قراءة تفكيكية لنصوص من مجموعة طائر بعكازين للشاعر قيس عبد المغني

د. احمد الفلاحي

قيس عبد المغني شاعر يمني يمتلك قدرة فريدة على الابتكار في الكتابة الشعرية، حيث يجمع بين الحسية العالية والتأمل الفلسفي بأسلوب يمزج بين العمق والعذوبة، مما يجعل نصوصه تنبض بالحياة والدهشة المباغتة. يتنقل الشاعر ببراعة بين الصور المجازية المركبة والمعاني العاطفية العميقة، مما يدعو المتلقي لاكتشاف أبعاد جديدة للعاطفة والتجربة الإنسانية، وتُعد تجربته الشعرية استثنائية، وقدرته على تصوير المشاعر بطرق غير تقليدية تعكس رؤية شعرية مبتكرة، حيث يعيد تشكيل اللغة لتصبح وسيلة تجمع بين الحسي والمجازي، وتفتح أمام القارئ آفاقاً جديدة للتأمل.

في هذا السياق، سأقوم بتناول مجموعة نصوص من ديوانه ” طائر بعكازين” بقراءة تفكيكية تعتمد على نظرية التفكيك التي قدمها جاك دريدا، هذه النظرية تُعنى بتفكيك النصوص لإظهار تناقضاتها الداخلية وعدم استقرار معانيها. وفقاً لهذه النظرية، سيتم تحليل النصوص ليس للوصول إلى معنى ثابت، بل للكشف عن التوترات والتناقضات التي تبرز كيفية توليد المعاني. بناءً على هذه الفلسفة، سنقوم بتطبيق التفكيك على النصوص التالية:

لم أشرب النبيذ يوماً

لكنني أعرف تماماً ذلك الشعور الذي دفع الراهب دوم بيير بيرينيون لأن يصرخ محتفلاً بعد أول رشفة شمبانيا في التاريخ.

لم أجرب الويسكي كذلك،

لكنني أشمه في قصائد وروايات فاحت عبقريتها،

سمعت عن لذة البراندي،

عن فحش الفودكا، وقوة التيكيلا..

وعما تفعله البيرة في بطون البحارة وأحلامهم.

ومع هذا لم يسبق وأن تذوقت أي منها أبداً.

غير أني

وعندما أشاهد ملامحكِ عن قرب

عندما أتأمل تفاصيل وجهكِ وأنت تتحدثين،

عندما أرتشف القليل من ابتسامتك

وأعب من دنان صوتك

أترنح حينها من ثِقل النشوة

 أضحك من شدة النسيان.

تداخل المعاني وتفكيك ثنائية التجربة الحسية والروحية

يبدأ النص بثنائية واضحة بين التجربة الحسية (المرتبطة بالكحول) والتجربة الروحية (النشوة الناتجة عن الحب)، يبدأ الشاعر بربط المشاعر الخاصة بالنشوة الناتجة عن احتساء الخمر (التي لم يجربها الشاعر) مع نشوته المضمرة، لكن هذه الثنائية يتم تفكيكها عندما يستخدم الشاعر استعارات الكحول للتعبير عن مشاعر الحب وأشياء أخرى، فنجد أن الحدود بين الحسي والروحي تتلاشى؛ إذ أن المشاعر تُعبر عن نفسها بالاستعارة للكحول والتي من المفترض أن تكون تجربة مادية بحتة.

لم أشرب النبيذ يوماً

يبدأ الشاعر نصه بتصريح يبدو في ظاهره كحقيقة مباشرة وثابتة، إلا أن التفكيك يدفعنا إلى إعادة النظر في مفهوم “الشرب”. هل يتحدث الشاعر هنا عن الشرب بمعناه المادي فقط؟ أم أنه يوظف الشرب كاستعارة لتجربة عاطفية أو روحية أعمق؟ الشاعر هنا يبتعد عن التجربة المادية الملموسة، ليقدم بديلاً متمثلاً في تجربة شعورية مكثفة. هذا التحول يفتح الباب أمام فك الارتباط بين الفعل المادي والوجدان، ليظهر لنا أن المشاعر يمكن أن تحل محل التجربة المادية في عمقها وتأثيرها.

لكنني أعرف تماماً ذلك الشعور الذي دفع الراهب دوم بيير بيرينيون لأن يصرخ محتفلاً بعد أول رشفة شمبانيا في التاريخ.”

يظهر الشاعر هنا إدراكاً غير مادي للتجربة التي لم يعشها، مما يخلق تناقضاً بين المعرفة التجريبية (التي تأتي من التجربة المباشرة) والمعرفة الشعورية أو التصورية (التي تأتي من الخيال أو التأمل)، فالتفكيك يكشف عن هشاشة هذا التمييز، إذ يستطيع الشاعر أن يعيش إحساساً عميقاً بتجارب لم يختبرها فعلياً، محولاً التجربة الحسية إلى حالة ذهنية متجاوزة، تستحضرها اللغة والتأمل في أبعادها الخفية.

يقدم استخدام الراهب دوم بيير بيرينيون ثنائية لافتة بين الروحي والمادي، فالرهبان يمثلون عادةً رموزاً للزهد والتجرد الروحي، لكن في هذا السياق يرتبطون بتجربة حسية متمثلة في اكتشاف الشمبانيا، مما يخلق تناقضاً يعمق التداخل بين الجانبين. الشاعر، من ناحيته، يصل إلى حالة مشابهة من النشوة عبر تأمل جمال المحبوبة، مما يعزز الارتباط بين التجربة الحسية والروحية في سياق أكثر إنسانية وحميمية.

لم أجرب الويسكي كذلك، لكنني أشمه في قصائد وروايات فاحت عبقريتها.”

يقوم الشاعر بربط الحواس المختلفة مثل الشم والقراءة، مما يؤدي إلى زعزعة الحدود التقليدية بين الإدراك الحسي والذهني، ومن خلال التفكيك، نلاحظ كيف أن الشم، بوصفه حاسة مادية مرتبطة بالجسد، يتم استحضاره عبر تجربة ذهنية تتمثل في النص الشعري. هذا يعكس قدرة الشاعر على تجاوز الحدود بين الحواس المختلفة وبين الإدراك الحسي والعقلي، حيث يمكن للتجربة الأدبية أن تستدعي وتحيي أحاسيس مادية عبر وسيلة ذهنية خالصة مثل اللغة، وهذا التكامل يظهر تأثير النص الأدبي في اختراق مجالات الإدراك وإعادة تشكيلها

سمعت عن لذة البراندي، عن فحش الفودكا، وقوة التيكيلا..”

يتجلى التناقض هنا في استخدام الشاعر كلمات مثل “لذة”، “فحش”، و”قوة” لوصف مشروبات لم يجربها بنفسه، لكن عندما نحلل النص، نكتشف أن هذه المعاني لا تأتي من تجربة شخصية حقيقية، بل من تصورات ثقافية وأفكار مسبقة. ما يفعله الشاعر هو تفكيك العلاقة بين التجربة الشخصية والمعرفة، ليُظهر كيف يمكن للكلمات وحدها أن تخلق إحساساً ومعاني حول تجارب لم يعشها، إنما نجده يعتمد الشاعر على قوة اللغة ليجعل التجربة حاضرة، رغم أنه لم يمر بها بنفسه.

وعما تفعله البيرة في بطون البحارة وأحلامهم.”

هنا، يقدم الشاعر تناقضاً بين البيرة كشراب مادي وتأثيرها على الأحلام، التي تنتمي إلى عالم غير مادي، ومن خلال التفكيك، نرى أن الشاعر يكشف عن هذا التداخل بين المادي والمعنوي، حيث تصبح الحدود بين الجسد والروح، وبين الواقع والخيال، غير واضحة ومتداخلة. البيرة، كعنصر مادي، تؤثر على حالة ذهنية وتجربة غير ملموسة، مما يشير إلى أن العالمين المادي والمعنوي لا ينفصلان، بل يتداخلان بطرق معقدة وغير متوقعة.

ومع هذا لم يسبق وأن تذوقت أي منها أبداً.”

هذا السطر يعمق التناقض بين المعرفة والتجربة الشخصية، فبالرغم من اعتراف الشاعر أنه لم يذق أياً من هذه المشروبات، إلا أن النص ينبض بتصورات حية وغنية عنها. ودور التفكيك هنا يكشف أن الشاعر قادر على توليد معانٍ وتصورات لا تستند إلى تجربة فعلية، بل إلى خيال وتأمل. هذا يعيد تعريف مفهوم “التجربة” ذاته، حيث يتضح أن التجربة لا تحتاج إلى أن تكون ملموسة أو واقعية لتُخلق معانٍ عميقة، مما يزعزع الفكرة التقليدية بأن التجربة والمعرفة مرتبطتان دائماً بشكل مباشر.

غير أني عندما أشاهد ملامحكِ عن قرب، عندما أتأمل تفاصيل وجهكِ وأنت تتحدثين،

في هذا السطر، يدمج الشاعر التأمل البصري مع تجربة قريبة من الحسية الروحية، ليخلق تداخلاً بين التجربة الحسية المباشرة (الرؤية) والتجربة العاطفية العميقة. هذا التداخل يبرز استحالة الفصل بين العالم المادي والعاطفي، حيث تتحول الرؤية البصرية إلى بوابة نحو أحاسيس وتجارب داخلية. من خلال التفكيك، نكتشف أن المشاعر والتأملات العميقة يمكن أن تتولد من أبسط التجارب البصرية، مما يبرز أن الحواس والعواطف ليست كيانين منفصلين، بل تتكاملان بشكل معقد وتتحولان معاً إلى تجربة حسية أعمق.

عندما أرتشف القليل من ابتسامتك وأعب من دنان صوتك

في هذا السطر، يعيد الشاعر صياغة الأفعال الحسية، مثل الشرب، بطريقة مجازية، حيث تتحول الابتسامة والصوت إلى مشروبات مستساغة. يلعب التفكيك دوراً من خلاله نرى أن اللغة هنا تقلب المفاهيم التقليدية للشرب كفعل مادي، وتستبدلها بتجربة روحية وعاطفية تتجاوز الفعل المادي البحت. هذا التداخل يوضح أن الحدود بين ما هو حسي وما هو معنوي ليست ثابتة أو محددة، بل مرنة ومتداخلة. وهكذا، يتمكن الشاعر من تحويل التجربة الحسية إلى رحلة أعمق، تتجاوز الإدراك المادي إلى أبعاد أوسع من الروح والإحساس.

أترنح حينها من ثِقل النشوة، أضحك من شدة النسيان.”

في هذا السطر، يظهر تناقض آخر بين النشوة، التي تُعتبر حالة من السعادة والبهجة، والنسيان، الذي قد يُشير إلى الغياب أو الفقدان. من خلال التفكيك، يكشف النص عن التوتر بين هاتين الحالتين، حيث تتداخل النشوة مع شعور النسيان أو الاضطراب. يُظهر النص أن النشوة ليست حالة إيجابية فحسب، بل قد تُخفي أيضاً آثاراً جانبية مثل الفقد أو التلاشي. بهذا الشكل، يدعو الشاعر القارئ للتفكير في الطبيعة المعقدة للعواطف، وكيف أن لحظات السعادة قد تحمل في طياتها مشاعر الافتقاد أو العجز، مما يعكس التوتر الدائم بين التجارب الحياتية المختلفة.

لو كان الحزن خمراً

سيصير حزني أفخر أنواعه وأغلاها ثمناً،

في زجاجة خضراء داكنة سيأتي به النادل من القبو

وبرفق سيأخذه منه زعيم العصابة فاحش الثراء ويقدمه للسياسي الطاعن في الفساد والذي يدخن غليونه ببرود..

أنظر إلى هذه .!

إنه حزن معتق منذ العام 1982

إنه بعمر ديناصور مراهق

أو شاعر

على أهبة الانشطار.

تفكيك مفهوم الحزن كمادة ثابتة

في هذا النص، يتم تصوير الحزن كخمر معتق، مما يعطيه شكلاً ملموساً وثابتاً مع مرور الزمن، هذه الصورة تعكس محاولة الشاعر لتثبيت الحزن ومنحه عمقاً تاريخياً يمكن للآخرين فهمه. لكن عند النظر إلى هذه الصورة من منظور مختلف، نجد أن الحزن يتناقض مع هذا التثبيت. فالحزن هو شعور دائم التغير وغير ثابت، قد يظهر في لحظات غير متوقعة، وقد يتأرجح بين الفرح والأسى، مما يجعل من الصعب القبض عليه أو السيطرة عليه، حتى لو شُبِّه بالخمر المعتق، فإن الحزن لا يمكن ضبطه أو احتواؤه في إطار زمني أو مادي معين، إنه يتسلل إلى حياتنا بأشكال مختلفة، مما يعكس تعقيدات التجربة الإنسانية.

“لو كان الحزن خمراً” يربط الشاعر الحزن بتجربة حسية، مما يثير تساؤلات حول طبيعة الحزن: هل يمكن تذوقه أو اختباره كشيء مادي؟ هذا التشبيه يُفكك النظرة التقليدية للحزن كعبء، ويعيد تقديمه كجزء معقد من التجربة الإنسانية، مما يعزز تداخل المشاعر مع الحياة اليومية.

سيصير حزني أفخر أنواعه وأغلاها ثمناً” يظهر التناقض بين قيمة الحزن وثمنه المادي فالشاعر يعكس الفهم المعتاد للحزن كعبء، ويقدمه كشيء ذو قيمة خاصة، مما يدعو للتفكير في كيفية تقديرنا للمشاعر العميقة.

“النادل، زعيم العصابة، السياسي الطاعن في الفساد”: تُبرز هذه الشخصيات المتناقضة التفاعل بين السلطة والفساد والإنسانية الهشة، يربط الشاعر الحزن بتلك القوى الاجتماعية، مما يكشف عن أن الحزن يتجاوز كونه شعوراً شخصياً ليصبح جزءاً من ديناميكيات أكبر مثل الفساد والثراء. في هذا التداخل، يعيد الحزن تشكيل نفسه كحالة مرتبطة بالسلطة والتناقضات المجتمعية، مما يجعلنا نعيد التفكير في حدود التجربة الإنسانية للحزن، وكيف يمكن أن تكون مرتبطة بتلك الهياكل الأكبر.

“إنه حزن معتق منذ العام 1982”: هذه الإشارة إلى زمن محدد تمنح الحزن عمقاً تاريخياً، وتكشف كيف يتداخل الحزن الفردي مع الأحداث الجماعية، كما لم يعد الحزن هنا مجرد شعور عابر، بل هو نتاج سنوات من المعاناة والتجارب المشتركة. هذا التداخل بين الشخصي والسياسي يبين كيف تشكل السياقات التاريخية والاجتماعية مشاعر الأفراد، ليجعل الحزن تجربة تتجاوز الذات إلى نطاق أوسع.

“بعمر ديناصور مراهق أو شاعر على أهبة الانشطار”: هذا المجاز يعمق الإحساس بالانقسام الداخلي، فالديناصور يُشير إلى شيء كبير وقديم، بينما المراهق يمثل الفوضى والتمرد. في المقابل، يحاول الشاعر أن يعكس حالة من التوتر الإبداعي، وكأن الحزن يولد لحظة تحول وانشطار تنتج عنها المعرفة والفن. المعاناة، إذن، تصبح قوة دافعة نحو الإبداع والتجدد، حيث تتشكل في عالم الحزن طاقة خلاقة.

أيضاً، النص يكشف عن علاقة معقدة بين الحزن والفخامة، فهو يُصوَّر الحزن كشيء ذا قيمة عالية، كما لو أنه نوع من الخمر المعتق، يقدم لشخصية سياسية مرفهة رغم فسادها. هذا يعزز التناقض الداخلي بين الحزن كحالة شعورية سلبية والفكرة الثقافية السائدة حول الثروة والترف. عادةً ما يُفهم الحزن على أنه نقص أو فراغ، لكن النص يطرح رؤية مغايرة، حيث يتم تمييزه كمادة ذات قيمة، مما يجعله موضوعاً للنقاش والتأمل.

هذا التمييز يكشف عن التوترات والتناقضات التي تعكس كيفية فهمنا للمشاعر، فالحزن، على الرغم من كونه شعوراً مؤلماً، يتم تقديمه كشيء يمكن تقديره، وهذا يطرح تساؤلات حول كيفية تصنيفنا للعواطف الإنسانية. هل يمكن أن يكون الحزن تجربة نبيلة تستحق التقدير، أم أنه مجرد عبء يتعين علينا حمله؟ هذا التوتر بين القيمة والمعاناة يدعو القارئ إلى إعادة النظر في كيفية فهمنا للأحاسيس وتقديرنا لها في سياقات مختلفة.

في تلك الظهيرة

لمستك من غير قصد

وكان هذا أهم حدث لي منذ أعوام.

لقد أسكرني وأصابعي

ملمس جلدك.!

تفكيك الحسية والعاطفية عبر اللمس

في هذا النص، يصور الشاعر تجربة اللمس كفعل حسي يتجسد فيه النشوة، وعند تحليل النص بشكل أعمق، نجد أن تلك النشوة الحسية تتجاوز حدود الجسد لتصبح تجربة عاطفية ومعنوية. من خلال فكرة التفكيك، نرى أن اللمسة البسيطة تتحول إلى لحظة وجودية للشاعر، ويظهر التداخل بين الجسدي والعاطفي، هذا الطرح يعكس مفهوم التفكيك الذي يرى أن التجربة الإنسانية ليست مجزأة بوضوح بين الجسد والعاطفة، بل تتشابك في شبكة متداخلة من المشاعر والرموز.

كما يستخدم النص الصورة الشعرية لكسر القالب التقليدي بين اللمس بوصفه فعلاً مادياً، والنشوة العاطفية التي تنبثق منه، فاللمس هنا ليس مجرد إحساس، بل هو رمز معقد يحمل معاني متعددة تتجاوز الفعل المادي البسيط.

تقولين أنني دائماً ما أشرد حينما نكون معاً

الحقيقة أنني عندما تتحدثين أسافر في تفاصيل وجهك الخلاب..

أراقب النجوم في عينيك والربيع الغض على وجنتيك، سحر ابتسامتك وجنون ضحكاتك..

أشاهد الكلمات وهي تخرج من فمك وتتشكل في الهواء لتبدو وكأنها كائنات فردوسية يمكن لمسها والإمساك بها..

لطالما كانت أحاديثك تسافر بي بعيداً عما تتحدثين..

ولطالما كان وجهكِ مسرحي المفضل، والحانة الوحيدة في بلدة المتاعب والهموم.

تفكيك المعاني المجازية والواقعية للكلام

في هذا النص، يتلاعب الشاعر بمفهوم الواقع والمجاز عندما يقول إنه “يسافر” في ملامح الحبيبة أثناء حديثها. هنا، يتم تحويل الكلام من مجرد وسيلة للتواصل إلى شيء ملموس وحسي، وكأن الكلمات يمكن رؤيتها أو لمسها. هذه الصورة المجازية تضفي على النص أبعاداً متعددة، حيث يتحول الكلام إلى وسيلة لاستكشاف الجمال بطريقة حسية.

التفكيك هنا يكشف عن التناقض بين الكلام والواقع. فالكلمات، التي تُفهم عادة على أنها رموز مجردة، تصبح هنا كائنات ملموسة وحسية، مما يعزز فكرة التفكيك بأن المعاني ليست ثابتة. النص يقترح أن الحبيبة ليست مجرد مصدر للكلام، بل هي مصدر للدهشة والجمال الذي يتجاوز حدود الكلمات نفسها. أما استخدام الشاعر لصورة “الحانة الوحيدة في بلدة المتاعب والهموم”، فهو يعزز العلاقة بين الحبيبة وكونها ملاذاً نفسياً وحسياً، مما يربط الفعل العاطفي بالحسي ويُظهر التداخل بينهما بشكل أعمق.

أتدرين مالذي قاله بيرينيون بعد أول رشفة من اكتشافه؟

لقد صرخ منادياً زملاءه الرهبان:

هلموا يا إخوتي

إنني أتذوق النجوم.

 

******

 

فتعالي إليّ إذاً

ودعي شفتيك تذوبان في محيط فمي

هكذا سأصرخ أنا أيضاً

مستجمعاً رفاقي القتلى والمفقودين:

هلموا يا رفاق..

إنني أعانق الله.

تفكيك النشوة الروحية والارتباط بالإله

في هذا النص ينقل الشاعر لحظة مميزة من النشوة الروحية، إذ يقارن القبلة باكتشاف بيرينيون للشمبانيا، وعندما يقول “تذوق النجوم”، يخلق صورة تعبر عن شعور عميق بالسعادة والانغماس في تجربة تتجاوز الحدود المادية.

في المقطع الاخير، يتم تصوير العلاقة بين الجسد والروح بطريقة متشابكة، حيث تتداخل اللحظات الحسية مثل القبلة مع التجارب الروحية، فنجد الشاعر يعبّر عن كيفية تحوّل الفعل الجسدي إلى تجربة تثير النشوة الروحية، وتظهر مشاعر الفقدان من خلال استدعاء الشاعر لأصدقائه الذين رحلوا، وهي رغبته في إعادة الاتصال بهم خلال اللحظة الحالية.

تعد الجملة الختامية “إنني أعانق الله” تجربة تواصل مع القوة الإلهية من خلال الفعل الجسدي، وبهذا يكسر الفهم التقليدي للصلاة أو التأمل، وتجارب الحياة اليومية تقودنا إلى الروحانية.

استخدام الشاعر للغة المجازية يثري المعاني في النص، حيث تشير كلمات مثل “تذوب” إلى انصهار العلاقات الإنسانية وتجاربها الملهمة. إن النص يعيد التفكير في الفكرة التقليدية التي تفصل بين الجسدي والوجودي، حيث تتحول القبلة إلى تجربة وجودية تعكس عمق التجربة الإنسانية، مما يثير تساؤلات حول الحب والفقد.

كما تحمل الأبعاد الثقافية والاجتماعية دلالات مهمة، إذ يتحدى الشاعر المعايير المجتمعية التي تحكم العلاقات، مُعيداً التفكير في كيفية تداخل المشاعر الفردية مع السياقات الثقافية.

يعتمد قيس عبد المغني في نصوصه على استخدام استعارات وتشابيه مستمدة من عالم الحسية، لكنها لا تظل محصورة في معناها التقليدي. بل تُفكك هذه النصوص الحدود المعتادة بين الجسد والروح، وبين المادي والمجازي، مما يُتيح للقارئ استكشاف أبعاد جديدة للتجربة الإنسانية.

تفتح نصوصه باباً واسعاً أمام قراءات متعددة، حيث تختفي الفواصل بين التجارب المختلفة، مما يجعل من التجربة الإنسانية شبكة معقدة من التفاعلات. وفقاً لنظرية التفكيك، يمكننا أن نستنتج أن هذه النصوص لا تكتفي بتفكيك المعاني التقليدية، بل تعزز أيضاً فكرة أن التجربة الإنسانية تتسم بالتداخل والتعقيد، ولا تحتوي على معاني ثابتة أو نهائية، بل تسير في منحى دائم من التغير والتطور.

تتناول مجموعة “طائر بعكازين” لقيس عبد المغني مواضيع إنسانية عميقة من خلال أسلوب شعري يمزج بين الحسّية والروحانية، تتجلى فيها استعارات غنية وتفاصيل حسية تتفاعل مع تجارب الحياة اليومية، مما يُعطي القارئ فرصة للتأمل في التناقضات والأبعاد المختلفة للوجود.

تسعى النصوص إلى استكشاف حدود التجربة الإنسانية، حيث تتداخل فيها العناصر المادية مع المجازية، مما يُفكك المعاني التقليدية ويعزز فهماً أعمق للتعقيدات التي تشكل حياتنا. من خلال استخدام الرمزية والصور الشعرية، تُبرز المجموعة رحلة البحث عن الهوية والانتماء، وضرورة التكيف مع الواقع رغم التحديات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى