فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

تقنية ما وراء القصّ- الكتابة كفعل وممارسة ثورية.. قراءة في “ممنوع من النشر” ل عبير العيسوي

فتحية دبش*

 

الأدب الرقمي ورسائله المشفرة للعالم

________________
× × ممنوع من النشر × ×

ثمة ملك يقف في الخلفية يأخذ كل نص غصبا .. فأخرق كتاباتي لأغرق أفكارها عمدا
أغرقها توغلا في رمزية لا فنية مبررا أو قصدا .. ألتف ألف مرة حول اللفظة وأمحو وأبدل الأخرى وأقطع السرد عند الباب المغلق وقبل إنطفاء الضوء وأستبدله “كما سينمائيا” برعشة شمعة أو فوران للقهوة..
فتخرج لا تمت لذاتي أو لذاتها بأية صلة تذكر
لكنها رائعة ” كما المطلوب ” لا تمس الذات الإلهية.. لا تخدش حياء.. لا تزدري الأديان.. وسادتها دائما خالية.. معممة.. مسبحتها تجاوزت المائة حبة ..
فمرحى للجاهلية الأولى.. وبكل ثوابتها الصدئة……………….

عبير العيسوي
*من ديواني القادم (ممنوع من النشر).
______________

تصدير:

*يقول الكفوي:” الخطاب هو الكلام الذي يقصد به الافهام، إفهام من هو أهل للفهم.”

*يقول بول ريكور:” النص خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة.”

*التواصل عند جاكبسون يقوم على ستة عناصر هي: المرسل، المرسل إليه، الرسالة، القناة، المرجع، اللغة…
_______________

“ممنوع من النشر”، نص نثري قصير، اختارت كاتبته أن يكون عنوانه هو عنوان ديوانها المستقبلي…
للوهلة الأولى يستوقف التوزيع البصري و العلامات القارئَ و يحيله على دلالات شتّى.
و سأحاول قبل الدّخول في مدلولات النّص الوقوف على تشكيله من حيث جملة من العلامات السّيميائية..

اختارت الكاتبة أن تضع عنوان النص بين علامات(×)، اثنتين قبله و اثنتين بعده؛ و هي علامة تقتضي منّا العودة إلى إشارات المرور، إذ هي علامة للإنتباه لأنّ خطرا محدقا غير بعيد، أو لأن الأولوية ليست حقّا، أو لمنع التوقف في مكان ما…
جملة من المدلولات تحيلنا إلى اللفظة (ممنوع) التي تأتي لتكون الملفوظ أو ترجمة العلامة من إشارة إلى لفظ و بالتالي إلى معنى يكتمل ب (من النشر)…

العنوان في حدّ ذاته يحمل بنية سطحيّة هي (المنع من النّشر)/الصّمت؛ و بنية عميقة هي (النشر)/الصّوت.
و إذا كان الصّمت و الصّوت خاصيتين من خصائص الخطاب الشفوي فقد نجحت الكاتبة في التّعبير عنهما في خطابها/نصّها المكتوب بجملة من العلامات… لعل أهمّها التّواتر في استخدام الفاصلة لتحقيق الصّمت بعد الصّوت و قبله؛ إلى جانب استخدام ال(..) و هي علامة تدخل في سيمياء الكتابة اليوم للحذف و الإختزال على غرار الجملة (ثمة ملك يقف في الخلفية يأخذ كل نص غصبا.. فأخرق كتاباتي لأغرق أفكارها عمدا). ذلك أن المبرر الوحيد للنّقطتين قبل ال(ف) هو تعبير عم مساحة من الصّمت المفروض على الكاتب، خاصّة و قد تعدّدت استعمالاتها في النّص.

اجتهدت الكاتبة في استخدام تقنية ما وراء القصّ، ذلك أنّها لا تقصّ على القارئ قصّة نصّها و حسب و انما تخترقها لتقصّ قصّتها مع الكتابة كفعل و ممارسة ثوريّة وجودية فكرية..

هناك علاقة تعسّفية تمارسها الكتابة على الكاتب إذ تملي عليه جملة من المواقف و قدرا من الوعي بالهدف من الكتابة و تقنياتها و أفكارها. كما يمارس الكاتب نوعا من التعسّف على الكتابة فيحذف و يغيّر و يثبت و يطمس من نصوصه كلاّ او جزء حسب ما يقتضيه الحال. و بين التعسفين هناك تعسف القارئ و الظروف العامة المحيطة بالكاتب و الكتابة فتمنع ما تمنع تحت جملة من الحجج الدينية و السياسية و الاخلاقية…

فالكاتب هو ذلك ال (ملك ) الواقف في الخلفية و هو ذلك ال (أنا) الذي يغرق كتاباته في( رمزية لا فنيّة) و هو ذلك الذي تخرج كتاباته ((لا تمت لذات(ه) و لا لذاتها ) )…
كتابات يطغى عليها التعتيم الذي عبرت عنه الكاتبة بجملة من الألفاظ على نحو (الخلفية/اغرق/توغلا/رمزية/مغلق/انطفاء/رعشة شمعة/..)

ينهض النص برمّته على ثنائية الجهر و السّتر، الصّمت و الصّوت، التلميح و التصريح، فيخرج الخطاب عن كونه مجرد إخبار و نقل لما يصطلح على تسميته حقيقة و هي هنا حقيقة ذاتية تحتمل التصديق و التكذيب إلى كونه وسيلة من وسائل التأثير و الإقناع صانعا من فكرة المنع من النشر موضوعه و رسالته للمرسل اإليه.

و إذا كان الكتاب /الورق هو قناة التواصل بين المرسل و المرسل إليه يحتاج إلى مهلة زمنية قد تطول و قد تقصر بين لحظة البثّ و لحظة التلقي فترجئ المحاكمة إلى حين، فإن الفايسبوك/ مواقع التواصل الاجتماعي /الرقمية هي القناة التي عبرها يقع الإرسال و التي تتميز بتقليص المسافة بين المرسل و المرسل إليه بحيث تصل الرسالة و يقع التفاعل في وقت رمزي و بالتالي المحاكمة.

إن الرسالة التي تروم الكاتبة توصيلها مكتوبة رقميّا قبل كتابتها ورقيا هي تلك الحالة من التشظي التي يعيشها الكاتب اليوم في ظل الإنقسامات و التضييق على حريّة التعبير.. فيصبح فعل الكتابة خاضعا إلى وصفة لها شروطها (كما المطلوب، لا تمس الذات الإلهية، لا تخدش حياء، لا تزدري الأديان.. وسادتها دائما خالية.. معممة.. مسبحتها تجاوزت المائة حبة..) فلا هي تعكس ذات كاتبها و لا هي كتابة كما يجدر بها أن تكون.

و هكذا تصل بنا الكاتبة إلى القفلة (فمرحى للجاهلية الأولى.. و بكل ثوابتها الصدئة……….)

لا تكتفي الكاتبة بنقطة ختام واحدة و إنما تضع نقاطا مسترسلة. و تؤثث بذلك، الفراغات بما لا يقال و تترك للقارئ حيّز القول… و لعلّ القول سيكون بثقل القفلة و أكثر.
هكذا تورّط الكاتبة القارئ في مشاركتها خلاصة خطيرة و هي (ماذا نكتب إذا كنا ممنوعين من الكتابة في الدين، في الحب، في الجنس؟) و هو السؤال الذي يرسله النص مشفّرا… إلى العالم.

________________
*كاتبة وناقدة تونسية تقيم في فرنسا

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *