فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

قصة وسرد

شوكولا سويسرية…

منية الفرجاني/ تونس

 

أجمل ما كان يحدث لي في صباي أن أسمع أبي يهمس لأمّي بصوت مسموع:
غدا ستأتي ماريان السويسريّة عندنا، سنذهب إلى المطار لاستقبالها!
أطير من الفرح لأنّ قدوم ماريان السويسريّة يعني بالضّرورة قدوم علبة شوكولا فاخرة إليّ…
الشوكولا السويسريّة لها طعم خاص مليء بالبذخ و النّوقا الطريّة…طعمها أفخر من الألواح البنيّة التي يبيعونها في تونس و يكتبون على أغلفتها شكلاطة هكذا دون أيّ انتماء واضح..
انتظرنا ” ماريان” صاحبة أطول أظافر رأيتها في حياتي، مطليّة بعناية مدهشة، تضع فوق خنصرها قطعة ألماس تلمع بشراهة كلّما حرّكت يدها، عيناها رماديّتان تختزلان شراسة القطط السويسريّة كلّها..
تصل ماريان الفندق، تنام فيه ثمّ تأتي إلينا بعد أن تستقلّ سيارة أجرة تمليه عنوان بيتنا و بعد دقائق تكون أمامه..
وصلت إلى البيت!
كنّا نعرف موعد قدومها من خلال صوت محرّك سيارة الأجرة التي تقف أمام البيت و بالباب الوحيد الذي يصفق بهدوء..
نطير إليها في خجل و براءة، نرحّب بقامتها و حضنها و عبارتها الشّهيرة ” آلاس كوت” تلك الداء الملقّمة على التّاء…ذلك الصّوت الذي يكون بين صوتين، بين أن تقول ” good” أو ” gooten”..
أيّ لغة أجنبيّة كانت تغريني بالانصات، كنت وراء كلّ جملة أسأل أبي: ماذا قالت؟ و يلعب دور المترجم لفترة طويلة.. حين يملّ من استفساراتي التي لا تنتهي يأمرني بالخروج و ينهرني كي لا أزعجه أكثر…فأخرج.
دخلت ماريان باحة البيت، رحّبنا بها جميعا قالت أنّ ” بيتر” ـ زوجها ـ سيلحق بها الأسبوع القادم لظرف طارئ في العمل..
كانت بيدها حقيبة يد فاخرة و حقيبة أخرى كبيرة، أحسست بشيء من السحر أنّها تخصّني و أنّ علبة شكلاطة فاخرة تنتظرني هناك..
طالت الأمسية، شربت فيها ماريان كلّ الشاي بالنعناع و ” غريّبة” الدرع التي تحبّها و التي تعدّها أمّي خصيصا لأجلها..
تعشّينا، لائحة الطعام أيضا تجيء حسب رغبة ماريان: مقرونة بالصلصة و بريك و سلاطة تونسيّة و شوربة السّمك هذا ما تعشقه ماريان من يد أمّي…
مرّ اللّيل و لم تفتح ابنة سويسرا حقيبتها، لم توزّع هداياها كما كانت تفعل في المرات السّابقة…
رأيتها تحكي طويلا مع أبي أمام الباب و هي تودّعه إلى النزل وحين دخل سألته:
ما قصّة الحقيبة التّي لم تفتح يا بابا؟؟
قال: ماريان طلبت منّي أن اترك الحقيبة إلى أن يأتي ” بيتر” الأسبوع القادم.. هي تريد أن تقدّم الهدايا في حضرته!
ـ وأنا؟
لا أريد هديّة، أريد الشّوكولا، المثلثة المغموسة في قطع النوقا الفاخرة!!
ردّ أبي:
ـ اصبري، ألا تعرفين الصّبر، إياك أن تقربي الحقيبة فهي أمانة، هل تفهمين…!؟
لم أكن لأفهم في الواقع ضرورة أن تفعل هذا، و ما الحكمة في أن انتظر “بيتر” كي يسلّمني الهديّة، يدها أجمل من يده، أظافرها طويلة و فيها قطع الماس اللمّاعة هي الجديرة بتقديم الهدايا!!!
جاء الغد…
و طفح الكيل، كنت أريد أن اعرف إن كان في الحقيبة علب شوكولا من التي أعشقها، دخلتُ غرفة والديّ أغلقت الباب بالمفتاح و فتحت الكنز..
كانت الحقيبة مليئة بعلب مغلّفة بأوراق زينة و أشرطة جميلة لمّاعة، علب بمختلف الأحجام و الألوان و على كلّ علبة كتب إسم الشخص المعنيّ بأمرها، واحدة لوالدي، و أمّي، اختي، أخي، جدّتي، و أنا..
كيف الوصول إلى هديّتي، وهي مغلقة، لو فتحتها سيتمزّق الورق و سيكتشفون أمري..
كنت أمسك بالعلبة في يدي كمن يزن بكفّه عنقود عنب كنت أتنبّأ بما يمكن أن يحمله ذلك الوزن…
في المغلّف طراوة!! يبدو أنّها ثياب، أو جوارب، أو ربّما وشاحا لن يعجبني..
أتحسّس بيدي كي أظفر بأيّ شكل شبيه بمثلث مكتنز…مثلّث الشوكولا!!
لم أستطع أن أصل إلى نتيجة، كان عليّ أن أفتح المغلّف الجميل..
كي أكيد الصّبر والصّابرين…
كان عليّ أن ألعب دور الثّعلب الذّي لن يطيق انتظار سيّد ” بيتر” المزعج..
أحكمت إغلاق الباب، و بدأت بإزالة الشّريط الاّصق، حاولت ألا أمزّقه كي أعيده إلى مكانه بالضبط كما غلّفته أنامل ماريان الأنيقة، صاحبة أجمل أظافر في الدّنيا…
كان الشّريط اللاّصق أكبر عقبة أجتازها في ذلك اليوم الكئيب، كان عليّ ألاّ أترك بصمة واحدة قد تدلّها على أنّ أحدا سبقني إلى فتح هديّتي…كان عليّ أيضا أن أنتبه جيّدا إلى كيفيّة ربط الشّريط الجميل الذي كان يزيّن الهديّة، ليتها كانت تعرف أننّي ما كنت بحاجة إلى كلّ ذلك البهرج و أنّه ما كان عليها أن تكلّف نفسها شراء كلّ تلك اللوازم…كان يكفي أن تقول لي:
ـ خذي..هذه لك ” my chats”..هكذا كانت تسمينا.. قططها!!
هل كانت القطط بحاجة لهديّة في علبة فاخرة!؟
شعرت بحرارة تعتريني، كان العرق يتصبّب من جبيني و رقبتي.. شيء ما يفور..ماذا لو دخل أبي أو انتبه إلى أنّ المجرمة الصّغيرة وصلت إلى الأمانة و فتحتها…ماذا لو انتبهت أمّي لغيابي و جاءت تبحث عنّي، ماذا سأقول و بماذا سأجيب…و الكنز مفتوح على مصراعي قلبي المرتجف…
أزلت الشّريط اللاّصق الذي كان في الواقع يشدّ قلبي وأنفاسي…فتحت العلبة…
جوارب، و بيجاما، و بالونات ملوّنة، أقلام و برّايات…أين الشوكولا؟؟تبا لك يا ماريان و تبا لأظافرك و ماساتك….
كلّ هذا من أجل بيجاما!؟
نبشت في الحقيبة العملاقة، بيدي الصّغيرة المرتجفة، اعترضتني علب قهوة فاخرة من النوع الذي تعشقه أمّي، أزحتها عن طريقي و حفرت أكثر، خيّل إليّ أنني أقتلع قلب الأرض بشهوة طفلة تبحث عن هديّة تعنيها…
ورأيتها…
حبيبتي المثلثّة، برمودا عمري البنيّ..
لماذا جعلتْها في أسفل الكنز، هل كانت تعرف بأنني سأختبر عمق النّهر بكلتا يديّ و كلتا رئتيّ..
أربع علب كبيرة، لو اخذت واحدة ستكتشف أمري و لماذا أربع بالذات كان عليها أن تجلب أكثر كي تعطيني فرصة لتغييب واحدة…
تبا لك يا مريان المجنونة وتبا لقلبك الذي لا يحمل ماسة التّفكير…
لن اخرج من الكنز دون كنزي…فتحت علبة الشوكولا و اقتسمت قطعة التهمتها و أعدت إغلاق العلبة بإحكام..
عدت لهديّتي ألفّها من جديد تماما كما لفّتها هي، لم أترك أثرا لأيّ شيء.. خفت أن أوقع أبي في مأزق إهمال الأمانة.. بدا كلّ شيء على ما يرام أعدت كلّ شيء إلى مكانه و انسحبت خارج الغرفة ألوك النوقا اللذيذة..
اندسست في مكتبي أطالع قصة مرميّة منذ دهر على الطاولة حتى أنهي القطعة الذائبة في فمي.. ابتعدت كثيرا كي لا يشمّ احد رائحة الشوكولا و هي تفوح في المكان ..
انغلقت على نفسي كمحّارة حتى بهتت تفاصيل الجريمة كلّها…
و لأنّني لا أتوب..
عدت إلى ذلك الكنز في الأيام التي تلت، كلّ يوم أفتح هديّة باسم صاحبها، عرفت هديّة أمّي و أختيّ…و بابا و جدّتي…
قمت بـــ scan…على الحقيبة العجيبة و لم يكن باستطاعتي خلال كلّ هذا العودة إلى علبة الشوكولا.. خفت أن يخفّ وزنها و وزني في عين أبي إن اكتشف أمري..
اكتفيت بحلّ شيفرة كلّ الهدايا و معرفة ما بداخلها..في انتظار بيتر ” الرّكيكّ” الذي حوّل حياتي إلى رعب أزرق!
بيتر هو زوج ماريان…
انتظرناه أسبوعا كاملا ليحلّ ركبه وتقدَّم الهدايا للجميع…
لم يقترب أحد من تلك الحقيبة غيري، كنت أكرة الأشياء المغلقة، لذلك فتحتها..
اكره الفرح المؤجّل لذلك استعجلته..
اكره الصّبر الذي يضيّع عنوانه في قلب طفلة تعشق الشوكولا…
جاء بيتر…
و حسم الأمر، دخل أبي غرفته و جاء بالكنز…
تظاهرت باللعب بكرة قديمة مع ابن الجيران بينما تفتح ماريان حقيبتها، سمعت أبي ينادي عليّ، تعالي….
جئت ألهث متظاهرة بللّهفة و الانبهار
قال: خذي هذه هديّتك قبّلي ماريان وقولي لها شكرا…!
ضحك الشّر داخلي سمعته يقول: شكرا على البيجاما أم الجوارب أم البالونات التي كادت تطير بقلبي؟؟
قلت :
ـ واو ماريان..” دانكي شون” أي شكرا..و لمع الخبث في عينيّ كما لمعت ماستها في خنصرها…لي ماستان و لها ماسة واحدة.
أفوقها خبثا و براءة…
بعد أن فتحت هديّتي أكتشفت أمرا مذهلا:
اكتشفت بانّني بارعة في التّمثيل و أنّني قادرة على فتح كنز بحجم ذلك البئر العميق…
وضعت ماريان علب الشوكولا الأربعة على الطاولة و قالت :
ـ هذه لكم لكلّ واحد علبة، استمتعوا…
كلبؤة قفزت على علبة أعرف شيفرتها جيّدا، فيها خدش خفيف جدا ذكّرني بشهوتي الغريبة..
أخذت العلبة وطرت…
الآن صار باستطاعتي أن اخرج من الجريمة نظيفة كقطع النوقا البيضاء…
التهمت الفرحة كلّها قبل انقضاء الليل ثمّ نمت سعيدة ككلّ ليلة…
تلك عاقبة من يؤجّل فرح اليوم إلى الغد…

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *