محمد عبد الوهاب الشيباني**
لم أزل أتذكر بوضوح صورة الفقيد الشاعر محمد حسين هيثم حين جاءني لمسكني مساء 28 مايو 1997 ،ليبلغني بوفاة صديقنا الشاعر “نبيل السروري “… حشرجة صوته الحزين امتزجت بلهاثه، جراء صعوده درج العمارة. فارتسمت بذهني صور مجسمة للفاجعة، التي تقفز الى البال كلما تذكرت ابا “زرياب”.
قبلها بيوم واحد ،محمد هيثم وعبد الكافي الرحبي وانا، كنا في زيارته للمستشفى، وكانت معنوياته مرتفعة جدا ، وبعد ممازحته قال انه قد يكرر تجربة “امل دنقل” ويكتب عن غرفة المشفى ، وسيكتب ليس عن الموت الابيض ، وانما عن الحب الاخضر.
سبع وثلاثون عاما هي كل السنوات التي عاشها نبيل السروري، واراد لعشرين منها ان تكون خاصته هو، يبددها بالتمرد وكتابة الشعر، فمدرس مادة الرياضيات النابه كان سياسياً مختلفا، انقاد للحلم الكبير بواسطة الشعر . ومع ذلك لم تكن ممارسة السياسة عنده ترفا، واستعراضا واشباع رغبة في شرخ الشباب، بل كانت فعلا للمغامرة التي يريد بواسطتها ارتقاء الحلم، وصولا الى مجتمع العدالة والرفاهية, وكان مؤمن بان تيار “اليسار” وحده من يستطيع قطر هذا الحلم ،و العبور بهذا المشتهى الجميل الى ضفة التحقق. في وقت كانت لم تزل سوق الشعارات الكبرى مزدحمة بعارضي بضائع الايديولوجيات في استقطابات الحرب الباردة.
كارثة يناير 1986 كانت اللحظة الاصعب عند نبيل، اذ قادته الى المراجعة العميقة، التي هدمت في ذهنه لاحقا اليقينيات الكبرى، خصوصا ما يتعلق بخيار انتمائه الحزبي، الذي بدأه في “الحزب الديمقراطي الثوري اليمني” ، غير انه مع تباشير الوحدة 1990صار واحدا من مؤسسي “حزب التجمع الوحدوي اليمني” ، ضمن ثلة من المثقفين والكتاب والادباء ، الذين رفعوا شعار (الديمقراطية …المساوة… حقوق الانسان ) ،اذ قدم الحزب بوثائقه التأسيسية ورموزه القيادية ” الجاوي ونعمان وخالد فضل والحريبي و…” صورة مغايرة للخطاب السياسي في بلد انتقلت فيه الاحزاب (غير الحاكمة) من السرية الى التعددية السياسية ، وما صاحب العملية من سيولة وضجيج، كان التجمع فيها اكثر ترشيدا ونضجا في خطابه، خصوصا في مواقفه من القضايا المحلية والاقليمية، وعلى راسها موقفه من دستور دولة الوحدة وتوحيد التعليم ، واقليميا موقفه الرافض وادانته لغزو الكويت من قبل نظام “صدام حسين” في اغسطس 1990، فتحمل جراء ذلك حملات التشكيك والتخوين، من عصبويي السلطة.
وحين جرت الامور بعكس ما اشتهى الحالمون، ومنهم نبيل، بدخول البلاد في ازمات سياسية وامنية اقضت الى خرب صيف 1994، واجتياح الجنوب، بدأت صورة القبح السياسي تلقي بظلالها الثقيلة على الجميع، فشاعت اخطر لحظات النكوص في حياة الناس، الذين دفعوا ثمنها صمتا او مداهنة او بيعاً للمواقف ، لهذا لم يكن امام نبيل الشاعر الرافض لهذه الخيارات القاتلة سوى العودة الى مرابعه الجمالية، التي صارت الملاذ الآمن والحضن الدافئ، فعادت لتزهر في داخله حدائق التمرد الخلاق من جديد، ومنها الانغماس بموضوع الطفولة.
خلال اعوام ثلاثة تفجر نبيل الشاعر والعاشق، الذي اعطي الكلمات روحها وخصبها المختلف، وما كتبه خلال الاعوام الثلاثة، منذ وضعت الحرب اوزارها حتى وفاته، من نصوص ذات قيمة جمالية واسلوبية، تتفوق على ما كتب من الكثير من النصوص خلال سنوات التكوين الاولى ومتبوعاتها من سنوات النضج الثقافي.
بعض هذا النتاج صدر بعد رحيله ، بواسطة وزارة الثقافة عام 1998، في ديوان صغير حمل عنوان (زرياب)، لكن ما يؤخذ عليه انه جُمع على عجل وبدون مراجعة. غير ان المحمود فيه، انه صار الحبل السري الذي يربط القراء بجزء من صورة نبيل السروري الشاعر ، الذي كان في الغالب سيهمل كل حضوره الشعري في ظل لوثة النكران والجحود ، فلا يتبقى منه غير صورة محفورة في اذهان اصدقائه ومحبيه القريبين.
(2)
حُسِب نبيل كشاعر على جيل الثمانينيات ،التي تشكلت اصواته تحت ضغوط الشعارات الكبرى ، فجاءت تجارب معظم منتسبيه اشبه بلازمة غنائية فارطة، حاذرت طويلا الاقتراب من مناطق التجريب خارج الوزن وموضوعات الالتزام ،التي تباعد بين يقين السياسي وتمرد الشاعر. وحدها تجربة نبيل، مع قليل من التجارب، تمردت على القولبة، فبدأت تتلمس حضورها كموضوعات في المهمل والمغيب، وتتعزز كاسلوبيات بواسطة التجريب الكتابي. الذي اكتمل نضجه مع بزوغ عقد التسعينات ، الذي ذاب داخله نبيل، ومثل صوت التمرد فيه، مؤثرا في عدد غير قليل من الاصوات الشابة، التي تماهت بعضها مع تجربته الى حد الالتصاق.
القصيدة الومضة… البياض المتغلغل في ابنية الجملة الشعرية … الصورة البسيطة المتماسكة غير المكترثة بالمفارقات ومحسنات الصنيع, مثلت كلها المتاحات المغايرة التي اشتغل عليها الشاعر بأسلوبه الخاص.
مثل طفل
اجئ ـ
قلبا تعلم منك
حتى خيانة نبضه.
وما كان متعال عليها من اغراض الكتابة عند الشعراء الايديولوجيين، من ابناء جيله، صار مشغلا حيويا في شعره، فالحب والمعاش اليومي كان ملح الكتابة في نصوصه المعتمدة المخلصة لاقتصاد اللغة.
الشبابيك، الحواري، وحل الازقة ،بعض الارامل، صوت “المداع”
الرفاق الذين مضوا باكرا
والدروف العتيقة:
تذكرن حتى الصبايا اللواتي تلصصنه.
مستدركات الطفولة ،حين تجسدت في حضور “زرياب” الابن وانشغالاته، انما كانت تعبر عن الحنين الدفين اليها ،من اجل الاغتسال من اوهام النضج والكبر والحاجة.
الريالات فراشات جميلة
والشميري ـ الذي لا احب ـ
ضوء حارتنا الوحيد
الريالات التي طيرت حلمي
لم تضع يا ابي
الريالات تخبئ نفسها في الزقاق
القريب من البيت.
الجسد النحيل المثقل بالعشق والتمرد، جسد اسلمه صاحبه للاشيئ ، فقط حتى تمر المعشوقة عليه مثل التعاويذ القديمة
مري…
انه جسدي:
اسلمته الان حمى القات و”الفاليوم”
واللاشيء
وهل ابكي؟؟
مري على فرح
فقدناه وضمني بقايا جنونه
الى سلة في الرصيف.
عقدان وعامان من الزمن على رحيل النبيل السروري الشاعر المختلف تمردا وعشقا، وليست مجموعة “زرياب” وحدها تكفي للتعريف بتجربته الشعرية الثرية المتنوعة، فأرشيفه الخاص يحتوي نصوصاً لم تتضمنها المجموعة، التي صدرت بعد رحيله، تحت تأثير الفاجعة والارباك ، وكان التعويل ان تعقبها مجموعة اخرى تتضمن النصوص التي لم يهتد اليها في حينه ، لكن ذلك لم يحدث.
_________________
(*) هذه المادة أعدت للنشر بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته في 28 مايو 2017 بعنوان مختلف قليلا: “عشرون عاما على رحيل نبيل السروري.. شاعر التمرد والعشق”.
(**) شاعر وكاتب يمني.
(***) الصورة للشاعر الراحل السروري، من أرشيف المصور الفوتوغرافي عبد الرحمن الغابري 1993