“ليس للأرض بابٌ” لكن سونيا الفرجاني تفتحه

فضاءات الدهشة- تونس

 

عن دار زينب للنشر والتوزيع في تونس العاصمة، صدر حديثًا للشاعرة التونسية سونيا الفرجاني مجموعة رابعة بعنوان “ليس للأرض بابٌ.. وسأفتحه”، في (192) صفحة من القطع الوسط، محتويةً (88) نصًا توزعت بين نصوص ومقاطع قصيرة، بينما صممت الغلاف وأخرجت الكتاب فنيًا “هند بنمرزوق”.

في مقدمة مطولة بعنوان “التوغُّل بالشعر إلى مناطق اللامنطق”، يفتتح الناقد والأكاديمي “أديب صعب” تقديمه للمجموعة، منوهًا إلى: “شاعرة عربية في بيان عربي ناصع وفي كتابة فريدة متفرّدة، في زمنٍ يكاد عدد الشواعر العربيات يساوي عدد الحاملات القلم في عالمنا العربي. إلّا أنّ سونيا الفرجاني خارج هذا الصنف تمامًا، هي شاعرة يبحث القلم عنها ولا تبحث عنه، حتى إذا وجَدَها راحت تذود الكلام عنها ذيادًا. شاعرة تملك ناصية اللغة، مع غنى في المفردات والتراكيب ومع خيال يجعل من كل قصيدة مفتاحًا إلى عالم بل عوالم متداخلة”.

ويتابع الناقد “صعب”: “هي عوالم غريبة كل الغرابة حقًّا، العبارةُ الأُولى في كل قصيدة مفتاحٌ لعالم يبدأ ولا ينتهي. هذه العبارة تسمَّى “المَطْلع” في الشعر الموزون على النسق العمودي، وهي البيت الأول في القصيدة. وهنا بعضٌ من هذه المَطالِع: (- حين انكسرَ قلبي لم يَصدر أيّ صوت. – كتبتُ القصيدةَ الأخيرةَ ومتُّ.
– مِنَ البابِ دخلَت إليكَ القابلةُ ونساءُ الحيّ.
– ليلٌ أصفر لا يَذكر شيئاً عن فزّاعة النهار وعنكَ. – ليس لي يدٌ. أصابعي فقدتُها.
– أنا امرأةٌ لا تنام في الليل ولا تفيق.
– عندما كنتُ في الأربعين سقطَتْ ملائكةٌ من السماء. – يتَّخِذُ شوقي إليكَ شكلَ الهمزة على ألِف أبَد. – هذا العالَمُ لن ينتهي. هو قَفا القيامة. – تركْتَني وحدي ألتَهِمُ أشباحَ البيت المهجور. – هكذا بلا أسبابٍ مقْنِعة سأدخل الجحيم. – نحفَ الصيفُ هذا العام. – ماعزٌ أزرقُ يحلِّقُ في السماء مع الأيائل)”. ويضيف: “الملاحَظ في هذه “المَطالِع” أنها كلها صُوَر. وإذ ينتقل القارئ بعد كل مطلع سطرًا سطرًا أو، قُلْ، بيتًا بيتًا– حيث الوحدة المعنوية الصغيرة تقوم مقام البيت في الشعر الموزون – حتى نهاية القصيدة، فلسَوف يجد أنه ينتقل من صورة إلى صورة. عبثًا يبحث القارئ عن مقطع تقريريّ، سواءٌ أكان كلامًا حِكَميًا أم غير ذلك، فيتأكد من أنّ هذا الشعر تنطبق عليه صفة (الرسم بالكلمات) أكثر من انطباقها على كثيرٍ من الشعر، وتقديري على معظم الكتابة الشعرية”.

ومن بين سطور مقدمة الدكتور أديب صعب (الممتدة في عشر صفحات) نقتطف: “((ما بالي نسيتُ أنّ هذا الوصف يميّز النزعة السوريالية في الشعر والفنّ؟ ألا تبدو قصائد سونيا الفرجاني في هذه المجموعة امتداداً للشعر السوريالي مع أندريه بريتون وسواه؟ ألا تبدو معادِلاً لفظياً لرسوم من لوحات بابلو بيكاسو أو سلفادور دالي أو فريدا كاهلو أو أندريه ماسّون؟ هذا الأخير تكلم عن “الرسم التلقائي” (الأُوتوماتيكي)، فيما أَطلقَ دالي على لوحاته أسماء من النوع الآتي: “الزرافة المشتعلة”، “الحلم الذي سبّبَه تحليقُ نحلة”، “صيد أسماك التونا”، “تحولات نرسيس”، “إصرار الذاكرة”، “المعضلة التي لا تنتهي”. نلاحظ أنّ عناوين هذه اللوحات قريبة من عناوين القصائد التي بين أيدينا، من غير أن تكون الشاعرة بالضرورة اطّلعَت على لوحات دالي وعناوينها. لكنه الأُسلوب السوريالي نفسه هنا وهناك. وهو الأُسلوب الذي شَرَّعه بريتون في منشور الحركة الأول (1924) وفي المنشور الذي تلاه (1930)، ودعا فيهما، بتأثيرٍ من مدرسة التحليل النفسي ولا سيّما مع سيغموند فرويد، إلى ابتعاد الشعر عن عقلانية عصر التنوير الأُوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بغْيةَ كشف “العالم السفلي” في النفس البشرية، أي عالم اللاوعي والحلم والخيال، مهما انطوى عليه هذا العالم من مجافاةٍ للمنطق. فهذه الأبعاد اللاعقلية الهاجعة في عمق النفس البشرية يجب التعبير عنها. وليس أحرى من الفنون الجميلة، خصوصاً الشعر والرسم، بهذا التوغل والكشف والتعبير. هكذا بات الوَحي الفنّي مع دعاة هذه المدرسة يأتي من البُعد السيكولوجي، اللاواعي عموماً، لا من البُعد المنطقي أو العقلاني.
انطلاقاً من هنا يمكن أن نقرأ مجموعة سونيا الفرجاني. ومما يميّز الكتابة السوريالية عن بعض أنواع الكتابة الشعرية الأُخرى أنها تُقاس بمقولة “المعاني” لا بمقولة “الأفكار”، إنْ جاز التعبير. والعبارتان، في هذا النطاق، لي. في الكتابة المبنية على أبعادٍ عقلانية واعية يصحّ السؤال عن الفكرة وراء هذه القصيدة أو تلك اللوحة. أما في الكتابة المبنية على أبعادِ الحلم والخيال واللاوعي، فالمتذوق يظلم القصيدة أو اللوحة إنْ هو تحرّى عن الفكرة المحض. إلّا أنّ خلوّ الكتابة من أفكار ومفاهيم مجرَّدة لا يعني افتقارها إلى معنى. والمعنى هو الجوّ الذي تولّده القطعة الفنّية لدى القارئ. ولئن كان الشعر، والفنّ عموماً، المصنوع من أفكار – وإنْ كانت منقولة بالصورة والخيال والرمز – يشكِّل مجتمَعاً من القرّاء الذين يستطيعون تبيُّن هذه الأفكار إلى حدٍّ أو آخر، فالشعر في هذه المجموعة ليس مصنوعاً على قياس جماعة. إنه شعرٌ يَصنعه كل قارئ عبر تَفاعُله الخاص مع كل قصيدة. هنا لا يبقى السؤال: “ما هي الفكرة أو الأفكار التي أراد الكاتب أن ينقلها إلى القرّاء؟”، بل يصير: “ما هو المعنى أو المعاني التي خَرَجَ بها كل قارئ من كل قطعة؟”. ما يعطيه الشاعر في هذا النوع من الكتابة التلقائية هو صُوَرٌ تتوالد من صُوَر. والصور تتنوع من شاعر إلى آخر حسب عالمه الداخلي. أما الصور التي انبثقت في هذه المجموعة من عالَم الشاعرة الداخلي فهي إجمالاً حادّة، سوداوية، يطغى عليها اللون الأصفر الذي قد يشير إلى تَخلخُل العالم وتهافته مع أوراق الخريف. هذا لا يعني أنّ الشاعرة تزوّد القارئ بصورة جاهزة، إذ إنّ كلّاً من قصائدها مجموعة قطع مبعثرة، على كل قارئ بمفرده أن يركّب منها الصورة الخاصة به انطلاقاً من الكلمات التي دوّنتها الشاعرة، بِصُوَرها وألوانها وبدون أيّ نموذج تركَّب الصورة محاكاةً له”)).

يشار إلى أن الشاعرة سونيا الفرجاني (أستاذة التاريخ، إبنة جزيرة جربة وإحدى أهم كتاب قصيدة النثر التونسية، الآن) سبق أن أصدرت قبل “ليس للأرض بابٌ.. وسأفتحه” ثلاث مجاميع شعرية هي: “امرأة بني باندو”، “فساتين الغيب المزررة”، “صباح الخزامى”. ترأس سونيا “بيت محمود درويش” في جربة. تنشر قصائدها في صحف ومواقع ومجلات أدبية ورقية وإلكترونية عربية، وترجمت نصوص لها إلى أكثر من لغة عالمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى