شعرية الظلال وفلسفة الولادة من رحم العدم في “أحلام ورؤى” للشاعرة زينب الحسيني

سامية البحري*

تصدير: ليس الشعر رأيا تعبر الألفاظ عنه، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم (جبران خليل جبران)

مدخل:
لقد اكتسب الشعر مكانة مرموقة في الذاكرة العربية، إذ ظل محاطا بقداسة كبيرة باعتباره ديوان العرب الذي يختزل وجودهم وذاكرتهم وفلسفتهم وطرق تمثلهم للحياة والموت، للوجود وما وراء الوجود..
وقد أدرك النقاد العرب وله العربي بهذا الخطاب، منذ بداية الوعي بأسرار هذا الوجود.
فقال ابن رشيق في عمدته بأن العرب :” احتاجت إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النّازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهزّ أنفسها إلى الكرم، وتدلّ أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام،فلمّا تمّ لهم وزنه سمّوه شعرا” وقد كان هذا نتاج الواقع الذي أنتجه والبيئة التي أفرزته…
وبما أن الواقع يتبدلّ ويتغيّر بطبيعة البيئة التي ينشأ فيها الخطاب، فلابّد أن البيئة القديمة تختلف عن البيئة الجديدة..
فالواقع اليوم له آلياته وتقنياته فلابّد أن تتغير وظائف الشعر وأهدافه ومقاصده فهو لم يعد مرتبطا بأغراض شعرية قديمة، وإيقاع عروضي صارم.
بل ثار على كل تلك القوانين والرّوابط واستدعى أشكالا مختلفة أكثر حرية وانعتاقا عبرت عن طبيعة اللحظة الراهنة وارتبطت بذائقة جديدة.. فقد أصبح لكلّ شاعر رؤية وموقف ينطلق منهما ليحرّر القصيدة من وجهة نظره وحسب تأمّلاته في هذا الوجود…

ولعلّ التجربة التي بين أيدينا تقف دليلا على ذلك.. هذه التجربة التّي وسمت ب”رؤى وأحلام” للشاعرة اللبنانية زينب الحسيني وهي إمرأة مفعمة بالمحبة والخير والسلام تحمل قلبا ينبض بالصدق والفضيلة، تنثر أحلاما في مقل الأرض وتستبطن جملة من الرؤى والمواقف الإنسانية.
ترسم الواقع بقلم حالم وترنو إلى غد أفضل وتؤمن بالإنسان كجوهر هذا الكون…
من أجله كانت الأرض كما كانت السماء، فسخرت له الأنعام والينابيع…
فحمل الأمانة كما لم تستطعها الجبال….
لكن هل استطاع أن يحافظ على تلك الأمانة؟
وقد كثر نسله وانتشر في الأرض معمرا أو مخربا، يصارع الشيطان حينا ويناصره أحيانا.. ومنهم من حمل السلاح في وجه أخيه فقتل وذبح وشرّد وخرّب ووو…
ومنهم من حمل القلم في وجه الطغيان والظلم والاستبداد فحلم بالتغيير وبالجنة الموعودة في العالم السفلي…
ولكن هيهات..هل تكون الجنة، وقد تحالف الظالم مع الشيطان؟

+هندسة المجموعة:
توزعت المجموعة الشعرية للشاعرة زينب الحسيني (من المقرر أن تصدر في الأيام القليلة القادمة عن دار نشر عربية) على سبع وثلاثين قصيدة تختلف في عدد الاسطر كما تختلف في المواضيع ومخارج الحروف والعنونة تركيبا وبناء وصيغا.
متعددة الأهداف والمقاصد، وقد جاءت مرتبة كالتّالي:
ـ أمي / متاهات / أشعل قناديلي / عودتنا / وعد / ظلال / قلم يبكي / كم أناديك / تعال / ألا تخشى / حنين / أنا وأنت / زهرة فوق الركام / من أنت / قل لي / غروب / توق / أطير نسيما / وحدي / أدور وأدور / قلم واجف / دروب حيرى / أوان الحصاد / ذكرى / أين الفرار/ مناداة / ضياع / هيّا نعبر/
حرقة / إهداء / حلم / سؤال / ابق معي / أما آن الأوان / بعض الظنّ / كم نحن / أمنية
++ الوقوف على العتبة : رؤى وأحلام ـــــــــــــ سيمياء الروح
للعنونة في الشعر الحديث منزلة هامة فهي العتبة للدّخول إلى النّص وهي الباب الكبير الذي يطرق
قبل الولوج إلى عقر الخطاب ويمكن أن نعتبره البؤرة أو العين التي نرى من خلالها بقية المضامين..
وعندما نتأمل عنوان المجموعة ” رؤى وأحلام ” يستوقفنا المعجم الموظف وهو معجم الحلم والمنشود
وقد جاء مركبا عطفيا يجمع بين لفظين كلاهما ورد في صيغة الجمع
فالرؤى جمع رؤيا وهي ما يراه الإنسان في منامه.
ونقول رؤية ثاقبة أي رأي سديد…
والأحلام جمع حلم وهو ما يراه النائم في نومه ….
لكن هل الشاعرة ستنقل لنا أحلامها وما رأته في منامها ؟؟
أم هي جملة من الرؤى والمواقف والتوق إلى عالم بديل، عالم يخترق الموجود ليرسم معالم المنشود
أم هو حلم اليقظة ؟؟
وقد اعتاد الشعراء أن يحلموا وأعينهم مفتوحة وجفونهم تخفق…
فحلم اليقظة ملازم للشعراء، إذ هو ضرب من التأمل الخيالي الذي يرتكز على مبادئ فلسفية
والاسترسال في رؤى أثناء اليقظة يعدّ وسيلة نفسية لتحقيق الأماني والرغبات غير المشبعة وكأنها قد تحققت، من وجهة نظر علم النفس…
والشعر لا يمكن أن يكون بمنأى عن النفس فهو يخرج من رحمها وإليها يعود…
وبناء على ما تقدم ندرك أننا نشد الرحلة نحو خطاب شعري حالم، قد يحيلنا في البدء على فلسفة
الرومنطقيين وما سعت إليه مع ثلة من أروع الأقلام العربية كجبران وإيليا وعلي محمود طه
والشابي..تلك الرؤية التي اصطدمت بالواقع فتهشمت أشرعتها فوق صخور الواقع الآثم والبغيض وعالم الرذيلة والفساد.
فاختار أصحابها الهروب إلى الطبيعة و الخيال و الشعر و الموسيقى……….
فهل يمكن أن نقرّ بأنّ صاحبة الرؤى والأحلام الشاعرة زينب الحسيني، وهي تخرج علينا من تربة رائد المدرسة الرومنطقية ومعلم عصره المبدع والظاهرة الفريدة جبران خليل جبران، قد نهلت من هذه التجربة فأعادت صياغتها بطريقتها وأسلوبها معبّرة عن مواقفها وقناعاتها ؟؟
وهو ما يدفعنا إلى استنطاق الخطاب الشعري في ذاته بالنظر في متونه ومنعرجاته..
+++ في متون الخطاب الشعري :
بين الفاتحة والختام وشائج : في البدء كانت ” أمي ” وفي الختام ” أمنية”
إنّ تصنيف الخطاب الشعري داخل المجموعة يكشف عن هواجس الشاعر في كل حالاته،
ولعلّ الهاجس الأكبر للشاعرة زينب الحسيني في هذه المجموعة هي الأم التي تتخذ دلالات ضيقة ثم تتسع إلى دلالات أكبر.
فهي الحضن الدّافئ الذي يطوقنا على امتداد وجودنا وهي الحبل السّري الذي يربطنا بذواتنا وبعالمنا ويعطينا هويّتنا الأولى..
فالأم هي الهوية وهي الانتماء وهي الحقيقة الوحيدة التي لا يعلوها شك، كما أن الأم كائن مقدس في كل الأعراف والأديان والمعتقدات ….
وقد جعل الله الجنة تحت أقدامها وهو ـ لعمري ـ تكريم ما بعده تكريم..
والأم هي الوطن، من دونها نشعر بالضياع والموت والفقد..
لذلك إذا ماتت الأم يشعر الإنسان باليتم والفراغ والغربة مهما كان عمره…
لكل هذا وذاك جعلت الشاعرة قصيدة أمي تتصدر مجموعتها الشعرية وقد استهلتها بالنداء فتقول في قصيدة أمي:
يا سكون البحر الهادر
يا همس الشفاه
رأيتك تحلقين في الفضاء
تمتطين رواحل الغيم والسحاب
والنداء بتوظيف ” الياء” قد يحتمل نداء القريب أو البعيد..
وهو في هذا النص يحتمل المعنيين معا…
فهي القريبة والبعيدة في آن…
ـ الأم تسكن الوجدان ــــــــــــــــ يا همس الشفاه
فتتشكل همسا بين الشفاه، والهمس هو لحظة وجد وحنين وعاطفة متدفقة..
فحينما تهمس تسكب عاطفة دافئة في جفون الوجود
ـ الأم تسكن بين الغيم والسحاب ــــــــــــــــــ تمتطين رواحل الغيم والسحاب
فهي لم تمت في نظرها بل حلقت بعيدا في الفضاء
وهنا تتأسس امكانية الحلم بالعودة..عودة الأم المتخفية بالسحاب، وهي صورة نختزنها في الذاكرة منذ الطفولة…” متى تعود ؟ فيأتي الجواب حالما غدا تعود..”
فتتخذ صورة ملاك يرتدي البياض، وينثر العطر من سلال الوجد على هذه الأرض
وقد تشكلت صورة الأم في تجسيد مجازي مركب عبر الأفعال والمفردات ،فريد
يتجاوز الصور البلاغية المألوفة، ويبتعد عن التعقيد والابهام
فالأم تغدو هي الجزء والكل وهي البعض والكل وهي السكون والضجيج وهي الحياة والموت والبعث والانبعاث..
وصورة الأم تطابق صورة الوطن في أغلب الكتابات..
لذلك جاء نص أمنية يختزل صورة الوطن فتقول الشاعرة
وطني يا شراعا مدمّى
فوق الذرى
عشقت الحبّ فيك
وذرات الثرى
يتّخذ الوطن صورة الشراع رمز السفر المتواصل والبحث عن المستحيل
كما يتّخذ صورة الحضن الدافئ تماما كما الأم
ثم تقول:
جئتك جائعا يا زمني
أطلب خبز الحياة
أريد أن أرى ذاتي
وفي كل زاوية
مبعثرة ذكرياتي
إلا أن الذات تشعر بالضياع والجوع والغربة..إنه الجوع الروحي، الجوع للعاطفة والشعور بالإنتماء
وهي مأساة كل عربي اليوم، يعاني من التشرد والجوع والضياع بعد أن سرقوا منه التراب والرغيف والحب..وتتعمق المأساة والغربة والاغتراب في واقع قبيح مرعب
فيأتينا الخطاب من الريح
قالت الريح
أوان الحبّ ولى بذا الزمن
يا مستحيلا خذ بيدي
فما أطيب سنابل الوهم
مغروسة في دمي
لن يهزمني موت
ولن أنحني

نصغي إلى خطاب الريح في إقرار أن زمن الحب قد انقضى..
ويصبح الوهم هو الحل ولعل حاجتنا إلى الوهم في زمننا هذا هي بقدر حاجتنا إلى الحياة
فالوهم قد يغدو هو الحل في واقعنا العربي المهزوم والمؤلم والبائس..
تتجلى الدقة إذن في توزيع قصائد المجموعة…
بين الفاتحة والختام وشائج كبيرة فالأم أمنية رحلت واختفت وراء السحاب..
والوطن أمنية أخرى سرقت من طرف قوى الشر والاستبداد..
ولم تبق سوى الذكريات المبعثرة في كل الزوايا…وهذه الصور التي رسمتها الشاعرة تتجاوز الذاتي إلى الموضوعي والإنساني…
فالذكريات المبعثرة هي ذكريات الذات العربية الإنسانية والأمجاد الضائعة ..

+ منطقة الوسط ولحظة التشظي وهاجس الظلال:
رغم الإنكسار والخيبات إلا أن الشاعرة بدت محملة بالأمل مشبعة برؤية تفاؤلية
ففي نص متاهات تقول:
سأغني نشيدا
لطفل ينام بلا كفن
لشهيد في باطن الأرض
لبرعم ينبت في الصخرة
فهذا التسويف يحمل القصيدة رسالة سامية، إذ الشعر لا يكتف برسم الواقع والبكاء على الأطلال
والأمجاد الضائعة فحسب، بل عليه أن يرسم أملا وفرحا وخلاصا قدر الإمكان..
وهذا الطفل الذي يرقد بلا كفن كما الشهيد يمكن أن يعثر على تعويض في عالم الشاعر..
فتحوله الشاعرة إلى أغنية خالدة ونشيد وجودي. ومن هنا تتعامل الشعرية الجديدة مع المنظومة الصياغية تعاملا عكسيا، جديدا فتطهر هذا العالم من الدنس، باللغة وعبر الحلم والمنشود؛ إذ ترفض الشاعرة البكاء والحزن والهزيمة والإنكسار لتصعد بالدوال إلى مدلولات مفارقة تصل بها إلى مراتب لا يدركها إلا الشعراء. نصغي إليها وهي تخاطب قلبها:
فلا تبك يا قلب
سنمشي معا كما المسيح
ننتزع الأحلام من أفواه الحمم
ونبني وجودا
ولو في أقبية الموت

وهذا التحدي والمغامرة والتمرد…كلها إحالات ممكنة على ثورة عارمة..
قد سبق إليها شعراء الرومنطقية…
ولا يعني ذلك أن الشاعرة سعت إلى استعادة الزمن الرومنسي بكل ذاتيته المفرطة، بل حرصت على أن يكون لها زمنها الخاصّ ورومنسيتها الخاصة فحرصت على أن تكون صادقة مع نفسها ومع نصّها ومع الأدوات التي اشتغلت بها في نصّها .
تقول الشاعرة في نص أشعل قناديلي
يؤرجحني حنين لذاك الهمس
كهزة صفصاف لمرأى غدير
ورعشة ريح بأحضان النّخيل
فالحنين هو المتحكم في بناء الصّورة أو المشهد وهو يتماهى عن طريق أسلوب المماثلة مع هزّة الصفصاف ورعشة الريح…
وهذه الصورة المجازية تنهل من الطبيعة بعد أن تخرج من رحم الروح وهنا يتحقق التماهي بين المشهد الذاتي والمشهد الموضوعي. وهنا تبدو تلك الخصوصية التي تتجلى في نصوص الشاعرة..
وتبدو الشاعرة مسكونة بالظلال فتقول في نص ظلال:
ما بين المسافة والظل
تطوف فراشات ذكرى
تحوم ظمأى
وتنفث الشوق عطرا
وهوما يفسر هاجس الغربة والظمأ والشوق…

ولعبة الظلال يمكن أن نستقرئ من خلالها جملة من الأبعاد من أهمها القلق الوجودي..
والقلق ليس سببا بل نتيجة وهو حالة قد تصيب الفرد كما تصيب الجماعات..
وهو حالة من عدم الإستقرار تنتاب الإنسان فكيف إذا كان شاعرا؟
حتما سيزداد القلق وتتوسّع دائرته.. لأنه حركة نفسية ترتبط بالوعي بل أكثر من ذلك يعتبره البعض ” خير غذاء للوعي إذ يكسبه العمق والشمول”. وقد أفرزت حالة القلق مسارات مختلفة اختلفت باختلاف واقعها ومقاصدها.

ومن أبرز الشخصيات القلقة عبر التاريخ نذكر أبا العتاهية الذي أفرز الزهدية وعمر الخيام الذي أفرز التأمل المضطرب… وأبا العلاء الذي أفرز رؤية فلسفية ممزقة وغيرهم كثير. إنها أشكال مختلفة ورؤى ومواقف متعددة..
أما في هذه المجموعة رؤى وأحلام فهناك حالات قلق متعددة تبرز بدرجات مختلفة في قصائد المجموعة أفرزت ذاتا متشظية لكنها حالمة تؤمن بامكانية ولادة الحياة من العدم..
ففي نص ألا تخشى:
في خيالي يصرخ الفقراء
ومدادي قطرات من دموع
وسحاب وضباب
وفي نبضي أنين
يرتدّ من صدى غياب

إنه القلق الوجودي، قلق الواقع المؤلم وضياع الوطن والأمة، وتراكم الخيبات والانكسارات. وكل ذلك أدى إلى وسم هذا العالم بسمة “التوتر”
في نص توق:
هذا زمان التوتر
بين الولادة والموت
فلنشعل النّار
ترى هل غاب حلمنا العذري واندثر؟

أو في نص أطير نسيما:
قلبي مثقل بالحجر
وألف سؤال وسؤال
هل لملم الحب أذياله وغاب؟

أو في نص ضياع:
عواء الريح في المنافي
يشجّ صدري
وفي رأسي دويّ انفجار.

في نص دروب حيرى:
أهيم في البحث عن طريق
يا روحي لا تعرجي بي
على مفارق التيه المتكسرة
اركضي بي صوب الأفق البعيد
وتتعمق الحيرة الوجودية في نص أين الفرار؟
وهل نحن من يختار؟
لا النأي يجدي
وفي القرب المحال
وكم أخاف..
أن أبحر على زورق بلا مجداف
وأبحث عن وجود يتهاوى
عبر المدى.

تبدو الشاعرة تعيش حالة قلق تتجاوز الذات إلى العالم نتيجة غياب الحب، ذاك الرباط المقدس بين الناس والكون والطبيعة والأشياء وكل الكائنات.. ويحتل الحب مكانة هامة في شعرها ظهر في نصوص كثيرة
منها من أنت؟ / قل لي/ ابق معي/ حرقة/ سؤال…
والحب مسألة جوهرية في هذا الوجود..
فبغيابه لا يمكن تحقيق السلام، لاسيما أن الرسالة الجوهرية التي دعا إليها الله هي المحبة، ومهمة الاستخلاف بنيت على هذه الرسالة. وفي رحم هذا القلق الوجودي يبقى الحلم امكانية قائمة
في نص حلم:
سأطفئ مع المصباح
ضوء الهزيمة العابثة
وأرتق زمن التوتر.

من هنا تتجلى رؤى وأحلام الشاعرة زينب الحسيني.. ومن أشكال القلق الأخرى قلق فعل الكتابة وقد اتّضح في نصين: قلم يبكي /قلم واجف
ففي نص قلم يبكي تقول الشاعرة:
ويسري الخواء في داخلي
حتى العظام
وإذا الصمت يلوذ بالصمت
وظلام يتلوه ظلام.

وفي قلم واجف تقول:
ما الشعر إلا طيران
فوق الذرى
بأجنحة من عبير
تشهر أوراقها البيضاء.

فالكتابة فعل حياة، يجسد المسكوت عنه ويرسم المكبوت ويكشف عن البواطن الخفية، ويفضح عبث الحياة الذي يخلف شعورا بالخواء والفراغ والجدب والظلام..
فيكون الصمت، والصمت أعمق دلالة من السّكوت، إذ الأول ينتج عن القوة والثاني ينتج عن الضعف، وترتقي تجربة الكتابة إلى تعريف للشعر الذي تراه الشاعرة حالة ” طيران” بأجنحة من “عبير”. فصورة الطائر والتشخيص الذي قامت به هو تعبير واضح عن التوق إلى الإنعتاق والإنبعاث والخلاص
المأمول من هذا الواقع المتردي على جميع المستويات..
وتشتد حالة التوتر والدوران داخل الذات وخارجها بين علامات مثقلة بالبحث والتقصي وأخرى خالصة من الوهن.. في سبيل رسم ملامح تلك الذات الضّائعة أو الخائفة أو الباحثة، المتأملة، المتفلسفة…
في نص أدور وأدور:
طفت بعيدا في أعماق ذاتي
فلم أجد ظلّي
لست إلا خيوطا
تقطع رسن الزمن
لتبحث عن ولادة
من رحم العدم.

يتحول توظيف الدوال وتطويع اللغة في سبيل صناعة المشهد الجديد..فالطواف حركة تكشف عن باطن
عالم روحي / ماورائي / غيبي..وهو يصبح في النص حركة في أعماق الذات..
والأعماق عادة تتطلب الغوص، لا الطواف.. لكن الشاعرة طوعت اللغة لصناعة المشهد “الأمثل” متجاوزة بذلك المشهد “الأنسب” كما هو السائد والمألوف في قوانين الخطاب عامة.
أن يناسب اللفظ المقام…
وهذه المظاهر في الحقيقة من خصائص القصيدة الحديثة التي تجلت نموذجا للتنافر والتجاوز وبناء عالم شعري جديد..لا يتحقق إلا عبر اللغة وباللغة وفي مخيلة منتج الخطاب..
فهذا الطواف في أعماق الذات يرتبط بسبب مخفي أعلنت عنه النتيجة ” لم أجد ظلي”
فالظل عادة هو انعكاس خارجي، مرئي، يقترن بالصورة وبالقيم الضوئية التي تنتجه
لكنه في النص يصبح انعكاسا داخليا متبخرا..
ثم يأتي الإقرار بأسلوب الحصر الذي يفيد تأكيد رصد ماهية الذات..
” لست إلا خيوطا..
تقطع رسن الزمن”
هذه الماهية تزداد تعقيدا وغموضا يتفاعل مع ما تقدم في الأسطر الشعرية السابقة..
وقد اقترن بالتعليل ـــــــــــــــــ لتبحث عن ولادة
من رحم العدم
والولادة من رحم العدم مفهوم فلسفي وجودي، تناولته الفلسفات الوجودية التي آمنت بالفعل الإنساني.

والشعر ـ لعمري ـ فلسفة كبرى ترصد العالم من زوايا مختلفة.. فبالشعر نحقق الإنبعاث ونقوض العالم ونعيد تركيبه من جديد.. فنبعث كما النار من تحت الرماد.

+++مسألة الإيقاع وهاجس التفعيلة:
إن الإيقاع لصيق بالشعر مهما كان نوع ذاك الشعر ومهما ادعى التمرد عليه، فعلاقة الإيقاع بالإنسان علاقة تتجاوز التقنين والتقعيد إذ لها بعد أنتروبولوجي ونفسي فمنذ بدء الخليقة عشق الإنسان الأصوات في عالم الطبيعة وطرب لها واهتز وتأثر وبكى وانتشى ورقص وخاف ورهب فهو له قوة سحرية عجيبة..
وللقصيدة الحديثة ايقاعها الخاص يتضح من خلال توزيعها أو بنائها أو تركيبها أو صورها وحتى عناوينها أو حروفها..
ولا يرتبط الإيقاع في النص الحديث بمسألة العروض بل يتجاوزه إلى مسائل أخرى لأن الإيقاع يحدث نتيجة لمسببات أخرى غير الوزن وقد تخفى علينا هذه المسببات ولكننا نحس بأثرها.
ويعرف قراء الشعر أن لكل قصيدة وقعا خاصا على قارئها يختلف عمّا سواها ويعود ذلك إلى أن لكل كلمة لغوية وزنا عروضيا، ولها وزن صرفي كما أن لها نظاما مقطعيا وفيها نظام نبري كما ذهب إلى ذلك الدكتور محمد مفتاح في سيمياء الشعر الحديث.
كما تقوم الحروف على مخارج متنوعة ومتباعدة فمنها الحلقية واللهوية والصفيرية والشفوية، وكلها تساعد على تبليغ جملة من المواقف. ولنا في المجموعة الشعرية رؤى وأحلام نماذج مختلفة تنقل ما ذهبنا إليه.
ننظر تجاور بعض الأصوات في المقاطع التالية:
مقطع 1
وطني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يا جرحي النازف
يا سرابا يأسره سحاب
وربيع تلاشى ــــــــــــــــــــــــ في جليد الطرقات
أيوب ضجّ بالأنين ــــــــــــــــــــ بالجراح والعذابات
الوطن جرح نازف نكاد نصغي إلى صوت النزيف
الطرقات / العذابات ـــــــــــ الإمتداد / التمطط
المقطع2
تعال بطيف الغيوم ـــــــــــــــــــــ اختبئ في أضلعي
ـــــــــــــــــــــــ واشرب دنان الشوق من أدمعي
هذا التجانس اللفظي بين أضلعي / أدمعي يفسح مجالا لاتساع المعنى
فالأضلع = حضن / وطن
الأدمع = دنان / ارتواء
المقطع3
يقولون إننا عائدون
بالأمس قالوا
واليوم يقولون
ونحن على أبواب جودو
عراة حفاة
جائعون تائهون منتظرون
تجلى الإيقاع في مستوى الزمن والصياغة الصرفية ( الماضي والحاضر)
لقد استطاعت النصوص أن تحقق موسيقاها الداخلية المتمثلة بتناسب الألفاظ وتناغمها
والحروف تساعد الشاعرة على تصوير النفس المكلومة.

ورغم أهمية الإيقاع فلا يمكن حصر الشعرية في أسواره الضيقة إذ تجاوز ذلك إلى بنية الأصوات والصيغ والتراكيب بل أكثر من ذلك إلى إيقاع السطروالجملة والعنونة
وما يستوقفنا في مجموعة رؤى وأحلام ظاهرة العنونة، إذ يمكن أن نتحدث عن إيقاع العنونة؛ إذ ترددت العنونة بين المفردة الخالصة وقد وردت نكرة أو المركب أو الجملة
ـ ظاهرة العنونة المفردة / نكرة:
متاهات / وعد / ظلال / غروب / توق / أمنية…
ـ ظاهرة العنونة / مركب
أنا وأنت/ أدور وأدور / أوان الحصاد / بعض الظن..
ـ ظاهرة العنونة / جملة
أشعل قناديلي / أطير نسيما / ابق معي/ ….

وبناء على ما تقدم يمكن الإقرار بأن القصيدة الحديثة تخلق إيقاعها الخاص بل تمكن كل نص من أن يولد ضمن دائرة صوتية تميزه فمهما ارتفع الإيقاع في قصيدة وانخفض في أخرى فهناك جدلية تنتظم داخلها كل تلك المكونات.
وما علينا سوى أن نحسن الإصغاء للقصيدة الحديثة لنتمكن من تمثل عالم الأصوات داخلها وقراءة النص الحديث تتطلب أدوات حديثة تخرج من رحم النص المقروء تماما كالناظر إلى لوحة فنية إذا ركز في نقطة وأهمل بقية العناصر وتغافل عن الظلال لم يكن منصفا وغاب عنه الكثير..

إن الشاعرة المحلقة بأجنحة نورانية زينب الحسيني استطاعت أن تبحث عن خصوصية تميزها وأن تنعتق من القوانين الصارمة وآثرت أن تبحث عن المناطق الشعرية في هذا العالم الجديد..
فانطلقت من الذات لتنفتح على عوالم أخرى متعددة في علاقة بالإنسان في كليته فأوغلت في تصوير الحزن والخيبات المختلفة في هذا الوطن العربي.

وقد ركزت على خيبات الروح لأنها آمنت أن الروح هي الجوهر وما عداها عرضي زائل فإذا ذبلت الروح تهدم كل شيء وتقوض العالم والإنسان..
ففي هذا المقطع لخصت الشاعرة مذهبها الشعري في مجموعتها الشعرية قيد القراءة:
أحلّق في متاهاتي
بحثا عن ظلال تفسّر حيرتي
أفتّش عن حقائق
في عالم الزّور والصّمت
واستعمالها لفعل “أحلق” في زمن المضارع يكتسب دلالة عميقة ويفيد الاستمرارية فهو فعل متواصل لا يتوقف والتحليق فيه ضرب من التسامي.. والعجيب أن يكون التحليق في المتاهات في سبيل البحث عن ظلال تفسر الحيرة. وهذا البعد الفلسفي الأنطولوجي يكشف عن توتر بين الذات وهذا العالم العجيب والغريب
عالم “الزور والصمت”
أيها القارئ: إن عالم “رؤى وأحلام” يدعوك إليه من حيث لا تدري.. فتقدم نحوه لتظفر بالكثير.. فيه تجد ذاتك وأحلامك وواقعك وخيباتك وانكساراتك وثورتك وانتصاراتك
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا أن هذه الجولة التي قمنا بها في رؤى وأحلام كانت ممتعة مؤنسة في آن.. كمن تسلل إلى لحظات حميمية عاشتها الشاعرة في زمن مخصوص جدا.. ثم جسدتها في جملة من الرؤى والمواقف.. وهذا التسلل عاضده الشغف الذي يحيطنا بحرف الشاعرة زينب الحسيني كما بقلبها النقي وروحها الكريم… وهي تقدم لنا جملة من المفاتيح لفهم ملامح نصها وقد غلفتها بجملة من العوامل الثقافية والحضارية والقيمية والفكرية.

وأعتقد أن هذه المجموعة قد حققت جملة من الأهداف التي رسمتها وآمنت بها من أهمها الإيمان بالمحبة والتسامح كوسائل لإحلال السلام العالمي والوعي بقضايا العصر وحالة التّشظي التي تعيشها الأمة..
وقد استطاعت أن تسلّط رؤية على الواقع وترصد حركته، كما فتحت بابا للحلم ممكنا..
وسيلتها في ذلك البحث عن “مناطق الشعرية” الملائمة لخطابها ومقاصده.
وقد خلقت بذلك عالمها الخاص المتفرد في اعتمادها التبسيط والوضوح، بعيدا عن التعقيد والتهويم والإيهام..لها معايير جمالية يمكن أن تضيف إلى الشعرية الكثير.
_____________
*كاتبة وناقدة تونسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى