريبًا من الفعل العلمي الثقافي والإبداعي.
ومشاركتي في التحكيم في جوائز مختلفة تدفعني لمزيد من التواصل مع المنجز الإبداعي والنقدي، ويأتي اختياري ضمن لجنة اختيار بجائزة الملك فيصل العالمية في إحدى دوراتها الماضية ليحقق لدي نوعًا من الاعتزاز بتلك المشاركة؛ نظرًا لحجم الجائزة التي انتدبتني ضمن لجنة أساتذة لهم مكانتهم العلمية في الوطن العربي لاختيار الفائزين في تلك الدورة. ومنحني ذلك دافعًا لتطوير نفسي، وتعميق خبراتي في تخصصي، كما هيأت لي فرصة جليلة للإفادة من خبرات الزملاء الخبراء الذين شاركتهم مداولات التحكيم في ضوء معايير علمية صارمة؛ حتى لا تمنح الجائزة إلا على استحقاق، وتحافظ على اسمها ومكانتها العالمية، فهي من أكبر الجوائز على مستوى العالم، فشكرًا لأمانة الجائزة التي توجتني بذلك التشريف، وإني لأشعر بزهو أن يضاف ذلك إلى سيرتي العلمية، وهو زهو لا يصرفني أبدًا عن الشعور بأن للمعرفة عليَّ واجبًا عزيزًا، وهو أن أكون عند مستوى الثقة، وفي مستوى التحدي.

* حظي الأدب السعودي باهتمامك بحكم انتقالك للعمل في الجامعات السعودية، فأنجزت دراسات مهمة منها (تحولات الخطاب الشعري في المملكة العربية السعودي) و(مرايا العراف – البنية الأسطورية في شعر محمد الثبيتي) ما مشاريعك القادمة في هذا الاتجاه؟
– حينما قدمت للعمل متعاقدًا في جامعة الملك خالد لم يكن الهدف أن أكون موظفًا يتسلم راتبًا نهاية كل شهر، بل كنت أشعر أنني لابد أن أحمل رسالة نحو الأدب العربي في هذا المجتمع الذي أعمل فيه، ولذلك أخذت على عاتقي مهمة التعرف على المنجز الأدبي شعرًا ونثرًا وكذلك المشهد النقدي، وكانت ثمرة متابعاتي الكتابة عن هذا المشهد في هذين الكتابين فضلًا عن بحوث متفرقة في تجارب شعرية، كتجربة الدميني والخشرمي والمحسني وإبراهيم طالع ..إلخ كما كتبت عن عدد من الروايات ومنها رواية (الباب الطارف)، وتناولت في عدد من القراءات المنجز القصصي في عسير ولا سيما في أعمال الكاتب ظافر الجبيري، وعقدت عددًا من الندوات عن تجارب قصصية وشعرية، كما تناولت المشهد النقدي في المملكة في ندوات وقراءات، ولاشك في أن تراكم القراءة في المشهد السعودي شعرًا وسردًا ونقدًا قد أثار لدي عددًا من الأسئلة التي تقتضي الإجابة عنها مشاريعَ بحثية عميقة، وذلك أمر يصعب البوح به، وأدعها للمستقبل، وأرجو من الله التوفيق لتغدو واقعًا متحققًا.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *