فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

قصة وسرد

الزهايمر

السيد التوّي/ تونس

 

كنت أنتظر دوري ككل مواطن لأسدد فاتورة الكهرباء. وكنت أتلذذ الانتظار فالهواء البارد المنبعث من المكيف يغري بالبقاء أكثر فترة زمنية ممكنة وينسيك ولو إلى حين حرارة الطقس في الخارج. الطقس في شهر جويلية التونسي قاتل لا سيّما في الأحياء الشعبية بالعاصمة ولا يتحمّله إلا من نالوا نصيبًا من الرفاهية. ففي النهار تزأر الشمس منذ الصباح لتكون في الظهيرة أشبه بتنين ينفخ نارا فيختبئ الناس في بيوتهم حيث تبدأ هناك فصول من مسرحيات واقعية مضحكة لا تنتهي إلا بحلول المساء؛ الآباء ينشدون النوم في القيلولة وخاصة في أيام الآحاد لكن هيهات فضجيج الملاعين لا ينقطع، فالأطفال في أحيائنا الشعبية لا يخافون التنين ولا فرس للقيلولة يركبهم جنّ مارد بمجرد أن يقتنعوا أنه عليهم الهدوء لينعم الكبار بجرعة من النوم. في الليل يخرج الناس ليملؤوا الشوارع والأزقة باحثين عن قليل من الأنسام تكمد أجسادهم الفائرة. أمّا من أسعفهم الحظ ليكونوا في إحدى الشطوط المجاورة فلا يسعهم أن يستمتعوا بما يجود عليهم البحر من هواء عليل فهم بين الصراخ والغضب ومراقبة الأطفال في عرق ومرق.
واصلت الانتظار تاركا دوري لامرأة عجوز. لقد قررت ألا أغادر القاعة إلا مساء. فكرت أن أنتقل إلى إدارة أخرى زاعما أن لي شان أقضيه، لكنّي خيرت هذا المكان. كنت أتطلع إلى وجوه الحاضرين. كانوا صامتين كأنما على رؤوسهم الطير. أفهم هذا فالتونسي حين يكون بصدد دفع الأموال يخرس. الفقراء فقط لازموا الطريقة القديمة في استخلاص الفواتير وهم فقط من يحتجون على غلائها وليس ثمة غيرهم يقطع عليه النور الكهربائي وهو ليس نورا بل هو ساطور مسلّط على رقابهم في كل مرة يهوي على عضو من أعضائهم حتى باتوا مشوَّهِين بل مسوخًا تمشي على الأرض. ولم يقطع هذا الهدوء المليء بالخيبة إلا رجل عجوز بدت على ملامحه علامات الإرهاق، كان من حين إلى آخر يقول بصوت حادّ ونبرة جادّة: “أيا صليتوش على النبي.” فيرد الجميع: صلى الله عليه وسلم. وكنت أردّد معه وكذلك الموظفون، وفي الوقت الذي ينتظر فيه الحاضرون أن يتكلّم يصمت كأنّه لم يقل شيئا، ولم يمرّ وقت طويل حتى ظهر الامتعاض على وجوه الجميع، قال أحد الموظفين ردّا على مقالة العجوز التي أضفت مسحة من التوتر على الجوّ في القاعة: “ألف ولا يزيه. تعال ياحاج. اش حاجتك.” لكنّ العجوز لم يحرّك ساكنا وإنّما كان يلتفت يمينا وشمالا كأنّ الأمر لا يعنيه، ومصادفة التفتَ فالتقت عينه بعيني فرفع حاجبيْه متعجّبًا فابتسمت رافعًا كفيّ مدّعيًا الاستنكار والاستغراب. اقتربت منه وجلست على المقعد المحاذي له وأنا أردّد: “ريتْ يا حاجْ كيفاش الناس ما عادش تحبْ تصلي على النبيّ.” تجاهلني الرجل وعطس عطسة أحسست صداها في صدري. مسحت شظايا عطسته من على وجه مشمِّتًا: رحمك الله. غير أنّه لم يجبني وأخذ يعالج بمفتاح استقرّ بين أصابعه منذ رايته، أذنه اليسرى التي بدت من كثافة الشعر فيها عشّا صغيرا. تقزّز بعض المتطفّلين من الحاضرين. أمّا أنا فكنت أكتم ضحكة لو خرجت لأسقطت سقف القاعة. تحاملت على نفسي بعد أن ابتعلت القهقهة وقلت له: “صلِّ على النبي يا حاجْ.” لم يجبني العجوز بل سوّى ربطة عنقه ومسح بكفّه على شعره الأبيض الخفيف ثم فتح عينيْه اللتيْن يعلواهما حاجبان كأنهما جريدتان أو ريشتَا حمامة بيضاء وهمس لي حائرا: “بربّي شكون ها العباد اللي في الصالة متاع داري.” فأمسكت يده وسألته عن اسمه، فلم يعتدّ بسؤالي بل نزع يده منّي بقوة وصاح: اخرج من داري. ولم يفهم الحاضرون ما حدث، ومع ذلك علت أصوات الاستغفار والحوقلة ظنًّا منهم أنّ هذا الرجل والدي. لم أخجل ولم أُبْدِ اي انفعال بل لم أبرّر لهم أصلا ما حدث، فأنا أعرف هؤلاء الأوغاد جيدا كما أعرف أي عنكبوت تسكن أدمغتهم. وقبل أن أحاول تهدئة الرّجل جاء أحدهم وكان كما يبدو من وقفته ونظرة عينيه، رجل أمن وقال لي بلهجةِ مؤدب ممزوجة باحترام كاذب: “عيب عليك يا راجل هكه تعمل في بوك قدام الناس.” لم أُعِر كلامه ايّ اهتمام بل فكرت أن أغرس مسمارا في لسانه القميء، غير أنّي اكتفيت بالصلاة على النبي والتفكير في إيصال هذا العجوز بيته، وتساءلت كيف سأرافق في هذا الحرّ مريضا بالزهايمر.

 

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *