خلدون الهلالي
تتناول رواية العراقي “سعد محمد رحيم”، كما يبدو من العنوان “مقتل بائع الكتب” وتنفذ من خلال هذه الجريمة إلى حياة بطل الرواية محمود المرزوق وتجر خلفها حياة أجيال عراقية وسيرة وطن كامل يتقلب في المآسي والخيبات والهزائم والانكسارات. محمود المرزوق رسام وفنان تشكيلي، اعتنق الأيديولوجيا الماركسية منذ سن مبكرة، وهو القادم من وسط برجوازي، ومن عائلة اقطاعية في بعقوبة حيث تدور معظم أحداث الرواية.
علي غرار روائيي الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، يستخدم الروائي “سعد رحيم” تقنية عين الديك ليطل من خلال حدث ما أو جريمة على الواقع السياسي والاجتماعي لبلاده، وهذا ما نجح فيه الروائي باقتدار.
إذ بدت الرواية أشبه بالتاريخ الاجتماعي للعراق وانعطافاته السياسية الحادّه منذ ستينيات القرن العشرين حتى سقوط بغداد ودخول اليانكي الأميركي.
تبدأ الرواية (الصادرة عن دار سطور للنشر ببغداد عام 2016) عندما يتلقى الصحفي “ماجد البغدادي” عرضا أو طلبا من شخص هرم مجهول بكتابة رواية أو كتاب يترصد حياة محمود المرزوق الذي فجعت “بعقوبة” لمقتله؛ ولكن سجلت القضية ضد مجهول ونساها الجميع، بمن فيهم أصدقاءه الذين اكتفوا بكتابة مقالات مقتضبة. يتجه الصحفي المشهور ماجد بغدادي إلى “بعقوبة” التي كانت أيامها مشبعة بروائح البارود والموت المجاني حيث كان يقيم محمود المرزوق، ولاختيار بعقوبة كمسرح تجري فيه أحداث الرواية وتدور فيه كائنات الروائي السردية، أكثر من دلالة وقصدية فنيّة، ذلك لأنها من أكثر المدن العراقيه التي حصلت علي نصيبها المأساوي من العمليات الإرهابية، وأُطلق عليها اسم قندهار العراق من فرط انتشار الجماعات الإسلامية، لذا وقع اختيار الكاتب لبعقوبة باعتبارها مخزون مكاني لكل الفوضى والألم والموت العشوائي والانفلات الأمني الذي عاشته العراق.
هناك تبدأ رحلة التقصي والبحث عن المعلومات، بعد أن تم تزويده من طرف صديقه مصطفي كريم بأسماء أربعة أشخاص كانوا قريبين من المرزوق، من الممكن أن يفيدوه في رحلة بحثه التي بدأت بطريقة بوليسية تعيد إلى الأذهان روايات أجاثا كريستي، حيث النهايات مفتوحه على أكثر من تأويل.
الرواية أشبه بالمتاهة، تقترب من فكرة الأحداث في “ألف ليلة وليلة” حيث تتناسل الحكايات وكل حدث أو خيط يقودنا إلى رواية مستقلة عن محمود المرزوق، فبعد أن كسب تعاطف القارئ مع مقتله الغامض بدا من خلال ذكريات أصدقاءه ومراسلاته مع صديقاته شخص بوهيمي ماركسي وجودي لا يقيم وزنا للأيدلوجيا وللأديان ومن الوجود برمته.
محمود المرزوق العائد بعد سلسلة من المنافي في باريس وتشيكوسلوفاكيا راجعا إلى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين؛ ليقتل خطئا وبمجانية كما كل الأشياء التي لا قيمة لها، يموت برصاصات مجهول لمجرد الاشتباه بأنه عنصر استخبارات يقلق الجماعات الاسلامية. يلجأ الروائي إلى استخدام تكنيك ذكي، حيث يقص الرواية على لسان الصحفي ماجد بغدادي الذي يخبرنا في الرواية بأنه صديق للروائي سعد محمد رحيم، بل يصل به الحال إلى درجة نقد أعمال الروائي سعد رحيم كنوع من الحياد الذي يلجأ إليه من باب إقناع القارئ أكثر.
الشخصيات الأربع التي نصحه مصطفى كريم بالاستعانة بها هي على التوالي: ابن أخت المرزوق فراس سليمان الطالب الجامعي؛ هيمن قرة داغي أديب كردي وصديق سابق للمرزوق؛ الرسام الذي يعيش في هولندا سامي الرفاعي؛ امرأة باسم مستعار تدعى رباب. كل واحد من هؤلاء يمتلك ذكرياته الخاصة ورسائله مع المرزوق وسيكشف حياته من زوايا وأزمان مختلفة، تبقي القارئ أمام فجوات مظلمة أمام هذه الشخصية، حتى تأتي الرسالة الأخيرة من المنفى اليمني بعدن والتي تقلب التصورات وتضع المرزوق في خانة أخرى لا متوقعة.
والملاحظ خلال قراءة الرواية بأن محمود المرزوق الشيوعي المتحرر من نير الأيديولوجيا، فطن مبكرا لخديعة شعارات اليسار مما تسبب في اعتقاله وسجنه لأكثر من مرة. رباب المعلمة سليلة الأسرة الكبيرة والمحافظة، والتي تصغره بعشرات السنين قدمت للصحفي دفتر مذكرات أسماه كشف حساب يحتوي على شذرات فلسفية تمثل قناعاته بالحياة.
في كل فصول الرواية تعاطف القارئ مع شخصية المرزوق التي هي مرآة ومثال لمثقف الستينات من القرن المنصرم، ذلك المثقف الذي يسير بالشارع ببنطاله الأزرق الضيق وقميصه الساطع البياض وبشعره الفوضوي متأبطا أحد كتب جان بول سارتر أو سيمون دي بوفوار، واضعا الغليون في أحد زوايا فمه.
حتى جاءت رسالة من المنفى اليماني، من شخص يدعى أثير العراقي، الرسالة الصادمة وضعت المرزوق عاريا أمام القارئ.. وبدا سلبيا وشهوانيا ومزاجيا لم يستطع التحرر من موقعه الطبقي كابن لعائلة كبيرة رغم بوهيميته. يقول في بدايتها:
“كلما دخل في حياة امرئ رجلا كان أو امرأة خربها ذلك المدعو محمود المرزوق
إنه علامة قدر مشؤوم، إنه قاتل على طريقته”
بعد هذه الرحلة يأتي صوت الرائد حسن المقدادي الذي يرفض التعاون في البدايه مكتفيا بأنه لا يستطيع تقديم أية معلومات، يأتي صوته ليخبر الصحفي بأنه تم إلقاء القبض على القاتل، حبسنا الأنفاس، ننتظر أن يدلي القاتل باعترافاته، وعن مبرراته
ليصدمنا الروائي بأن القتل كان بالخطأ.
الرواية فاتنة، لولا الإطالة في بعض المواضع التي تصيب القارئ بالفتور، كما في علاقته بجانيت التي أعطاها ما يزيد عن حاجة الرواية، كما يبدو أن الكاتب قد فشل في خلق لغة وصوت خاص بمحمود المرزوق في مذكراته التي عثر عليها، كانت لغتها وأسلوبها وأفكاره محايثة لأسلوب الكاتب ذاته وغير قادرة على الانطلاق في مسارها المستقل. إن الرواية بمجملها عصارة عقود طويلة من تاريخ العراق الحديث، ولو تم حذف أسماء الأشخاص لقلت أنها من تأليف التشيكي ميلان كونديرا، حيث فضاءات العمل وتاريخه الزمني وشخصياته، حيث الأماكن هي: براغ وباريس، والشخصيات: الحسناء الروسية ناتاشا، والموديل الفرنسية جانيت، والفضاء العام: فضاء المعتقلات وتفشي الرعب بعد ربيع براغ والقتل لمجرد الاشتباة، وجهاز الدولة والحزب المفرط في شموليته. لا شيء حز في نفسي طيلة قراءتي للعمل مثل ناتاشا الحسناء الروسية التي تعرف عليها في القطار، عندما كان يقرأ صيادون في شارع ضيق رائعة الروائي جبرا إبراهيم جبرا، وسألته عن لغة الكتاب معتقدة بأنه فارسي، وعندما أجابها سألت عن موضوع الكتاب، وهل الموت أحد الموضوعات؟. كانت تسأل عن الموت لأنها ابنة ديبلوماسي سوفياتي جاء إلى تشيكوسلوفاكيا منتصف الخمسينات، وبعد ربيع براغ تم إعدامه لأنه خائن للقضية، وتحملت هي بدورها وزر كونها ابنة لذاك الرجل فاعتقلوها مرارا وبالنهاية عذبوها حتى الموت.
ولعل أسوأ ما في موتها إيهامهم بأن المرزوق هو من أبلغ السلطات عنها، بهذه الطريقة اللا أخلاقية تدمر الأجهزة الشمولية منظومة القيم والأخلاق، قيم الصدق والوفاء والثقة، وتفشي الشك والحذر وانعدام الثقة بين الناس.
هذه الرواية لم تُزِل الغموض عن بطلها محمود المرزوق فقط وإنما كشفت كل التشوهات في تاريخ العراق الحديث وانعكاس التسلط والقمع وصراع التيارات الفكرية المتطرفة على أرضها، التي حولتها إلى بؤرة للعنف وأحد مصادر الخوف الكوني الذي ينطلق منها الإرهاب إلى أقاصي العالم وتتصارع على ثرواتها عصابات القوى العالمية.
* كاتب يمني