زهرة خصخوصي
جمالية التلقي في جدلية إيقاع السرد والميتاقص في نص “لم أعد” للكاتبة السورية ريتا الحكيم
النـــــص:
لم أعد أكتب
كل نص يتربع على بياض الورق يقتطع مني جزءا..
بشراهة، يلتهمه صباحا.. ظهرا ومساء.
يبدو بدينا تندلق زوائد خاصرته على الهوامش..
تخفي ما أدونه عليها من خربشات.
لم أعد أقرأ
كلما فتحت كتابا يقفز أبطاله، ويتحصنون في حجري حراسا على الكلمات.. لكأنني أعتدي على حدود لغتهم.
آخر مرة قرأت فيها كان شعرا يتأرجح بين نثر وقص واكتشفت متأخرة أنني كنت أقرأ إحدى مسوداتي.
لم أعد أبكي
منذ ان توقف المد عن الانحسار..
واُحتُجزت أسيرة في دخان تبغك.
لم أعد أتذكر
نسيت اسمي.. رقم هاتفي وعنواني،
وأخبرتني ابنتي التي لم أنجبها بعد أنها عثرت عليها في جيب عاشق وسيم يتحين الفرصة لعناقها، واختطاف قبلة من شفتيها.
لم أعد أحلم
صرت أعيد تدوير الماضي وأتكئ على نافذة أطلاله.
لم أعد أتكلم
وجدت في الخرس ضالتي وتنحيت عن مناصب الثرثرة.
لم أعد أتنفس
قطع الأنفاس ولا قطع الأرزاق.. بت الآن ضحية تقلبات مزاج العمر بعد كل ما ذكرته أعلاه.
((ريتا الحكيم (04/ 04/ 2021))
———————–
القـــــراءة:
يجمح التجريب الحداثي الأدبي المعاصر بفعل الكتابة متوسلا بمقولات النظريات النقدية الحديثة، من أجل طرح رؤى إبداعية مختلفة يتجدد معها الأدب والنقد في آن باعتبارهما مجالين تحقق أحدهما بكينونة الآخر، بشتى الوجوه الممكنة لذلك التحقق وبشتى الآليات المتاحة لذاك الآخر.
وقارئ نص ريتا الحكيم “لم أعد…” يبين له تجل واضح للتجريب الأدبي الذي يستفز مرايا النقد ويستنفر خطاها للتوقف عنده. وهو تجريب تعمد فيه الكاتبة إلى الاشتغال بالإيقاع من جهة، ثم بالميتاقص من جهة أخرى.
1_ إيقاع السرد:
منذ سطح هذا النص يتجلى للقارئ توزيع بصري لفقراته عماده مساحة سطر يفصل بين كل فقرة وأخرى، حتى كأننا أمام مقاطع شعرية.
وفي توزيع هذه الفقرات تتدرج الكاتبة في رسم امتداداتها نحو الانحسار فخصت النصف الأول من النص بفقرات تتجاوز مساحتها الثلاثة أسطر، بينما ضنت على النصف الآخر بتفصيل القول فجاءت فقراته مختزلة شديدة التكثيف، لا تتجاوز السطرين، بل إنا نلاحظ غلبة الإيجاز الذي يسم أربع فقرات (الثالثة والخامسة والسادسة والسابعة) على الإسهاب الذي يسم ثلاث فقرات هي الأولى والثانية والرابعة.
هذا التوزيع الذي يرسم شبكة السواد والبياض أمام القارئ، يشحن النص بإيقاع بصري خارجي يشد هذا القارئ، ويستنفر فيه ملكة التساؤل عن سر هذا التماهي بين تنضيد النثر وتنضيد الشعر.
هذا، ونلج النص فيستقبلنا ترديدٌ للجملة الإسمية المنفية “لم أعد” مع اختلاف الفعل من خبر إلى آخر، في مطلع كل فقرة، كأنه اللازمة الشعرية تستعاد رأسَ كل مقطع، مشكّلة نغمية موسيقية تتجدد مع كل تكرار، موغلة في إغراء المتلقي بقراءة رصينة ترافق النص وتحاوره وتبني ممكنا من ممكنات فهمه واستنباط معانيه وتأويل دلالاته.
وتبدو الكاتبة منهمكة في توزيع أسس الشعرية الإيقاعية في نصها هذا وهي تجعل رأس الجملة الثانية في كل من الفقرة الأولى مركبا إضافيا المضاف فيه هو الاسم “كل” ( كل نص/ كلما)، ثم ترتئي أن يكون فعلا ماضيا مصرفا مع المتكلم المفرد “أنا” ( نسيت/ صرت/ وجدت)، في الفقرتين الرابعة والخامسة والسادسة، بينما تترك المقطعين الثالث والسابع مختلفين تركيبيا، كأنما تكسر بذلك وتيرة إيقاع به تشحن السردَ، إرباكا لاستكانة القارئ إلى مسار سردي منغم، وتذكيرا إياه بأن للسرد سلطانه الذي يدحر الإيقاع بعيدا عنه متى شاء.
هذا الاحتفاء بإيقاع السرد في هذا النص يعصف بالحدود بين قصيدة النثر والنص السردي، فيلتقيان حد التماهي والالتباس على القارئ وهو يتقفى الخيوط الناظمة للبناء النصي الداخلي عساه يظفر بمؤشرات دالة على جنس هذه الكتابة.
ولعل القارئ وهو يتوقف أمام هذا النص توقف التأمل الرصين، يستجلي تواشجا واتساقا بين المسار النغمي الذي يخلقه هذا التوزيع للفقرات والجمل والتراكيب، توزيعَ تكرار واستعادة، وبين شبكة المعنى المنبنية انحدارا من انتهاء فعل الكتابة فالقراءة فالبكاء والتذكر والحلم، ثم الكلام والتنفس، لتبين للقارئ من خلال هذا التواشج بكائية تسكن النص، هي رحلة رثاء الذات وهي تتجرد، كشجرة في مهب ريح الخريف، من معاني الوجود الثاوية في فعلي القراءة والكتابة، التي منهما يمنح البكاء والحلم والكلام والذاكرة سر الكينونة وعذوبته، وتمسي الحياة بانعدامهما اختناقا وغرغرة احتضار.
أهي مرثية الكتابة في زمن زحام النصوص المشبعة خواء؟ أم هي مرثية القراءة في عصر الاحتفاء بالقارئ، تقلده النظريات النقدية أوسمة الشراكة في العملية الإبداعية، وتعليه عروش سلطان الفكر على النص، وهي تهبه مقاليد الحفر الاستقرائي الاستنباطي التأويلي، لكنه يظل إما أسير النص يفرض عليه مناهج القول فيه، أو أسير الذات، يجول بين مسودات ترسمها، وكالغريبة تبحث لها عن موطن قبل المغيب…؟
وإن كان فعل الكتابة الذي يلازمه فعل القراءة هو جوهر الحياة ومعنى الوجود، بتوقفه تتلاشى معاني الوجود الرهيف حلما وبكاء وذاكرة وكلمات تقد أبراد جمال الوصال، وتختنق الروح، فلم هذه المجافاة الجازمة القاطعة؟
في نزعة ميتاقصية بارزة نلفي الكاتبة تنكبّ على تشخيص واقع الكتابة بلغة سردية شعرية، تنثرها في زوايا هذا النص.
2___ الميتاقص وجمالية التلقي:
تقذف الكاتبة بالقارئ في فتنة السرد وهي ترتحل به من كتابة النص إلى القول في النص، فنقرأ: “كل نص يتربع على بياض الورق يقتطع مني جزءا..
بشراهة، يلتهمه صباحا.. ظهرا ومساء.
يبدو بدينا تندلق زوائد خاصرته على الهوامش..
تخفي ما أدونه عليها من خربشات.”، وهو قول تصف فيه الكاتبة علاقة النص بها، كاتبته، وأنموذجا لكل كاتب، علاقة أساسها حمل النص بعضا من ذاتية كاتبه، لكنه في امتداده قد يخبئ مقاصد الكاتب ومراميه الثاوية فيه.
ووعيا منها بتلازم فعلي الكتابة والقراءة، نلفي الكاتبة إلى جانب عرضها رؤيتها النقدية للنص، تكشف عن رؤيتها لفعل القراءة، فعلا يتعصى على المتلقي، وهو يلفي نفسه أمام نص مطيته اللغة المكثفة الرامزة، فكأنها لغة حكر على النص وأبطاله، تعسر على القارئ وتتعصى. تقول الساردة: “كلما فتحت كتابا يقفز أبطاله، ويتحصنون في حجري حراسا على الكلمات.. لكأنني أعتدي على حدود لغتهم”، راسمة بالمجاز في قولها هذا، التعالق العجيب بين النص والقارئ، الذي تتماهى فيه الحدود بين التجريب التخييلي والتجريب النقدي، فتضحي الكائنات النصية التخييلية مستجيرة بالقارئ ومنه في آن، وهو في هذا التماهي يهب القارئ سلطة الحفاظ على اللغة (الكلمات)، ويخشى المبالغة في الاستنباط والتأويل.
ألا تقدم لنا الكاتبة ريتا الحكيم في هذه النزعة الميتاقصية رؤية نقدية مخصوصة لفعلي الكتابة والقراءة؟ ألا يعانق النقد الأدب في هذا النص ويتعالق معه خالقا جمالية تلقٍّ عذبة تضع القارئ أمام تحدي المعرفة وتملك فن السؤال والحفر في النص؟
تشكل ريتا الحكيم بنصها هذا متوالية قصصية تتماهى مع قصيدة النثر، تستنفر فيها إيقاع السرد المتحقق عبر صنوف من التكرار أبرزها التكرار التركيبي الذي صار لازمة في النص والتكرار الأسلوبي، والتكرار الفضائي المتشكل عبر جدلية السواد والبياض. وترسم بالمشهدية البلاغية صورا سردية هي إلى الشعر أقرب، وتتوسل بالتناص ظاهرة فنية تؤصل النص في بيئته الاجتماعية وتشحنه بروح ساخرة (قطع الأنفاس ولا قطع الأرزاق) تتواشج ومنحى الميتاقص الثائر على الكتابة والقراءة الحديثين في مجال النص، كتابة صار الإسهاب فيها، حسب الكاتبة، يخنق تشكل المعنى، وقراءة صارت مرتهنة إلى الذات القارئة الكاتبة في آن، تكاد عليها تنغلق. وبين واقع الكتابة هذا وواقع القراءة ذاك صار القول الأدبي ضربا من ضروب مكابدة وضع “ضحية تقلبات مزاج العمر”، ليلتبس بهذا التعبير على القارئ مفهوم العمر: أهو العمر الجسدي للذات الكاتبة؟ أم هو العمر المادي لفعل الكتابة والقراءة؟ أم تراه العمر التاريخي للحداثة الأدبية التي يكاد التجريب فيها يضحي مزاجا متقلبا؟
هكذا ارتأت ريتا الحكيم أن تكتب سردا كشعر، أو شعرا كسرد، وأدبا كأنه النقد، في جمالية نصية يتجاور فيها القص والميتاقص، ويتحاور فيها الشعر والنثر، وتناور الكاتبة القارئ لتحقق فتنة القراءة المفضية إلى تجربة الكتابة فيتعالق التجريب الأدبي والتجريب النقدي وتتسع رقعة السؤال عن كنه الوجود الأدبي المعاصر ومساراته وآفاقه.
* كاتبة وناقدة تونسية