فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

طه أحمد سعيد.. ناسج قميص الدهشة الذي طال غيابه

عبد الله محمد الشميري*

من وجوه المشهد الإبداعي في اليمن الذين انقطعوا عن الساحة الأدبية منذ سنوات عديدة واختفوا عن الأضواء الشاعر طه أحمد سعيد، وطه شاعر مبدع عُرِف في الأوساط الأدبية في بداياته باسم طه الشميري نسبة إلى منطقته «شمير»، قبل أن يستبدل لقبه بلقب أسرته «الضبابي»؛ لتظهر نتاجاته اللاحقة باسم طه الضبابي، ثم ليستقرَّ أخيرًا على الاسم الذي أثبتناه في بداية هذه المقالة.

وفي هذه الوقفة سأحاول تسليط الضوء على جوانب من تجربة طه أحمد سعيد الشعرية في محاولة لإعادة التعريف بهذه التجربة الغنيَّة وصاحبها بعد سنوات طويلة ظلَّ فيها الشاعر وتجربته طيَّ النسيان نظرًا لعامل الزمن، وكلِّي أمل أن يعود طه من مدارات الغياب، وأن يواصل تجلِّياته الشعرية المدهشة، وخاصةً أن غيابه المفاجئ عن الساحة الأدبية كان في لحظة وصلتْ فيها تجربته الشعرية إلى أوج نضجها وتوهُّجها.

أصدر طه أحمد سعيد ديوانه الشعري الأول «عجالة على قارعة الصمت» عن دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة بدمشق عام 1998م، ثم أتبعه بديوان آخر عام 2001م حمل عنوان «مداهمات لفائض الحزن» وأصدره عن مطابع اليمن العصرية بصنعاء، وختم إصداراته عام 2004م بكتاب جمع فيه مختارات عن صنعاء لعدد كبير من الشعراء والمثقفين اليمنيين والعرب وحمل اسم «جمهرة السنا وذوائب الهمس: صنعاء في عيون عشاقها».

وطه من مواليد 1971م، وهو عضو في عدد من الكيانات الأدبية والثقافية، منها اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، والنادي الأدبي اليمني، ونقابة الصحفيين اليمنيين، ومؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون.

ولنُطلَّ على شاعرية طه سأتَّخذ من ديوان الشاعر الثاني «مداهمات لفائض الحزن» معراجًا بكم إلى عالمه الشعري؛ ذلك أن هذا الديوان تحديدًا مثَّل تجربة شعرية مغايرة، ولعلَّه هو التعبير الأمثل عن المدى الذي وصلت إليه شعرية طه إن على مستوى اللغة أو الصورة.

مداهمات لفائض الحزن

نظرة في الشكل:
بالنظر لطريقة تقسيم الديوان نجد أن طه قد قسَّم الديوان وفقًا للعنوان «مداهمات لفائض الحزن» إلى عدد من التقسيمات ابتدأتْ كلٌّ منها بكلمة «مداهمة» فكانت سبع مداهمات، وهي تباعًا: مداهمة الحنين، ومداهمة الحزن، ومداهمة الحيرة، ومداهمة اللوعة، ومداهمة العُجب، ومداهمة التجلِّي، ومداهمة المآب. وكل مداهمة من هذه المداهمات تحتوي على مثنى وثلاث ورباع من القصائد تتنوَّع بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة، فيما يواجهنا في بداية كل مداهمة هامش لتلك المداهمة قبل الولوج إليها ويتمثَّل في نص أو أكثر من قصيدة النثر.

ويبدو أن طه في تلك المرحلة التي رافقت إصدار الديوان كان يمرُّ بمخاض وإرهاص لكتابة قصيدة النثر، وبداية لبلورة قادمة للكتابة على هذا الشكل الشعري الأجد، ويمكن التنبؤ بذلك من خلال إشارتين مهمَّتين:
أولًا: أن قصيدة النثر لم تتَّخذ لها مكانا أساسيًا داخل المتن الشعري لهذا الديوان، حتى أن طه لم يدرجها ضمن الفهرس الخاص بقصائد الديوان، واكتفى بها في بداية كل مداهمة كهامش لها كما ذكرنا آنفًا، فكانت قصيدة النثر في هذا الديوان أشبه بمدخل إلى القصيدة الموزونة سواءً بشكلها العمودي أو التفعيلي.
ثانيًا: أن الشاعر نفسه يذكر في مقدمة الديوان أنه لا يحبِّذ كثيرًا هذا النوع، ولا يدَّعي إجادته، ويصفه بأنه يشبه قصيدة النثر ومنه ما يشبه القصة القصيرة جدًّا، إذ كتب: «سيجد القارئ العزيز في هامش الديوان ما يزيد عن ثمانية نصوص حرَّة، بعضها أشبه بقصيدة النثر (…)، وهذا النوع يجيده الكثير من شعراء الحداثة في بلادنا، وإن كنتُ لا أحبِّذ كثيرًا هذا النوع، ولا أدَّعي إجادته، وبعض تلك النصوص أشبه بالقصة القصيرة جدًّا…».

ومن الإشارات التي تتمحور حول الشكل الشعري في هذا الديوان طريقة إيراد أبيات القصائد العمودية؛ إذ نجد بعثرة لأبيات الشعر العمودي وظهورها على هيئة أسطر، وهو يشير لهذا في مقدمته: «كما قمتُ أيضًا ببعثرة البيت الشعري الواحد في القصائد العمودية المقفَّاة، وأعدتُ كتابته حسب الفقرة أو النفس الشعري، وأحيانًا كثيرة بشكل عشوائي مغاير لشكل البيت الشعري التقليدي».

ونحن في إطار الحديث عن الشكل تجدر الإشارة أيضًا إلى قصيدة «رجز المفاتن» والتي جاءت أبياتها على بحر الرجز، ولكن بإضافة حركة وسكون إلى آخر التفعيلة الثالثة في كل شطر؛ فجاء كل شطر على النسق التالي:
مستفعلن مستفعلن مستفعلاتن
وشاعرنا طه أحمد يشير لهذا في هامش الصفحة التي وردت فيها القصيدة إذ كتب:
«رجز المفاتن: على وزن مستفعلاتن، وهو الضرب الذي سارت عليه أبياتُ القصيدة، ويُعدُّ ابتكارًا كضرب ثالث يُضاف إلى العروضة الأولى التامَّة لبحر الرجز، إلى جانب الضرب الأول التام (مستفعلن)، والضرب الثاني المقطوع (مفعولن)، وهذا أسمِّيه الضرب الثالث المفتون (مستفعلاتن)».
ومطلع هذه القصيدة:
«واتَرتُها توقًا غرور القدِّ ناهدْ ** نهراءُ يزهو نحرُها دونَ القلائدْ»

وفي قصيدة «رواغ المشتهى» نجد أيضًا مغايرة للشكل الشعري؛ حيث إن القصيدة على بحر الرَّمَل ولكن بأربع تفاعيل في كل شطر كالتالي:
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن
ومطلعها:
«طُف عزيزي وارتشِفْ من ذلكَ المعنى وَشِفْ ** والتحفْ إيماضَهُ الأجلى الذي أُخفي وصِفْ»

وهذا الوزن يُذكِّرنا بنوع مجزوء بحر الرَّمَل الذي يرِدُ الصدر فيه على تفعيلتَي (فاعلاتن) متتابعتن، والعجُز على (فاعلاتن) ثم (فاعلن)، غير أن طه في هذه القصيدة قد أورد هذه الأربع التفاعيل في كل شطر ولم يقسِّمها على شطري كل بيت كما في ذلك النوع من مجزوء الرَّمَل؛ فصارت الأشطر ذات نَفَسٍ شعري طويل، ومن القصيدة:
«كيف يا غيمي تباركتَ المنى هلَّا بها ** من رواغِ المشتهى طيرٌ على قولي يَقِفْ؟»
وهكذا تسير كل أبيات القصيدة على هذا النسق الموسيقي.

سمات فنيَّة:
ومن الشكل إلى المتن الشعري الذي تميَّز بعدد من السمات لعلَّ أهمها انتقاء المفردات بعناية فائقة، والاعتناء بالصورة الشعرية إن من ناحية جدَّتها وبعدها عن الصور المستهلكة، أو من ناحية إدهاشها للقارئ، وهذه العناية البالغة التي يوليها الشاعر طه أحمد سعيد بالمفردات والصور جعلت منه مُقلًّا في كتابته للشعر؛ ذلك أنه كان يبحث دائمًا عن ماء الشعر الحقيقي مفضِّلًا الكيف على الكم.

كما أن عناوين قصائد الديوان تدلُّ دلالة بالغة على ما ذهبنا إليه من هذه العناية الفائقة بالمفردة التي لا تنحصر فقط بالمفردات التي ترِد داخل المتن الشعري، فالعنوان كعتبة للنص يحمل أيضًا سمة الشاعرية المتجاوزة للمباشرة، فمن عناوين قصائد الديوان: «سواسنٌ لذاكرة من حنين، أعراسُ الندى، مواعيدُ دفنٍ مؤجَّلة، رواغُ المشتهى، انثيالاتُ شفةٍ متهدِّلة، نغمٌ من ضباب».

ومن السمات التي امتاز بها الديوان الغنائية أو الوجدانية من خلال التعبير عن العواطف الجيَّاشة والانفعالات الذاتيَّة، ويبرز الحب كثيمة أساسية للديوان.

نماذج من قصائد الديوان:
سنتوَّقف مع مقتطفات من بعض قصائد الديوان، على أننا لن نقوم بتوزيع أبيات الشعر العمودي كما في الديوان على النحو الذي تطرَّقنا إليه عند حديثنا عن الشكل لضيق المساحة، والبداية ستكون مع قصيدة «أعراسُ الندى» وهي عن شاعر اليمن عبد الله البردُّوني:
«نارٌ يراعُكَ لم يخبُ بهِ الأجَلُ ** ماضٍ شراعُكَ كي يرسو بنا الأملُ
نهرٌ غناؤكَ صدَّاحٌ إلى زمنٍ ** يُنبي إلى نائمٍ يصحو فينفعِلُ
الناسُ في فلكِ الحاجاتِ سائرُها ** وأنت فُلْكُكَ فِكرٌ باعثٌ هَطِلُ»

وفيها:
«أعمى يُطرِّزُ للدنيا جنائنها ** والمبصرونَ على نسجِ الأذى جُبِلوا»

وفي قصيدة «نبضُ السكون» تتباطأ اللغة على إيقاع تكتكات الساعة، وما تُحدِثه في نفس السامع من شعور بالسكون فيكون الهمس:
«تكْ… تكْ… تكْ
وبيني وبين التي لا أراها
زمانٌ من التكتكاتْ…
كيف أُدني المساءات؟
بل كيف أخلعُ عن كاهلِ الليلِ أشباحَهُ
أو أُلبِّسَ هذا السكون صَدىً
من صدى التكتكاتْ؟…»

وفي نفس القصيدة:
«تكْ… تكْ… تكْ
والدُّنا تكتكاتْ
حالَ دوني ودوني
زمانٌ من الضحكاتِ التي لامَسَتْني
فجُنَّتْ يداي
زمانًا تخربشُ وجهَ الفيافي
وترسمُ للشمسِ صورتَها ذات إشراقة
في الغروب ..
حال دوني ودوني قوافٍ مدلاةْ ..
كنت في نهرها قمرًا أطفئُ الليلَ
شمعًا على نورهِ تسهرُ العاشقاتْ»

ومن قصيدة «احتفاءُ الياسمين» نقرأ:
«حين تبدينَ في حُلَّةٍ
منْ سماءٍ وماء
تشعلينَ الصباحاتِ لونًا
بلونِ الأماني العِسَال …
يتعرَّى الصباحُ ،
وتأْتمُّ كل الفراشات
إضبارةً من عنانِ السماء …
موجةً من أريجٍ يناثرها
شعركِ الفوضويُّ الهواء…
يترامى الهوى
قبلاتٍ ينمِّقُها العاشقونَ
على مرفأٍ للوفاءْ…»

ومن قصيدة «حوارٌ بين عاشقين» وهي قصيدة تتكوَّن من مقاطع حوارية بين عاشقَين، وكل مقطع يضمُّ بيتين على بحر السريع ويتفرَّد بقافية خاصَّة به، وهي حوارية عذبة تطفح بالغنائية والعاطفة، نختار منها:
«هو:
مغرورةُ النَّهدينِ لمْ أفهمْ ** حوَّلْتِني من دَهْشَةٍ أبكَمْ
أحتار هل يحكي لساني الهوى ** أم أحفرُ الأسرار في المعْصَمْ…»
«هي:
يا سيِّدَ الأصداف واللؤلؤْ ** أخفيتُ ذاك السرَّ في البُؤبؤْ
أبكي ولا يدرون ما أشتكي ** وأشتكي والقلبُ لا يجرؤْ»

ومن القصيدة أيضًا:
«هو:
يا طفلتي لمْ تكبري أكثرْ ** ما زلتِ في بحر الهوى طِفلهْ
تخشينَ من بوحِ الهوى ، والهوى ** يفشيهِ لحظُ العين في وَهْلَهْ»

ومن قصيدة (فائض):
«ينامُ فتنتابهُ الأزمنَهْ ** فيحلمُ في غَفوةٍ مُمكِنهْ
ويسترقُ السَّمعَ حتَّى يرَى ** بأذنٍ مُفَارِقةٍ دندنهْ
أسيفًا يداعبُ وجْهَ الغيومِ ** وينثرُ أحْلامَهُ المُحزنَهْ»

وفيها:
«ويسألهُ الوجَعُ المستبدُّ ** أيهطلُ غيمكَ هذي السَّنهْ؟…
فينسابُ خيطُ الدخانِ الكثيفِ ** وترتدُّ للسائلِ الأدخنهْ
لهُ حلمُ تلك الحياةِ البسيطِ ** وللهِ في عفوهِ مأذنَهْ»

ومن قصيدة «نغمٌ من ضباب»:
«إليكِ أسوقُ الهوى يا طروبْ ** شفيفًا كترتيلةٍ في الغروبْ
تموسقَ من لمعةٍ من لماكِ ** وأورَق كالسيسبان الرَّضوبْ
تساقَطَ كالبَرَدِ المخمليِّ ** حثيثًا على وجنتيكِ يذوبْ
وعشَّشَ كالطَّائرِ البربريِّ ** غريبًا على صَهْوةٍ مِنْ كُعُوبْ»

ونختم بنصٍّ قصير من نصوص هوامش المداهمات، وهو من نصوص «مداهمة الحيرة»، ويحمل عنوان «صفاء»:
«على قارعة الصَّفاء وبهاء السريرة تتملَّكُني رغبة الرغبات الحِسَان؛ فأجدني أدلفُ إلى متاهات الحيرة، أتذكَّرُ بأنَّ عليَّ أن أستبقي قميص الدهشة في مسمار جحا الموغل في جدران السكينة، وأتذكَّر بأن الممشى يتماهى تبعًا لحركة دوران القطبين اللامجدية؛ فأستبقي للدهشة قميصها، ولرحلة الألف حيرة في بلاد العجائب زادها المعجون بتأوهات الأقبية».

شهادة من الدكتور عبد العزيز المقالح:
نطالع على الوجه الخلفيِّ للغلاف الأماميِّ لديوان «مداهمات لفائض الحزن» ما كتبه أديب اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح في يوميات صحيفة الثورة بتاريخ 27 – 4 – 1999م عن الشاعر طه أحمد سعيد تعليقًا على ديوان الشاعر الأول «عجالة على قارعة الصمت»:
«شاعر شاب طموح يكتب قصائده بمنتهى الصدق والعفوية، وبقدر عالٍ من الاحترام لجماليات الشعر، اختار الشاعر لديوانه الأول اسمًا يكشف عن تواضع المبدع وعُمق الدلالة وهو «عجالة على قارعة الصمت»، ومن هذا العنوان في هذا المجاز البارع تتحدَّد رؤيا الشاعر إلى القصيدة، وتتحدَّد معه رؤية القارئ نحو الشاعر؛ فهو يبدأ طريقهُ الشعري بمحاولة كسر جمود الصمت، وهي أمنية غالية لدى كل شاعر كبير بطموحه وغني بمشاعره. تحية للشاعر طه الشميري، والساحة في انتظار ديوانه الثاني».

في ختام هذه المقالة من المهم أن نكرِّر دعوتنا للشاعر طه أحمد سعيد أن يعود من غيابه الطويل إلى فضاءات الحضور والتجلِّي ليدهشنا بشاعريته الجميلة؛ فالساحة الأدبية تزدادُ ثراءً وتألُّقًا بأمثاله من المبدعين ذوي الأصوات الشعرية المتميِّزة، كما أنَّ ما قدَّمه في تجربته الشعرية جديرٌ بأن يخرج للنور ويظهر للعلن مجدَّدًا، وهذه دعوة للجهات المعنيَّة بالثقافة في اليمن أن تعمل على إعادة طباعة أعماله؛ فحياة الأديب تخلَّد بخلود أعماله وتوفُّرها للقارئ والمثقف على مرِّ الأزمنة والعصور.

_______________________

• من المصادر التي قدَّمت ترجمة للشاعر طه أحمد سعيد وتوثيقًا لسيرته الشعرية:
– موسوعة أعلام اليمن ومؤلِّفيه للدكتور عبد الولي الشميري.
– معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين.
– كتاب «شاعر وقصيدة»، وهو من تأليف الأستاذ عبد السلام عثمان، صادر عن مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون ومنتدى المثقف العربي.

• المجهود البحثي الذي قمتُ به لإعداد هذه المقالة ما كان له أن يتمَّ لولا تعاون الأستاذ عبد السلام عثمان -مدير عام مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون- في تزويدي بمعلومات وتفاصيل مهمَّة عن الشاعر؛ لذا لزم تقديم الشكر له.
______________
* شاعر وكاتب يمني
صنعاء – أبريل 2018

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *