فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

بوست

وجدي الأهدل: حين أكتب أنفصل عن العالم وأسافر داخل أفكاري

مواعيد أخيرة- فضاءات الدهشة:

 

بالنظر إلى مسيرته الأدبية المستمرة منذ العام 1997، حتى الآن، سنجد أن وجدي الأهدل واحد من قلة قليلة من الكتّاب اليمنيين الذين كرّسوا حياتهم لفنّ السرد الأدبي. خلال اثنتين وعشرين سنة، أصدر الأهدل أربعة عشر عملاً بين القصة القصيرة والمسرح والرواية، والأخيرة أحرز فيها نجاحات لافتة كان آخرها وصول روايته “أرض المؤامرات السعيدة” إلى القائمة الطويلة في جائزة الشيخ زايد بدولة الإمارات- دورة العام 2018. ورغم السير البطيء للأدب اليمني نحو الإقليم والعالم، حظي عدد من قصص وروايات الأهدل بالترجمة لحوالى ثمان لغات. وبذلك صار واحداً من أولئك القلة الذين تُذكر أسماؤهم وعناوين أعمالهم عند أي حديث عن الأدب اليمني، لا سيما القصة والرواية.

في هذا المقال سوف نتعرف على عادات الكتابة لدى وجدي الأهدل، الذي لا يزال يدأب لمواصلة فنه، رغم ظروف الحرب الراهنة:

طالما اهتم وجدي منذ بداياته باقتناص الوقت المناسب للكتابة حتى في مواسم الامتحانات الجامعية والأعياد الدينية. حينها كانت مواسم الامتحانات في كلية الآداب بجامعة صنعاء، تتحول عنده إلى مواسم إخصاب لأفكار القصص. لقد بلغ الأمر درجة أنه وجد نفسه “في مأزق” إذ لم يعد يعرف أي موسم ينتظر لتخصب أفكاره. لاحقاً، وجد ضالته في شهر رمضان، حيث كان يساعده الصوم في الجلوس للكتابة عدة ساعات.
في تلك الرمضانات البعيدة كتب “بغزارة”، لكن ذلك الفيض مالبث أن جفت منابعه أيضاً، فتحول رمضان عنده إلى فرصة للقراءة المكثفة. بعد ذلك عثر على ما اعتبرها “أهم نصيحة” ساعدته ككاتب؛ يقول وجدي: “هذه النصيحة أتت من الروائي إرنست همنغوي الذي قال بما معناه: لا تكتب كل ما في ذهنك دفعة واحدة ولكن ادخر شيئاً من عصير الكتابة لليوم التالي. ومغزى هذه النصيحة التي لا تقدر بثمن، هو ألا نندفع في الكتابة حتى نستنفدها إلى آخر قطرة، لأننا إذا فعلنا ذلك سيأتي اليوم التالي ونحن لا نعرف ماذا نفعل. وهكذا قد يضيع الكثير من الوقت ونحن نحاول الإمساك بطرف الخيط من جديد، وربما نفقد المزاج الحسن للكتابة فيضيع العمل برمته”.
هكذا قرر أن يكتب ساعة واحدة في اليوم. وقد اعتاد أن تكون هذه الساعة في النهار، بينما خصص ساعة أو ساعتين مساءً للقراءة. أما طقس الكتابة لديه فهو لا يرى فيه فرقاً بينه وبين كثيرين من الكتّاب؛ “كوب من القهوة للتركيز والموسيقى الخفيضة الصوت للتخلص من التوتر”. وإلى ذلك، اعتاد أثناء الكتابة أن يضع ساعة أمامه أو في معصمه. فهو لا يستطيع الجلوس على الكرسي لأكثر من ساعة، في وضعية تركيز عصبي عالي الوتيرة، لفعل “شيء ليس له علاقة بالحياة الحقيقية”. يضيف وجدي معلقاً على هذه الحالة: “أنت تفصل نفسك عن العالم الخارجي وتحاول السفر داخل أفكارك الخاصة، تلغي همومك ومشاكلك لتصنع مشهداً درامياً أصيلاً ومؤثراً؛ هذه مهمة فظيعة لسببين: الأول لأن لا أحد يرغمك على بذل هذا الجهد الذهني الشاق، والثاني لأن ما ستحصل عليه مقابل هذا الجهد من الناحية المادية –بوصفه عملاً تؤديه للمجتمع- ضئيل جداً أو معدوم تماماً”.
عند هذه النقطة، تتضح نواة المأساة التي يعيشها الكاتب. وأن تكون كاتباً في بلد لا يعتبر الأدب أساسياً في سياقات حياة الناس فيه، تصبح هذه المأساة مضاعفة. رغم ذلك، تبدو تجربة وجدي الأهدل في هذا السياق ملهمة؛ فهو من ناحية، لم يستسلم لإغراء المأساوية التي دفعت بكثيرين إلى الأرضية السبخة لرثاء الذات، ومن ناحية أخرى، كرس المزيد من الجهد والإصرار للاستمرار في فنه.
في الفترات التي لا يشعر فيها بحضور مزاج الكتابة، يمارس وجدي تمارين يومية عن طريق كتابة المقالات، وتلك طريقته لتجنب ما سماه جابرييل غارسيا ماركيز برودة يد الكاتب. وإجمالاً هو يرى بأن الكاتب، تماماً “مثل الرياضي الذي يجب عليه المحافظة على لياقته البدنية، بحاجة إلى تدريب يومي”، لتفادي تعثر أسلوبه الأدبي الخاص.
مثل غالبية الأدباء في العالم، يكتب وجدي الأهدل الرواية والقصة القصيرة، لكن كتابة الرواية بالنسبة له أسهل من القصة. ففي الأولى “تستيقظ صباحاً وأنت تعلم من أين تكمل عملك، أما القصة القصيرة، فعليك في كل مرة أن تستيقظ وتبدأ واحدة أخرى من جديد وأنت متوتر للغاية حتى تتمكن من كتابة الجملة الأولى. حين نكتب رواية يحدث هذا التوتر مرة واحدة فقط، عند كتابة الجملة الافتتاحية، وبعد ذلك يدور الدولاب من تلقاء نفسه”.
غير أن “دولاب” الكتابة تعثر منذ اندلعت الحرب الشاملة في اليمن قبل أربع سنوات. وكغيره من اليمنيين الذين يعيشون تحت وطأتها، “قلبت الحرب كل شيء رأساً على عقب” في حياتهم. تلك الساعة التي اعتاد أن يكتب فيها خلال النهار، صارت تمر بدون أن يفعل فيها شيئاً لعدة أيام. وساعات المساء التي كان يخصص منها واحدة أو اثنتين للقراءة، تخلى عنها حفاظاً على بصره من التلف في ضوء الشموع. وذلك يعني أنه صار مضطراً لتقسيم ساعات النهار على كل شيء يريد أو يتوجب عليه فعله. وعلاوة على ذلك، أصبحت الكلمات تتلاشى “بسبب فقدان الشعور بالاستقرار”. وبرغم إصداره مجموعة قصصية ورواية خلال سنوات الحرب الماضية، إلاّ أنه يرى في من يكتبون رواية في أجواء الحرب، “أشخاص قرروا الانتحار معنوياً”. “كتابة رواية مثلاً تحتاج إلى سنوات من الجهد اليومي التراكمي، وهذا الجهد ليس جهداً عضلياً، بل هو جهد ذهني خلاق وعلى درجة عالية من الابتكار والأصالة. وعليه، فإن أيّ مجتمع يعيش حالة حرب لا يمكنه أن يوفر البيئة المناسبة لكتابة الرواية”. في أجواء كهذه، “يبقى (الكاتب) بجسده فقط ضمن إطار الحرب، وأما روحه فعليها أن ترفرف بعيداً. البعض يسمي هذا هروباً من الواقع، ولكن التسمية الصحيحة هي هروب الإنسان من نفسه ومشاكله وقدره”.
هناك مقولة للكاتب الأروغواني كارلوس ليسكانو يتحدث فيها عن أن “الكاتب دوماً اثنان: ذلك الذي يشتري الخبز والبرتقال، ويجري الاتصال الهاتفي، ويذهب إلى عمله، ويدفع فاتورة الماء والكهرباء، ويحيّي الجيران؛ والآخر ذلك الذي يكرس نفسه للكتابة. الأول يسهر على حياة (الآخر) العبثية والانعزالية. إنها خدمة يؤديها بكل سرور، لكنه سرور ظاهري فقط؛ لأن التوق للاندماج يظل موجوداً”.
لا يبدو أن وجدي الأهدل يتفق تماماً مع هذه المقولة. ليس فقط، لأنها تصف حال الكاتب في الوضع الطبيعي لحياة بلا حرب، بل لأن ذلك “مستحيلاً”، على الأقل بالنسبة له. سواءً اتفقنا أو اختلفنا مع مقولة ليسكانو أعلاه، ما رأيكم أن نخصص الحيز التالي لتعليق وجدي عليها وتوصيفه لنفسه ككاتب وكإنسان أولاً:
“أيّ شخص يتعرف عليّ لن يصدق أنني ذلك الكاتب المشاكس المثير للمتاعب الذي نال تقريباً كل الشتائم المتوفرة، من التكفير إلى التحقير بالقول إنني كاتب يبحث عن الإثارة الرخيصة. بالنسبة لي هذا جيد، لأنني في الواقع شخص محافظ، ولكن ذاك (الكاتب) مختلف تماماً. إنه نصفي الذي لا أعترف به إلاّ على مضض، وعلى الورق فقط. إنني أكره أن يعلم الغرباء بهذا الأمر. لذلك فكرة الاندماج بين الشخصيتين تعني ببساطة أن تكون مجنوناً وأفعالك خارجة عن السيطرة. لقد حدس كارلوس ليسكانو بصورة صحيحة بمشاعر الكُتَّاب؛ التوق موجود لحياة الرهبنة الكاملة. هذا حلم أيّ كاتب، لكن هذا مستحيل. فالروائي والقاص بحاجة إلى الاحتكاك اليومي بالبشر ليعصر المزيد من زيت الكتابة. والحل أن نخوض تجربة الرهبنة لفترة مؤقتة يومياً، ثم نخلع ثياب الراهب ونلقيها بعيداً لنعاشر العالم من حولنا. وهذا يعني لمن عايش تجربة الكتابة، حالة من التمزق الروحي بين عالم الداخل وعالم الخارج”.

__________________
* صفحة “مواعيد أخيرة” على فيس بوك

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *