الرئيسية / قصة وسرد / أرض محظورة

أرض محظورة

بسام شمس الدين

 

كانوا ستة أشخاص متفاوتي الأعمار، جنديان وكبير قرية وفرحان وامرأته زكية وطفل رضيع في حجرها، يسيرون وسط هضاب صغيرة جافة ليس عليها غطاء نباتي، ولا أشجار أو طيور أو مساكن، غدت ملابسهم مغطاة بالغبار بفعل السفر والسير المتواصل، وصارت أشكالهم مزرية وغير واضحة، كانوا متعبين يوشكون على السقوط، وحفزهم الجندي عابد قائلاً بجهد بالغ:
ـ دعونا نخرج من هنا، لقد اقتربنا من صنعاء. وسوف تنتهي مهمتي بمجرد أن أسلمكم.
أصبح النطق صعباً للغاية، والكلمات لا تستطيع الخروج من أفواههم الجافة، وبعد كثير من الجهد اجتازوا الهضاب إلى سهل منبسط، انجذبوا إلى المنازل الأولى التي رأوها على ذلك القاع الفسيح، فمالوا صوبها متعثرين بخطوات أقدامهم المجهدة طمعاً في أخذ قسط من الراحة والتزود بالطعام والشراب، كان الأمل ينعشهم أكثر كلما اقتربوا، لكنهم لم يدركوا أنهم يسيروا وسط منطقة محظورة بين عشيرتين متحاربتين في منطقة قاع القيضي، كانت المساكن تحيط بهم من اليمين والشمال، ولفتت أشكالهم المريعة ومشيتهم غير المتناسقة الأنظار إليهم، فبدوا مثل أشخاص مشبوهين متنكرين يحملون بضع بنادق أو عصي، وقد اشتبهت بهم عيون الرقباء من الطرفين، وخرج الأهالي من مساكنهم وأطلقوا النار عليهم من اليمين والشمال، وأصابوا الحمار، ثم قذفوهم من الجانبين بالأحجار حتى سالت الدماء من أجسادهم، وضاعت جهودهم وأصواتهم وسط الصيحات العارمة المجنونة، كان الكبير غيث مستلقياً أرضاً ينزف من أجزاء متفرقة في جسده، وبعد مدة من الرجم الأليم، فطن إلى ضرورة القيام بحركة ما لإيقاف المهاجمين قبل أن يقضوا عليهم، فهو كبير قرية، ويعرف بعض التقاليد المتبعة والأفعال الحاسمة المؤثرة. وقد هداه عقله إلى ضرورة أن يرفع خرقة بيضاء معلناً استسلامهم وإذعانهم للتقاليد في تلك المنطقة، ولكن من أين له خرقة بيضاء في تلك الساعة العصيبة! ناهيك عن جسده الخائر المثخن بالجروح، لم يكن هناك سوى حل وحيد مخجل، فخلع سرواله الداخلي الناصع البياض خلسة، ونهض بتثاقل ورفعه عالياً على رأس إحدى بنادق الجنود، واكتفى بذلك، فتوقف أولئك الرجال على الفور وصاحوا على بعضهم أن يتوقفوا، لأن هناك من يرفع الراية البيضاء طالباً الأمان والجنوح للسلام، واقتربوا بحذر ليعرفوا ما لدى الرجل من رأي. ولما رأوا السروال عن كثب استبد بهم الغضب، واعتبروا أن ما حدث استهانة بتقاليدهم وإساءة كبيرة وجهت إليهم، وتقدموا صوبهم ناقمين، وعند ذلك لمحوا ملابس الجنديين الجريحين، وزيهما الرسمي الموحل والبنادق الملكية المميزة التي على أجسادهم، كان الجميع جرحى ينزفون ماعدا المرأة التي استترت وصغيرها خلف الحمار الميت، عند هذه الوهلة، وجفت قلوبهم، وأحسوا بذنبهم الجسيم، إذ اعترضوا سبيل جنديين ملكيين وأراقوا الدماء على أزياءهم الرسمية، كما جرحوا رفاقهم أيضاً وقتلوا حمارهم، أي داهية حلت بهم وأعمت عيونهم؟ وحين ذلك لطموا جباههم وعضوا أصابعهم حسرة، ولعنوا الأرض المتنازع عليها، ثم اجتمع المتخاصمون من العشيرتين بشكل غريب وغير مسبوق، وقرروا همساً أن يؤجلوا خلافاتهم الحقيرة حتى يخرجوا من هذه الورطة الكبيرة التي ستكلفهم جميعاً حياتهم، واتفقوا أن يردوا إلى الجنديين ورفاقهم كرامتهم المهدورة، ويستضيفونهم إلى الأبد، لأن رجوعهم إلى الإمام أحمد وهم بهذا الحال المزري لن يكون مأمون العواقب.
وسرعان ما جثا رجال العشيرتين عند أقدام الجنديين ورفاقهم معتذرين طالبين الصفح، وبالغوا في إبداء أسفهم حتى كسروا أغماد خناجرهم وداسوها تحت الأقدام للإعلان عن فداحة ما اقترفوه، وادعوا أن ما اقترفوه هو العيب الأسود، ووصفوه بالخزي الذي يلطخ الجباه والوجوه، والعار الذي يرغم مولاه على تقديم أهله وماله ليخدموا من أسيء إليهم، ثم نشروا شيلانهم على الأرض، ورفعوا أياديهم في الهواء، وأطلقوا ما يسمى ترحيب الصوت، وهو فعل حاسم في تقاليدهم ينم عن ضرورة الضيافة، وفي مجمل الأحوال لا يُقبل الاعتذار أو الرفض، وقبل الجندي عابد ورفاقه طلب الضيافة، فهم بحاجة إلى الراحة ومداواة جروحهم. وقد فهموا أن هذه التقاليد لا يمكن مناقشتها أو تجاهلها، لا سيما بعد أن كسرت الأغماد الخشبية ونشرت الشيلان أمامهم، وقد همس الكبير غيث حاثَّاً فرحان وامرأته على عدم اعتراض قرار الأهالي:
ـ قضي الأمر، سنعتقل في ضيافتهم إلى أجل غير مسمى، لا تتعبوا أنفسكم بمناقشة تقاليدهم، سيضطرون إلى قتلنا لو لم نقبل النزول في ضيافتهم، احترسوا.
هز فرحان رأسه بألم وهمس قائلاً:
ـ نعم، هذا ما أتمناه، ليتهم يسرعون في استضافتنا ومداواة جروحنا، انظر إليهم، مازالوا يتجادلون.
كان الجدال فعلاً محتدماً بين أفراد العشيرتين، أيهما يأخذ الضيوف أولاً، واستفحل الخصام وارتفع الصراخ، وامتدت الأيدي إلى الحلوق وإلى مقابض الخناجر، صار الضيوف الجرحى يخشون أن تدور معركة فوق أجسادهم، فتنتهي حياتهم دهساً بالأقدام، كانوا جالسين على مؤخراتهم عاجزين عن فعل شيء ما، وقد سدوا آذانهم، طالبين من الله الستر، وحين لم يتوصل المتخاصمون إلى اتفاق مضوا يجذبون الجندي عابد ورفاقه من أذرعهم وملابسهم حتى كادوا أن يخلعوها عن أجسادهم، وظلوا يناشدون زكية عن قرب، ولا يجرؤوا أن يمدوا أيديهم إليها، لأنها امرأة وتحمل رضيعاً، ولو يفعلون ذلك سيلحقهم عار آخر، في النهاية شحن الجندي عابد عبوة البارود وأطلق النار إلى بين أقدامهم، فأجفلوا، واستغل هدوءهم وصمتهم، فحذرهم من خطورة تمزيق ملابس الجندية، علاوة عن قذفهم بالحجارة، وأفصح لهم إن ذلك هو اعتداء على الإمام نفسه، وإنهم إن تمادوا في أفعالهم الفظيعة، فإن مدداً عظيماً من الجند سوف يغزوا أرضهم، ويقادون رجلاً وامرأة وطفلاً وشيخاً إلى السجون المعتمة القذرة التي تغص بالصراصير والنمل اللاسع، وعرض عليهم فكرة القرعة، فوافقوا بصوت واحد ووجوههم يغمرها الهلع والرجاء، ووقعت القرعة بين عشيرتي آل ناصر وآل منصور. وحالف الحظ في ذلك اليوم آل منصور، فتدافع رجال العشيرة بفرح، وزفوا الضيوف على وقع الدفوف حتى أدخلوهم إلى أجمل منزل في العشيرة وهو منزل كبيرها جبل، وهناك جلبوا إليهم أجمل فتيات العشيرة ليداوين جروحهم ويلهينهم ويعوضنهم عن الآلام التي تعرضوا لها.
كان فرحان الوحيد الذي عالج جراحه رجل أسود خشن اليدين، له شارب ضخم كث، يستطيع أن يحشو منه وسادة صغيرة الحجم فيما لو أحسن استغلاله، فكر فرحان بهذا الأمر بتذمر، كانت زكية هي التي طلبت له هذا الرجل، وأمست تضحك بتشفٍ وهي ترى ملامحه المتغضنة الغيورة، إذ كان يرى رفاقه المحظوظين ولا يستطيع الاحتجاج، ولم تطب نفسه حتى طلب لامرأته أبشع امرأة في العشيرة، فأتت إليها امرأة نتنة الرائحة مازالت فضلات الأبقار عالقة على ملابسها وحذاءها، وجعلت تضغط على جراحها وتضع عليها ذرار الفلفل، فيزداد اللهيب والألم، وسرعان ما طردتها، واتفقت وفرحان أن يعتني كل منهما بجراح الآخر.
الطفل كان أكثر حظاً، حيث جلبت له مرضعة، وأصناف متنوعة من حليب المواشي وحساء الشوربة، بينما انصب كل الاهتمام على الجنديين عابد وصالح، وجلب لهما كثير من الهدايا ثمناً للسكوت، وتم تقدير الكبير غيث بفعل سنه وهيبته، وفعلت عشيرة آل ناصر في اليوم التالي أكثر من ذلك لتعوض التأخير في الضيافة، وانتفش جسد عابد دون أن يشعر، وأمسى يتكلم من منخريه غروراً وزهواً، وفي كل يوم تزداد الحفاوة ويبتكر أفراد العشيرتين المتنافستين طرقاً جديدة للترفيه، حتى صار فرحان يخشى أن يميل ميزان حياته إلى الاستسلام لهذا النمط الخادع من العيش، بات الكبير غيث رغم عمره المتقدم، يمشي وفتاة جميلة ملتصقة به كظله. تعتني بجروحه وتدلك ظهره وعضلاته الرخوة وتمسد جلده المترهل، زكية هي الأخرى باتت تستعيد شقاوات أيامها الأولى، وتضحك كأنها في ليالي شهر العسل. لم يحبوا أن يسمعوا من فرحان أي ملاحظة حول ضرورة المغادرة، وتعجب من هذا الحال الهانئ المستمر، وراح يتحدث ونفسه بقلق، كل شيء طيب هنا، ماذا سيحدث بعد؟ لا شك أن هذا سيتغير، وهؤلاء القرويون الأغبياء ـ في خضم تنافسهم ـ لا يكلون ولا يملون عن خدمتهم، وكل عشيرة تصبو إلى قهر الأخرى بطيب شمائلها وكرمها اللامحدود، أمسى الضيوف يتنزهون ويمرون على منازل القرويين، ثم يعودون إلى العشيرة الأخرى الجاثمة في القسم الآخر من القرية، فيستقبلون بالترحاب والمباهج، وكأن لا عمل آخر لهم سوى استضافتهم وانتظارهم ليعودوا ثانية. لكنه ضاق بالسعادة والهناء وطارده السؤال عما سيأتي بعد ذلك! وأحياناً أخرى يظن أن ما يجري يدور في المنام، وحين يصحو كل صباح يجد نفسه في منزل غريب، مضت أسبوعين عليهم وكأنها يوم واحد، قضى فرحان الليل بمفرده ساهراً، وعند الفجر تأمل زكية، كانت بجانبه مستلقية شبه عارية تفوح من جسدها الأدهنة المرطبة التي تستخدمها العروس ليلة الزفاف، وقد أشرق وجهها، ولاحت طراوة جسدها وبضاضته، فلكزها في جنبها قائلاً بتهكم:
ـ هيه، زكية أفيقي، أنت تشخرين في نومك. هيا، نحن راحلون.
نهضت واتجهت إلى الحمام وهي غاضبة، ومال إلى غرفة الكبير غيث، فوجده مازال نائماً يتبسم إثر حلم سعيد، فهزه وهو يناديه:
ـ هيه، كبير غيث.. كبير غيث.. انهض، يجب أن نذهب.
ـ فتاتي الجميلة….
ـ لست فتاتك، أنا فرحان، تبدو كمراهق عجوز، انهض.
استيقظ الكبير غيث، وجعل يدعك عينيه ليرى بوضوح، ولما رأى وجه فرحان استاء قليلاً، ثم شعر بالخجل حين تذكر حلمه، ونهض متثاقلاً، والتقوا بزكية في الخارج وهي تحمل الطفل في حجرها، ثم أخذوا يوقظون الجنديين، واقتضى انتشال عابد من حلمه السعيد وقتاً، وقام وهو يشتم ويلعن من نزعه من جنة النوم الوارفة الظلال، وتم تذكيره أنه جندي ويتحتم عليه أن يعود إلى عمله، فاقتنع بذلك، وأيقظ رفيقه صالح، وخرجوا خلسة متسللين وفروا كالسجناء.

_______________
*من مجموعة “أوهام العظام المقبورة” للقاص والروائي اليمني بسام شمس الدين، وهي مجموعة لم تنشر بعد.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الزهايمر

السيد التوّي/ تونس   كنت أنتظر دوري ككل مواطن لأسدد فاتورة الكهرباء. ...