فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

بوست

تهوي كإلهٍ جريح

إيمان عمارة/ تونس

 

ظللت طيلة حياتي في حالة صدام مع أمّي.. لم أكن قادرة على فهم تصرّفها معنا.. كانت كريمة جدّا مع النّاس وصاحبة نكتة في حين كنّا في البيت نعاني من دلالها المفرط ولامبالاتها وتقاعسها عن الاهتمام بنا وترك أمرنا بيدي المعينة المنزليّة والأغرب أنّ أبي كان يحدب عليها ويحنّ وكان إذ يفيض صدره يطبخ لنا ما تيسّر ويلوذ بمرسمه ليرسم ويشرب ويستمع إلى فريد وعبد الحليم.

كنت أحبّ أبي حبًّا لا يوصف ولعلّ انتصاري له ودفاعي الدّائم عنه أزّم علاقتي بأمّي أكثر وظلّ هذا الصّدام رفيق حياتنا المشتركة.. كانت عصبيّة المزاج ولكن في نفس الوقت متحرّرة وعلى قدر كبير من الثّقافة يندر أن يوجد في نساء جيلها ممّن وُلدن في الأربعينات من القرن الفارط..
لم تربّني على الخوف والخجل وكانت تجد سعادة كبرى حين أعرّفها بأصدقائي ذكورا وإناثا وتخوض معهم في مواضيع شتّى.. سنوات المراهقة صعبة كانت فبقدر ما كان أبي يجدّ في توفير كلّ ما ييسّر حياتنا مادّيا وعاطفيّا كنت لا أنفكّ أطرح نفس السّؤال: لماذا أجد أمّهات أصدقائي يكرّسن حياتهنّ لأبنائهنّ فقط أكلاً ورعاية في حين لا هَمّ لأمّي إلّا قراءة الجرائد والذّهاب إلى السّينما والحفلات؟ ولماذا أرى أبي صابرًا على حمله ممزّقًا بين عمله وبين مشاغلنا؟ ولماذا مهما كثرت مطالب أمّي المادّيّة يكتفي بالقول حين أطالبه باتّخاذ موقف ضدّها: “أمّك مريضة ودلال بوها هلكها”.. ويعود بعدها إلى أمّي ضاحكًا وتعود إليه ضاحكة!!

قبل أن يموت أبي وقد أنهكه السّرطان كان قد ترك رسالة يوصينا فيها برعاية أمّي ويقول إنّها ابنة عمّه وحبّه العظيم.. ومات أبي وغدا العالم فارغًا.. بعدها مباشرة رأيت أمّي تنهار.. رأيت الملكة المستبدّة تهوي كإله جريح يلقي أحيانًا سخطه عليّ وعلى إخوتي وأحيانًا يئنّ ألمًا.. ما كنّا جميعنا نفهم أمّنا جيّدًا ولكن كنّا نحبّها كثيرًا لا سيّما أخي الأكبر فقد كان يرى الشّمس لا تشرق إلّا من ابتسامتها… بعد عمر كامل قضيناه نربّت عليها كطفلة منذ كنّا أطفالاً اكتشفت أنّ أمّي كانت منذ طفولتها تعاني من مرض نفسيّ اسمه “اضطراب العاطفة ثنائيّ القطب”.. مرض لا يجتهد الأطبّاء النّفسيّون هنا في توصيفه ولا إشعار العائلة بمدى حسّاسيته وتأثيره على المحيط العائليّ.. ما كنّا نعرف إلّا أمرًا واحدًا.. موسوسة على النّظافة.. من هذه التّجربة اكتشفت أنّني كنت محظوظة لأنّني لم أحظ بأمّ بكامل قواها النّفسيّة تشبه أمّهات صديقاتي، لم أحظ بأمّ محدودة مستعبدة يستعبدها الأب ثمّ الزّوج والأبناء والأحفاد.. كان في أمّي طاقة حبّ شوّش إرسالها المرض ووصلتنا في شكل رسائل مقتضبة وغير مكتملة.. وكان في أمّي طاقة من الكبرياء والتّحدّي والتّحرّر اكتسبتها منها وساعدتني على تجاوز فخاخ الحياة.. قبل موتها بقليل قالت لي: حياتنا كاملة أنا وأنت نتعاركو على بوك.. أنت تجبد وأنا نجبد وأنت تحبّو وأنا نحبّو.. أيّة لوّح علينا..انحبّك راني يا أمّونة.. راك بنتي الشّاعرة… الرّسائل الجميلة تصل دائما متأخّرة.. ساعي البريد حمل حقيبته الآن والتحفه الغياب.. في السّماء أرى ابتسامة أمّي وأبي.. وطريقي مضيئًا.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *