فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

طوفان مبارك.. رواية سيرذاتية

د.عبدالحكيم باقيس

 

يدخل الشاعر مبارك سالمين* قبل أيام معدودات عالم الرواية بالطوفان*، تصديقًا للرأي الذي يقول إن في التجربة الروائية الأولى أشياءٌ كثيرة من حياة صاحبها، وعلى الرغم مما يبدو من مخاتلة التجنيس في وصفه الكتاب بأنه (رواية) ما يوحي بانفتاحها على التخييل الذي تتيحه الرواية للكاتب أكثر من السيرة الذاتية، فقد جاءت الطوفان مترعة بالإيهام بالعقد السيرذاتي، وبما يوحي بتطابق صوت السارد الذي يروي بضمير المتكلم مع المؤلف الذي يضع اسمه في الغلاف، ما يجعلها تبدو سيرة ذاتية جزئية لحياة المؤلف في المدة من 1977 لحظة دخوله الحياة الجامعية طالبًا في قسم الفلسفة في كلية التربية بجامعة عدن، وتنتهي بعام 1995 عقب عودته إلى عدن بعد بعثة دراسية في تونس، ليطل في صبيحة يوم 7 يوليو 1995 على آثار اجتياح مدينة عدن في يوم 7 يوليو في حرب 1994، ولهذا التاريخ دلالته، ولعله إشارة بالغة الإيحاء والدلالة على انفتاح سجلات المدينة على المزيد من الحروب والصراعات. وتشمل الرواية امتدادًا زمنيًا خطيًا في نحو ثمانية عشرة سنة، نعايش خلالها السارد هذه الحياة في طوفان من التحولات الكبرى التي تقاطعت فيه حياته الخاصة بالتحولات السياسية الكبرى أو الفترة الحرجة من تاريخ الجنوب، لحظة تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني، الذي كان يرفع شعار أن (لا صوت يعلو فوق صوت الحزب) والذي ظلت الرواية تلمح إليه في سخرية مفارقة عدة مرات، والصراعات الداخلية على السلطة بين أجنحة الحزب، والتي أدت إلى الحرب المأساوية في 1986، ثم زمن أفول سلطته في الجنوب بعد حرب 1994 بين الشمال والجنوب، وهنا تكتسب هذه الرواية السيرة الذاتية أهمية خاصة، بوصفها شهادة تأريخية لهذه المدة الأشد حساسية في تاريخ جنوب اليمن، تكتبها بجرأة في شكل روائي إحدى الشخصيات العامة التي ارتبطت بالفضاء الثقافي وبالحداثة الشعرية على مستوى الجنوب، ما يتيح للقارئ أن يطل في أثناء فعل التلصص من على كتف السارد ـ ولعله كتف المؤلف في الوقت نفسه ـ بشغف كبير على زوايا أخرى من مروي الحياة الخاصة والحياة العامة، ومما لم تدونه بعد الذاكرة السردية السيرية.

يلجأ كثيرون إلى كتابة السيرة الذاتية الجزئية أو الكلية في شكل روائي، ربما ليتخلصوا من حرج سرد بعض الأحداث أو المواقف، وذلك يتحقق في الشكل الروائي الذي تضع الذات مسافة بينها وبين المروي، وآخرون يرون رواية السيرة الذاتية أحد الأشكال النصية التي تنحدر من سلالة الرواية التي تتيح للكاتب الحركة في التخييل، حتى وهو يدون جوانب من حياته، ولذلك تأتي الكتابة مراوحة بين الواقعي والمتخيل، وتأخذ في مخاتلة القارئ، فلا توحي بالانتساب إلى جنس السيرة الذاتية، وإنما تتقنع بالإشارة الواضحة إلى التجنيس بوصفها (رواية)، لكن رواية (الطوفان) لا تمعن كثيرًا في لعبة المخاتلة، بداية بالعنوان الثاني الذي يلجأ إلى أسلوب الحذف: (… مررت بها كما تطلبتي) والذي يوشك أن يحسم قضية تجنيس النص، فينتزعه من فضاء الرواية إلى حقل كتابة الذات، فهذه الجملة البارزة بضمير المتكلم، متخمة بالدلالة التي تحيل إلى الذات المتكلمة ورحلتها في حياة عاشتها كما تطلبتها، أو إلى ثنائية المروي: الذات والحياة، فهل لنا أن نقدر ذلك المحذوف بكلمة نحو (حياتي). مهما يكن من شؤون عتبة العنوان، فحين نلج إلى داخل النص تتكشف مستويات متعددة من الإيهام بالتطابق بين المؤلف المكتوب اسمه على الغلاف (مبارك سالمين) والشخصية التي تروي بضمير المتكلم، ولعلّ غياب الاسم العلم للشخصية الساردة مما يعمق ذلك الإحساس بالتطابق، بالإضافة إلى وجود عدد من القرائن في النص، في المتن والهامش معًا، مثل تعدد الإحالة إلى قصائده وأسماء دواوينه المنشورة، وأسماء الأصدقاء الواقعيين للمؤلف (الشاعر جمال الرموش، وأستاذه الشيوعي العراقي توفيق رشدي ـ مثلا) وغير ذلك من القرائن الحاضرة بقوة في النص، والتي لا يجد القارئ فيها إلا أن يعقد تطابقًا تامًا بين المؤلف والسارد والشخصية في كيان واحد، وقد يفعل القارئ ذلك على الرغم من شروط تلقي الرواية، أو الرواية السيرذاتية في النظر إليها بوصفها عالمًا من الخيال الذي ينتجه النص، بعيًدا عن المؤلف الحقيقي.

جاءت هذه الرواية السيرذاتية في ثلاثة فصول اعتمدت التقسيم الزمني الخطي التتابعي؛ الفصل الأول للمدة من عام 1977 إلى 1983، والفصل الثاني للمدة من 1984 إلى 1986، والفصل الثالث للمدة من 1987 إلى 1995، وهو تقسيم زمني تتقاطع فيه رحلة الذات الساردة بالتحولات السياسية العنيفة التي شهدها جنوب اليمن، فنتعرف على الحياة الطلابية الجامعية التي عاشتها، وأجواء الدعاية السياسية، ونماذج من الأصدقاء في سنوات الدراسة والتكوين الفكري في إطار الفضاء السياسي العام الذي تسيطر عليه أجواء قمعية كابوسية على مستوى الحريات السياسية من ناحية، وانفتاحه الكبير على مستوى الحريات الشخصية أو الفردية من الناحية الأخرى، يبدو السارد وهو يعاني خلال هذه المدة ومراحل لاحقة من حياته من تهمة الانتماء إلى حزب البعث، التي كانت سببًا في معاناته ورفض قبوله دخول للحزب الاشتراكي الذي كان يفتح أبوابه بشراهة على الجميع، على الرغم من محاولاته المستمرة التي لم تفلح إلا في مرحلة تالية من حياته، يقول: “وقد أدركت لاحقا ـ بعد تخرجي من الكلية ـ أن هذه التهمة ضدي والتي وصلت إلى أروقة جهاز أمن الدولة كما أخبرني أحد الأصدقاء العاملين في ذلك الجهاز الخطير، إنما هي ربما بهدف إطفاء أي ميل يتَّسم إلى حد ما بحرية التفكير والنقد والمعيش والشعر، لا يروق لكثير ممن كانوا ينتفعون بشعار (لا صوت يعلو فوق صوت الحزب) والذين يضعون على رأس كل شيء (الاتحاد السوفيتي) حتى وإن كان هذا الشيء بل رأس”. ويبدو السارد وهو يمارس وظيفة الانتقاء من حياة حافلة بالمواقف والرؤى السياسية المغايرة للسائد وقتئذ، وحافلة بالمغامرات والعلاقات العاطفية التي “لا ناظم لها، عذرية أحيانا مليئة بالوله والشعر والتوق إلى المثال، وأيروتيكية حسية في أحايين كثيرة، معقدة وكئيبة قد تصل إلى حدِّ الابتذال” كما يقول، ما يسم هذه الرواية السيرة الذاتية بالجرأة بالبوح بما هو سياسي عام مسكوت عنه إلى درجة المكاشفة والإدانة، وما هو شخصي حياتي إلى درجة الاعتراف أو التبرير، في لغة سردية حافة بالسخرية والمفارقة والتركيز، وربما ذلك يعود إلى غلبة صوت الشاعر القادم من خارج النص على صوت السارد الكامن في داخله، فالرواية التي تصف رحلته من سنوات الدراسة بصخبها وبهجتها وقلقها، إلى التجربة الأولى في العمل في أحد المصانع الصغيرة، ثم العمل بمهنة التدريس مدرسًا للفلسفة ونائبًا سياسيًا في إحدى المدارس في عدن، وهي المهنة التي لم ترق له، ثم انتقاله إلى أحد مراكز البحوث التربوية، وسفره إلى الخارج في المؤتمرات والمشاركات الشبابية الشعرية، والدراسة العليا، وسبب زواجه الذي جاء استجابة لشعور بأهمية الاستقرار العائلي بعد حياة طويلة من المراهقة والشعور بالخراب النفسي ـ كما يقول ـ ومجموعة أخرى المشاعر والانفعالات الداخلية والشخصيات والأحداث التي مرَّ بها، كل ذلك كان يُروى في لغة سردية تميل إلى الإيجاز والإيقاع السردي المتواتر.

يقدم السارد وجهة نظره تجاه كثير من القضايا ـ مثلاـ اتخاذ البعض بطاقة العضوية في الحزب الاشتراكي اليمني ـ الذي جمع أشتات من البشر على أساس مناطقي أحيانا ـ بوصفها معيارًا للوطنية في الجنوب، ونظرة الشك والريبة، وتخوين من لا ينتمون للحزب على الرغم من إخلاصهم الوطني، فشل المشاريع التعاونية في الجنوب لقيامها على شعارات عاطفية لا على أسس اقتصادية وتخطيط، انقسام الجنوب في صراع دموي مسلح في يناير 1986 وأثرها العميق في تاريخ الجنوب، ظاهرة المخبرين أو (القعاميس) وهم “من كتبة التقارير الأمنية الذين قد لا يفهمون ما تقول أحيانًا، ولكنهم سيذهبون بك أحيانًا بسبب سوء الفهم إلى ما وراء الشمس”، وغير ذلك من المظاهر القمعية التي سادت الجنوب، ولعلّ خطاب هذه الرواية السيرة الذاتية المكاشف المكتوبة في أيامنا هذه رسالة في اتجاه المستقبل.

وإلى جانب السارد، بوصفه مركز السرد وبؤرة المروي، تظهر الفتاة العدنية (جميلة) بقوة في الرواية، صورة للنموذج الجمالي الذي ظل متعلقًا به الرغم من تعدد مغامراته وعلاقات الأنثوية، واحتفظ لها بخيط سردي من بداية الرواية إلى نهايتها، فتاة من أب يمني وأم أفريقية قديمة، وهي من بنات الطبقة الوسطى العدنية في سبعينيات القرن الماضي، وزميلته في أثناء الدراسة الجامعية، تظهر في صورة الطالبة الجامحة (الخلاسية) التي يتعلق بها الجميع في الكلية، ويتنافسون على استقطابها كذلك، وتتخذ علاقة السارد بها بعدًا رمزيًا ودلالة خاصة، ترتبط بحالة من العشق والتوق، والرغبة في استعادة الذات لهويتها ووجودها، ذلك أن صفات (جميلة) وتحولات حياتها الدرامية تتماهى بالمدينة عدن، يمتزج الحديث عن المرأة بالحديث عن المدينة، فهي “طوفان من الجمال انبثق من بركان عدن، أو هي عدن، عدن المدينة المثال المنبثق من شبه الجزيرة العربية وأفريقيا وآسيا معًا في امتزاج رهيف يفضي إلى العدنية، العدنية التي هي في رأيي الشخصي مسحة الجمال العابر للقارات”، يقول في لغة سردية تجنح إلى أسلوب المفارقة: “مضت الأيام ولم تعد (جميلة) ولم يطل السفر كثيرًا على وصولنا إلى صنعاء، ولكنا وصلنا وجميلة قد اتخذت قرارها بعدم العودة إلى عدن، ووصولنا إلى صنعاء بدونها، جعلني أحس بأن عدن لم تصل بعد على صنعاء، لأن عدن الحقيقية هي جميلة تلك الرائعة التي غابت عنيّ في شمال الأرض، ولم تأت جميلة معنا إلى صنعاء لتظلل سماءها وتنشر الفرح هناك، وقد أحسست حينها أن وحدة اندماجية بدونها هي وحدة مصيرها الزوال، كان إحساسًا غائمًا، وكنت أتمنى ألا يكون صحيحًا، لكن الأيام أثبتت لي صحته منذ الشهور الأولى لهذه المعبودة في الحلم المسماة (وحدة) لقد تعثرت من بداياتها، لأن جميلة لم تكن هناك، كانت هي الغائب الأهم في فوضى تلك العناصر التي اندمجت على غير هدى، فحطمت بعضها وتطاير شرر اصطدامها وأصاب الجميع، وانتشر دخان حرائقها فأدمى العيون والقلوب”. وينهي السارد الرواية بمشهد لم يخل من الدرامية في البحث عن جميلة والتماس صورتها وصوتها وسط المدينة (عدن) التي بدت له كئيبة وقد خيم عليها سواد كبير يلفها من كل الجهات.

ــــــــــــــــــــــــــــ
-د. عبدالحكيم باقيس: كاتب وأكاديمي وناقد يمني، باحث في السرديات ورئيس نادي السرد بعدن

-الدكتور مبارك سالمين شاعر وأستاذ أكاديمي في كلية الآداب، جامعة عدن، ورئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين

-رواية (الطوفان) صدرت قبل أيام عن مؤسسة أروقة، القاهرة، 2018، ضمن مشرع مئة كتاب لوزارة الثقافة اليمنية.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *