فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

قصة وسرد

شاخصة…

محمد جميل خضر

 

لا أحد يريد أن يصدقني.. على امتداد الشارع الطويل المتفرع المستقيم المحتشد بالخلق المسكون بالصمت والوحشة والكلاب. على امتداد تهديدي أن الثورة لا بد أن تقوم إذا بقي الوضع على ما هو عليه.. لم يرغب أحد من المارّة أو الواقفين أو المتجمهرين وعلى وجوههم ملامح غضب وانتظار، بتصديقي.. لم يرغب بعضهم، حتى، بالاستماع إليّ، أو أخذ تحذيراتي على محمل الجد…
تطلعت حولي علّ أحد أولادي يتصادف أنه بالجوار فيحنو عليّ قليلاً، لعله يمنحني بعض الثقة والثبات اللائي كنت بأمس الحاجة إليهما في ظل شكوك النظرات، وما وصل، سأقول دون خجل، ما وصل إلى حدِّ الاستهزاء.. تخيلوا؟! نعم الاستهزاء، وإلا فما تفسيركم لحركة بائع المحارم الورقية بأصابع يده اليمنى الخمسة، حركة شبه دورانية من أعلى إلى أسفل قريباً من فص دماغه الأيمن أيضاً؟ أليست الإشارة نفسها التي كنا نستخدمها لنقول عن أحدهم إنه معتوه: “دعكم منه إنه معتوه”.. غريب أمر بائع المحارم هذا، لو كنت مكانه لقاربتُ الثورة (المزعومة) من قبلي كمصدر تنامٍ لرزقي وبيع محارمي.. ألن تراق دماء خلال الثورة؟ ألن تبكي أمهات فلذات أكبادهن الذين هربوا من حصص التلقين نحو ساحات التمرد؟ ألن يحتجن أمام هذه الدموع جميعها لمحارم يمسحن بها بعض هذا الدمع وبعض ما يرافقه من مخاط وخروج مدوٍّ عن مألوف الناس وما تعارفوا عليه من حرص على القيافة والكياسة والبروتوكول؟؟؟
في الثورة لا قيافة ولا كياسة ولا بروتوكول.. هذا ما حاولت إيصاله له علّه يترفق بي قليلاً، ولا يسهم بانفضاض الناس عني… لكنهم على وجه العموم كانوا مهيأين لعدم تصديقي.. (زي اللي بستنوا نكشة) للتمسك بعدم تصديقي، وبدلاً من ذلك، التمسك بتصديق بائع المحارم فقط..
أمشي من شارع لشارع، من حي لحي، من سوق لآخر، من زقاق إلى مرتفع، آمل أن يمر بالجوار صديق قديم، رفيق من أيام النضال الجامعي اللعين، ممن قد يكون تبقى لديه بعض الحماس، بعض صور منسية على جدران غرف صغيرة لغيفارا على سبيل المثال أو للطفل اللي بيبكي… وحدي كما لو أنني ديك الجن الرومي أو تأبط شراً.. أو الشنفرى وقد تأهب لمحاربة كل شيء: الليل والضواري والصحراء والحشمة والظلال والجن والإنس واللصوص والزعماء والوجهاء والأخوة الأعداء وكل شيء…
لا أحمل بيدي كتاباً من أمهات الكتب، ولا من تلك التي تنعم بغلاف سميك صلب المراس، لا أبداً، فقط بعض نصوص أصدقاء جدد، تعرفت عليهم بمحض المصادفة الافتراضية الهشّة: شاعر عراقي يسكب جام غضبه على (العملية السياسية)، صعلوك سوداني يهددها أن قبره سوف يُفتح ذات فوضى، وأنهم لحظتها سيجدون اسمها “ولا أثر لجثتي” دون أن ينسى أن يقول لها، وربما لغيرها، إن: “الروح رمس الأسى والأدمع قيامته”. أينه الآن بله محمد فاضل؟ لماذا لا يأتي ليسندني قليلاً ويحذِّر معي من احتمالات الثورة المقبلة إن بقي الوضع على ما هو عليه. أين عدنان خضر (ليس قريبي بالمناسبة)؟ أينه بذائقته المتطرفة ورسائله التي لا تصل؟ وهل ما يزال يبحث عن امرأة من قمح؟ ويبحث ثم يبحث ثم يبحث.. وعندما يملّ من البحث، يبدأ بمراقبة قطتهم العجوز الهرمة المشغولة طيلة الوقت بأعضائها المتقاعدة..
أينه السوري عيسى الشيخ حسن ليهتف معي: “الغناء الذي جرح خدّ الليل، طائرٌ صغير يبحث عن نهار”، من يدري فربما هذه الكلمات دون غيرها تشعرهم بمدى اقتراب الثورة من عتبات بيوتهم، وموائل استقرارهم؟ من يدري؟ ولكن لا أحد يلتفت نحوي حتى؟ أينها بنيّتي التي درست اللغة العربية وآدابها حباً بأبيها وتقرباً مني؟ أين الناس كل الناس؟ أين من يسمعون؟ أمشي.. تعبت قدماي.. قليلاً تعبت.. حتى لا تقولون بدأ (يتلكك) ويمهد للانكفاء بحجج واهية.. لا لن أنكفئ ولن أنطفئ فأنا أكاد أرى الثورة رأي العين.. جاحظ الكتب يراقب المشهد بانتباه حذر… بعض المارّة يلتقطون صوراً ويمضون على عجل..
الوضع لا ينبغي أن يبقى على ما هو عليه.. هذه بصراحة رسالتي.. وربما أمنيتي.. وصيتي.. ضالتي.. أنشودتي.. أيقونتي.. كيف أقولها.. كيف أوصلها.. كان آخر العنقود عائداً للتو من جامعته.. مزنراً بغضب التردي المحدق بـ(العملية التدريسية).. وبالكاد التقط أنفاسي من مرويته، ليأتي الأكبر منه يضرب أخماساً بأسداس من تغوّل (العملية التطبيعية) ودخولها الندوات والمؤتمرات والحانات والخانات.. لا صوت أعلى من صوت أم العيال تصرخ حانقة على تردي (العملية البيتية) و(العملية الطبخية) و(العملية في أذنها المبتلاة بكل أصوات الشارع والحارات)..
أخبار متلاحقة عن (العملية الانتحارية).. ولكن أليس ما نحن فيه انتحاراً بلا قرار؟؟؟
من أين أتى العراقي أوحد حسن بالآتي: “لا يوفّر الحُبّ خبزاً ولا ماء ولا هواء، لكنّه يوفّر شعوراً جيداً لعيشِ كل ذلك”؟ الثورة هي حب أيضاً يا أوحد، والحرية حب.. والعدالة.. والاستقامة.. ومحاربة الفساد.. وتربية الأولاد.. والأنبياء الصالحون حب..
هل أبحث عن.. عن مجرد مقعد في المساء؟ أم عن ثورة كاملة تقلب فيها المقاعد جميعها ومآقي الدموع ومواعيد النهار؟ كنت سأسأل المغربية ثريا ماجدولين، لكن بعض الإجابة سبقني منها إلينا جميعنا:
“وإِن صدَّكَ مثلا وَجعُ الْفَقْدِ
ورأَيتَ الرَّحيلَ في انْكساراتِ الْمدى
ووجهَ الْغيابِ يتَّسعُ،
إِنْ رأَيت احتمالَ الرَّمادِ
في حُزمةِ النَّارِ الَّتي في يدك،
فلا تَرْسمْ قَسماتِ اللَّيْل وحدكَ
ولا تنْثرْ دمعةً
على مقعدٍ في المساء….”.
لا أحد يود أن يصدقني.. أصرخ.. أستغيث.. أُحَذِّر: إن بقي الوضع على ما هو عليه، فالثورة وشيكة.. وشيكة جداً يا أبناء جلدي بكسر الجيم وفتحها..
أمشي.. رغم أن أحداً لا يصدقني.. لا أتوقف عن المشي مستلهماً “واسعوا في مناكبها”.. دون أن أدري إلى أين يكون النشور.. مرّ بي اليمني محمود الظهري يدندن ما سمعته يدندن به، فهل كان يبحث عمّا أبحث عنه.. نبحث عنه جميعنا؟ لا أدري ولكني سمعته يقول:
“لا أدري أين أنتِ بالضبط ..
لكنني شاعر بك
كلما تعانقت خمس نجمات..
كلما هطل العطر من أزاهير الدهشة..
كلما تسربت الموسيقى من أنامل الحوريات..
كلما فتحت غيمة ثرية أزرارها..
كلما شرعت الملائكة في بناء فردوس جديدة..
شاعر بك
وأنتِ تزفين قصب السكر إلى حقول البُن
وتعلّمين الماء كيف يختفي هنا ليخرج هناك.. بالقرب من عريش العنب
وتقرأين للزهر رسائل ملكات النحل..”..
فهل يبحث عنها؟ أم أنه مجرد هاجس يجوس به خلال الديار؟
حدَّقتُ به كثيراً: الثورة يا محمود.. الثورة آتية لا محالة إن بقي الوضع على ما هو عليه.. مال نحوي بنظرة محملة بالخطايا والمعاني والصور، وغنى لا أدري غنّى أم قال أم أنّ أنينه الحيران:
“ليلٌ وباب موصدٌ وامرأةْ
وأغنياتٌ من شفاه الحريرْ
فكيف تدعوني الى المدفأهْ
وعندي الغنجاء فوق السريرْ”..
وبصدق عفويّ خالص، أنا شخصياً لا أتذكر الآن إن كنت دعوته لمدفأة أم لثورة أم لامرأة.. ولكنها على كل حال باتت عنده (غنجاء فوق السرير)..
شارع طويل متفرع مستقيم مشع بشمس خريفية واضحة غائمة ساهمة ناعمة لاذعة صامتة صاخبة لئيمة سقيمة.. رجال بعين الشمس يكتبون قصاصات زوجاتهم لبائعي الخضرة والطابون.. أولاد بلا كتب مدرسية، يبدو أن العملية فعلاً في غرفة العمليات.. شرطي المرور يلوّح بدفتر المخالفات.. أسأل هل أعادوا تحرير المخالفات للمارّة على أقدامهم؟ هل فعلوها مرة ثانية مع المشّائين بنعالٍ من ريح؟؟ لا أدري كيف ستندلع الثورة وأنا مصرٌّ على كل هذا التشتت في الفكر والوضوح والقراءة؟
عن ماذا أبحث في هذا الشارع الضجران؟ وإلى أين يمضي الناس إن لم يكن سيرهم معي إلى احتمالات الثورة ومعمعانها؟
كثيرة هي الكلمات التي يمكن أن تقال، ولكنني كنت وحدي مثل سنديانة منسية فوق تلة تبعد عن الشارع العام مسافة الأمن والأمان.. لم تأت صغيرتي ولا حتى كبيرتي.. لم يلتحق بي الأولاد الذي أرضعتهم الكرامة مع حليب أمهم.. ولا أحد من الأصدقاء قال لأذهب وأتسلى بالثورة المتخيلة، ولا حتى مها العتوم (شاعرة وأكاديمية أردنية)، حتى أنها لم تكتفِ بالغياب، بل عيرتني بوزر الفقد الذي لم أكن أنا لا صاحبه ولا سببه إن تكرمتم بتصديقي، ومدت لسانها لي متذرعة بسقوط التفاصيل منها وهي تمشي في الشارع الموازي لشارعي الذي أنتظر منه ثورة ممكنة، وأواصل المشي فيه:
“تسقط منكِ تفاصيل
في هامش النص
قد تتركين بيوتًا بسُكّانها
وغسيلاً تعلّقه الأمهاتُ بأهدابهنّ
يطير كأحلامهنّ
وتنسين أنك خرقاء في الحبّ
إذ تكتبين عن الحبّ
كم شارع في القصيدة لم تعبريه
وكم عبرتْكِ شوارعُ لم تكتبيها”..
خرقاء في الحب تهزأ من أخرق في الثورة.. وإن صدقتم ادعاءاتي أن الثورة حب، فتغدو هي خرقاء في الثورة وأنا أخرق في الحب..
أخرق.. أخرق.. الماء يداعب عيني.. اللجة تفور من حولي.. الأولاد (الزعران) لا يأتون.. لا أحد من (العائلة) يأتي.. رغبة جامحة بالصراخ.. طلب ملحّ للعمل.. أي عمل.. أي عمل يشغلني عن الترويج للثورة.. الموج يعلو.. وأنا أخرق.. أغرق.. لم أعد أتبيّن الحروف.. الساحة ليست كما يدّعون ملأى بالألوف.. من أين يأتون بكل هؤلاء الكومبارس؟ الحوت الأزرق يبتلعني.. الخياشيم تخنقني.. جاحظ الكتب يدوّن ملاحظة حول تاريخ عشيرته.. بائع المحارم يصعد بـ(باص) هادر غير هارمونيٍّ على الإطلاق حول مزايا محارمه.. لا أحد يبيع ولا أحد يشتري.. السوق شبه فارغ.. قاع المدينة خاوٍ إلا من لصوصه.. بائع حشيش بدأ يعرض بضاعته على المكشوف.. يبدو أنه اطمأن إلى لا احتمالات الثورة في المتعيّن من وقته وتسويقه الآمن.. ألم أقل لكم إنها بلد الأمن والأمان..
الوضع.. يبقى.. على.. ما.. هو.. عليه.. الليل في شارعي معتم.. المرأة التي تغذ السير نحو الحافلة تعثرت بساق مشرد انزلقت منه على استحياء.. ليس لأنها خشبية من بقايا حروب بائدة.. ولكن لأنه نسي أن يمسحها بالزيت والبودرة صبيحة ذلك اليوم.. الصدى يرتد.. صبيٌّ بالكاد أتبيّنُ ملامحه يغذ السير نحوي.. يقترب.. يقترب.. وأنا أخرق.. الموج يعلو.. وأنا ألهث.. وهو يواصل المسير.. يبدو أنه تجاوزني.. يبدو أنني لم أنجح بجعله يراني.. يبدو أن الموج كان أعلى مني وهو لا يريد أن يشغل مشواره بتفاصيل عفا عليها الزمان.. بالكاد أراه.. بالكاد أسمع وقع أقدامه فوق الشارع الطويل.. الطويل.. الذي على ما يبدو أنه بدأ يقصر أمام خطوات الصبي الواثقة.. يعلو صوت الوقع.. وقع خطواته هو بالذات.. أعلى مني ومن موجي ومن خوفي.

______________
*روائي وإعلامي أردني

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *