فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

نصوص

إلى عبد الفتاح بن حمودة

صلاح فائق

 

*قصيدة إلى صديقي الشاعر عبد الفتاح بن حمودة، بعد قراءة مجموعته «باب يضيء لك أو لغيرك»

 

*
لنعترف، أولاً بأن الكومبيوتر أذكى منا
فهو يتعلمُ، يشخّصُ أنماط تفكيرنا وسلوكنا
وهناكَ فرقٌ كبير بينه والطبيعة الشريرة
التي تحيطنا بلا مللٍ وتسببُ لنا مصائب الزلازل
والعواصف والفيضانات وغيرها.
رهاننا صحيحٌ عليهِ إذن
نحن لا نستطيع التنبؤ مثله
لذا نلجأ إلى ذئابنا الداخلية كي نعثر على شخصيتنا
التي تتحركُ ببطء: إذا يقيتَ تراقبُ نفسكَ
لوقت قصيرٍ كل يوم، فلن تحتاجَ إلى زيارة طبيبٍ
مستشفى أو حتى مقبرة.
هذا الكلام منه.
المهم، يقولُ، عليك أن تتفادى الاكتئاب
والتوتّر الذي يسبّبهُ وهمك الكبير
بأنك تتغير بسهولة
لكن للشعر رأيٌ آخر.
ما يراه الشعرُ مشهد غجرٍ يبكونَ
بين قواربَ محطّمة، في الساحل اشجارٌ تنحني
ووسط الأمواجِ سفينةٌ تحترق
أو سعاة البريد يهرولونَ ساعة الفجر
تاركين آلاف الرسائل في حقائب مثقوبة، تلائمُ
ثعابين نحيلة تدخلُ منها وتخرج.
هذا المقطع الأخير بدا عندما خرجتُ من منزلي
ترافقني قمصان أبي.
إنني الآن أسمعُ صوتي وأنا أكتبُ
بينما غرفتي تصغي إليّ حين أقرأ من قصائدي.
حقيقة أخرى هي أنني بحيرةٌ في الصباح الباكر
ثم أتحولُ إلى أحد هؤلاء البشر
وأسهرُ ليلاً عند نبعٍ أتخيله من هدايا مدينتي
التي فقدتها في شبابي.
بعد هذا عليّ أن أواجه محاولات حياتي
وفي ساعة متأخرة من الليل، للاستلقاءِ بين
شفتيْ امرأتي النائمة
إنما في هذه اللحظات أيضا أتذكرني كنتُ لسنوات
أحملُ مرآة على ظهري، مستغرباً من تحديقِ عميانٍ فيها.
لقد اختارتني الأيام لأتحدثَ باسمها في مآتم السجناء
وأن أتحمّلَ مشهدي، وأنا أتطلعُ من خلف شباكي
متجولاً في بلدتي مثل مومياء
*
أصادفُ لوركا في آخر مقعدٍ من حانة
يحاولُ صياغة ماضيه في بلد آخر
لكن أي بلد يختارُ، يهربُ من بوابةٍ أجلسُ قربها
بعد أن تعبتُ من الغناء وسط أسراب عصافير تزورني
كل موسمٍ لأقدم لها مؤونتي من ندى المحيط
وفواكه غاباتٍ تختبىء في أفكاري.
ما جعلني أتكلمُ حول لوركا هو عثوري، قبل أسبوعين
على غزالٍ ميتٍ في إحدى قصائدي
وها أنا أُفَاجأُ به هذا الصباح نائماً تحت سريري
*
نحن نستمرّ في انتحارنا البيئي
نلحظُ شعوباً تهرعُ لزراعة أحجارٍ في جزر كثيرة
حقا ينبغي إخضاع بقية الشعوب لأشجار الغابات
لأننا نواصل قتل أوقاتنا في زراعة كثيفة
أنا أيضاً زيّنتُ مستنقعاتٍ بأحجاري
كي أفهم لغز البراكين، وبعدما بالغتُ في التهام
أسلحة أجدادي.
*
أنا عديم الفائدة بين علماء يبحثون عن سرّ
اختفاء تماثيل في القسم الشرقي من ذاكرتي
لكن هناك شعوبٌ شجاعة تستندُ إلى ذكريات قليلة
وتمزجها بتأمل الكون.
ترشفُ قهوتك بسرعة لتشارك صحراء
حياتك احتفالها بوصول الربيعِ في وعاء كبير من نحاس
ذلك لأنك البعد الروحي لهذا المقهى، والبلدة وهي تحتفي
بك بظلامها الشفاف، ما يجعلُ زرافات تحتارُ كيف تنصبك
ملكاً على نفسك وتسمح لك، في هذه المناسبة،
أن تقيم وليمةً لمكتبة
*
أرى أمًّا لا تحمي صغارها.
هناك آلاف مثلها على هذه الأرض.
هذا من أسرار تكرار مناسباتٍ وطنية
منها ذكرى قتل أسرتي في أحد الوديان.
غادرتُ قريتي لأني لم أرتكب جريمةً
ولا شتمتُ حارس غابة.
هكذا أدركتُ أن حرباً أهلية تبدأ
بخيانة أحد جيرانك لك،
ورغم أن الأطفال يذهبون إلى المدارس
ملوّحين إلى دباباتٍ وإلى جنودٍ ينتحبون.
صعب عليّ أن أواصل سردي بينما الجرحى
يقاومون رغبتي للاقتراب من بيت العدالة:
أخيراً أقتنعُ بأن الحرب تبدأ
بعد أن تموت العدالة أو بالرغم منها.
*
تنتبهُ إليك اشجارٌ عائدة من كهوف
وأنت تمزّقُ شاشتك التي تركت عليها وصاياك
وبعض ما بقي لك من أمسيات.
ليس الشاعر غير ما تحت قدميه وتقبيل الجبهة العالية
من مفردات روحه، حين يقبضُ على مطرٍ غزير
ويقلصه إلى جحم نافورة صفيرة
أو يهيمنُ على جسده المنهك ويحوله إلى ثعلبٍ يبكي.
لا أشكو من موتي المبكر بين جدرانٍ من هواء
أمضي صامتاً إلى نبيذي، أشرب
فيسكرُ ظلي بعد ساعةٍ ويترنح أمامي:
يسعده أن القارورة هدية من راهبة كانت نادلةً
*
تجمعُ مفرداتكَ من شواطىء
تراها تتهامسُ ما إن تتجهَ إلى أحدها
وليست بعيدة عاصفة تطاردُ مومياوات
لن أتدخل بينهما، فهي مغطاة بفراشات.
هذه مملكتي. لستُ رجلاً حزيناً لأني بلا امرأة
ذهني مشغولٌ بحشدِ سنابل في رأسي
وبعمّال مطرودين منذ سنين
*

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *