رؤى الإرياني
الساعة تُشير إلى العاشرة، كنت أجلس في مقهى الفندق الذي نزلتُ فيهِ لعدة أيام بعد مشادةٍ عنيفة بيننا، حملتُ على إثرها بعض ملابسي وأشلاءُ مشاعري وهربت. لم تُكلف نفسك عناء اللحاقَ بي، ولا حتى الإتصال بعدها وإدعاء القلق !! تنهدتُ، أنهيتُ قهوتي الثالثة، وأخرجتُ علبة سيجارتي بعد إنقطاع دام لأشهر، ثم توجهتُ للشُرفة. كان مساءً خريفيًا جافًا وبارداً، كانت الشرفة تُطل على شارعٍ هادئ ومظلم ذو إنارة واحدة تومضُ لعشر ثوانٍ ثم تُطفأ، تجلسُ تحتها فتاةٌ تبكي! ومضَ الضوء، رأيت شابًا قُربها، كان يبدو من دورانهِ حولها وحركة يديه إنه منفعلٌ جدًا!
“يالها من ليلة لأدخن فيها!” قلتُ لنفسي. بدأ صوت الشاب بالإرتفاع، كان يصرخُ ويوجهُ كلامًا قاسيًا لها، بينما هي ترفعُ رأسها وتبكي وتتحشرجُ كلماتها ! ثم مضى..!
ابتلعهُ الظلام خارج دائرة الضوء تحت الإنارة ! وكأنه مشهد في مسرحية خبيثة تُعرض أمامي لأتألم أكثر!
ظلت الفتاةُ تبكي، عاد الشاب من جديد !! اقتربتُ من حافةِ الشرفةِ أكثر، كان واقفًا صامتًا يتأملها، ثم مضى مرة أخرى!! عدتُ لمكاني فوق الكرسي، واستنشقت نفسًا طويلًا من السيجارة مبتسمة بسخرية: “حسنًا، ماذا كنتُ أتوقع!” ومضَ الضوء، رأيته واقفًا أمامها مجددًا، ظِلهُ يُعانقُ ظِلها، وكأنه يشرح بصمتٍ مابقلبيهما!
اقتربَ منها وكان صوته هادئًا ويحاول أن يضمها إليه ، ولم تسمح له! “تلك الغبية!! كنت أُكلم نفسي، ما بالها؟!
إني قابعةٌ هنا منذُ ستة أيام لا يعلمُ فيها هل متُ أم مازلتُ على قيد الحياة! ثم أنه عاد مرتين ياغبية!!” كانت يدي ترتجفُ ممسكةٌ بالسيجارة، كنتُ أقربها لفمي وهو مُطبقٌ، عاجزةٌ عن فتحه! ومضَ الضوء، رأيتهما واقفين، كان يحتويها بين ذراعيه، وبدا صوت نشيجها واضحًا!
أحسست بدموعي تفر من سجنها أخيرًا، طيلة أعوام كانت محبوسة تحت سلاح حب إنتهازي قاسٍ! ودّعا بعضهما، كان يمسح خديها ثم يمسح على رأسها بحنان، ثم ذهبت، ظل واقفًا يرقبها حتى أختفت.
ومضت الإنارة، بات المكان خاليًا! جلستُ على الأرض، كنتُ أنتحبُ بقهر، هل ماشاهدته الآن هو الحب؟
إذن!، ما الذي كنت أعيشه؟! ما الذي كنتُ أتحمل لأجله؟! بكيتُ حتى شعرتُ بخدر في جسدي وأنا متقرفصة في زاوية الشرفة الباردة. الآن، هل عرفت ياصديقي لمَ أحتفظُ بحرص بـ عقب السيجارة هذا؟!