فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

قصة وسرد

الغريب

سيرين حسن

ريح شتاء قاسية تنخر عظامهم, تدق لوح الحديد الذي يستر غرفتهم, تحاول اقتلاعه.
مازال الخبز اليابس يحاول أن يترطب بقطرات اللبن الباقية, ليصبح إفطاراً للغد.
هطلت الأمطار, زاد تجمع السيل, تناقل الناس خبر انزلاقات صخرية مجاورة.
– أخرجي قد تنهار الصخرة عليكم, ارحلوا.
– ليس لي إلا هذه الغرفة أين سنذهب ؟ سحبت البطانية التي لم تعد تقوم بعملها في التدفئة, تمددت وسطهم تحتضن هذا حتى يشعر بالدفء, ثم ذاك, تنتظر أن تأتي شمس الغد لتخرج بحثاً عن قوتهم.
انتصف الليل, هدأ المطر, سمعت صوت استغاثة, ظنت أنها تحلم, ارتفع الصوت أكثر, تكرر النداء, ارتدت غطاء على رأسها وخرجت.
تتبعت الصوت بين الأشجار والصخور, انزلقت بالطين مراراً.
شاهدتها من بعيد تصرخ وأمامها جسد ملقى, اقتربت منهما, ساعدتها على حمل جسد الرجل النازف إلى منزلها.
حشرت الأطفال الثلاثة في زاوية الغرفة, أبعدت عيونهم المتلصصة, خرجت لإحضار جارهم.
– ماذا جرى له؟
– لقد أصيب في الانهيار وجره السيل لمكان بعيد لكني تمكنت من سحبه, أرجوك يا أخي ساعده.
وضع يده على معصمه, أذنه على قلبه, مسح الطين عن وجهه, وعاين جرح رأسه.

لم تلحظ المرأة ملامحه, لم تسأل مرافقته عن شيء. وضعت لهما ما تيسر من الطعام وقطعة قماش مبللة تخفف بها الحمى.
في اليوم التالي كانا نائمين, أخرجت الأطفال للعب وأحضرت الخبز المغموس باللبن, أعين الأطفال تلاحق الصحن ولعابهم يسيل.. وضعت الطبق جانباً وانحنت لتبدل الخرقة المبلولة على رأسه, أصاب الشلل يدها, حدقت فيه، أغمضت عينيها لعل الزمن أثر في نظرها, امتد الشلل إلى لسانها.
استيقظت زوجته:
آسفة لإزعاجك أعطيني الخرقة أنا سأبدلها.
لم ترد, انتفضت عندما وضعت المرأة يدها عليها لتسحب الخرقة.
خمسة أيام والحمى لا تفارقه وهي تخدمهم, تحضر ما تجود به السماء عليها من رزق لتقسمه بين أطفالها وبين الغريبين. تضع الطعام وتسرع بالذهاب قبل أن توقظه زوجته ليأكل.
مساءً يشكو أولادها جوعهم فتسكتهم :
عيب لدينا غريب مريض يحتاج للغذاء أكثر منا، غداً سأحاول الحصول على طعام أكثر.
تقرقر معدتها فيلتصق بها صغيرها الذي في الرابعة ليسكتها:
سوف أضغط على بطنك لتسكت إنها تحلم بدجاجه العيد.. أمي هل سيأكل هذا الرجل دجاجة العيد لأنه مريض؟ أتمنى أن أمرض كي آكل القسم الكبير منها..اووو متى يأتي العيد ويرحل هذا الغريب؟
تبتسم وتضمه إلى صدرها.
عندما تحسنت صحته وهم بالرحيل تعذرت بالخروج لجلب الماء من البئر, سلمت على زوجته وأخبرت الأولاد بضرورة توديع الرجل.

عادت بعد ساعة تأملت الدار من بعيد, مدت يدها إلى الباب الذي فُتح لتجد الرجل أمامها وجهاً لوجه.
تسلل الخدر إلى خلايا جسده,”لم تغيرها الأيام؟” قال لنفسه.
أشاحت بوجهها بعيداً آملة أن تكون ذكرياته قد مُحيت.
– شكراً لك لا أدري كيف أرد لكِ صنيعك.. قالتها زوجته وهي تشق طريقها للخروج.
ألتصق الأطفال بوالدتهم, التفت الغريب وفتح ذراعيه ليودعهم, لم يتحرك أحد!
تأملت المشهد بهدوء:
لا بأس يا أولادي هذا الغريب كالمرحوم والدكم.
التفت لها كاد أن يقول شيئاً ما لكنه اكتفى باحتضانهم بقوة.
رحل الغريبان.. استسلمت المرأة لبكاء طويل وهي تحضن أطفالها وتقول لنفسها ” لم يتغير “.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *