فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

وجدي الأهدل في وادي الضجوج!!

صلاح الأصبحي*

 

في البدء كانت علاقتي بوجدي الأهدل قاصاً وروائياً قد انبثقت على أكتاف روايته “بلاد بلا سماء”, قرأتها في سنوات مبكرة, لكن بعد أن أتممتها بأيام فقدتها وظللت فترة ليست بهينة أبحث عنها لكن دون جدوى, اختفت عني وكأن صاحبها سحبها مني لقراءة سيئة مني إزائها على الطريقة الغرائبية التي يكتب بها هذا الروائي, وبعدها بسنتين كنت قد كتبت بحثاً بعنوان ” البنية الثورية في حرب لم يعلم بوقوعها أحد ” وفقدته أيضاً, كان مخطوطاً قبل أن أمتلك حاسوباً خاصاً, تتابعت اهتماماتي به أكثر فيما بعد .

بعد سنوات على صدور روايته الأخيرة يفاجئنا وجدي بإصدار مجموعتين قصصيتين الأولى ” ناس شارع المطاعم ” الصادرة مطلع عام 2017م عن دار أروقة في القاهرة, وينهي هذا العام بإصدار مجموعة ثانية بعنوان “وادي الضجوج” عن الأمانة العامة لجائزة الشباب والتي هي محور حديثنا في هذه السطور..

,جاءت هذه المجموعة باثني عشر قصة, تقترب عن كثب من حافة الليل المليء بالحكايات المدهشة التي لازمت أفواه المسنين والجدات وهن يقضمهن على أسماع الأطفال والتي تصدح بها كثير من المناطق في مختلف بقاع اليمن, لكن القاص هنا يمنحها وجهاً مختلفاً, يبعثها من جديد على قرائه بعد صهرها في خياله الخصب لكنها تماثل أو تتكئ على منوالها أو ترتشف من عوالمها بعض الأصابع.

يمنح الليلُ القاصَ الأرضية المتحركة التي ستتدفق على ظهره عوالم هذه القصص بما يجلب الليل من تداخل بين ثنائيين مختلفين (الإنس والجن), بل إن القاص يقف على أعتاب الغسق وانحسار النهار في مسافة تتيح له سرد تلك الأحداث التي يتسبب بها هذا الزمن الفاصل بين الليل والنهار ككاميرا تلاحق من يجدف به الحظ للسقوط في متاهات مغايرة لحياته المألوفة إن كانت اعتيادية؛ فتنقلب رأساً على عقب إن تواشج مع هذه اللحظات المتربصة, فإما أن ينجو أو يتصادم أو يهلك أو يصير جزءاً من عالم ليس منه.

عُرف عن وجدي الأهدل كقاص وروائي الانزلاق عزوفاً عن عالم المألوف إلى عالم يحمله بمتغيرات الواقع, حيث يتداخل الواقع بالخيال والغرائبي بالمعتاد, عالمه سحري ومدهش للغاية, عالم يضج بالدهشة والخصب وينبع منه سرب لا ينقطع من السرد الحي والنبش المختلف الذي لا يسير عليه أقرانه من رفاق خياله, يطرق أبواباً مغلقة, ويوصد أبواباً مفتحة ليخلق عالماً أكثر فزعاً وأكثر تصادماً, ويشعرك بحقيقته, وذلك لقدرته على الايهام والتضليل السردي بحرفية وتفنن, لا يكتب باعتباطية حتى وهو ينخر موغلاً في سحريته وغرائبيته إلا أنه يتمكن من سبك وحبك الأحداث ولا يعدم الحيل الفنية لتخريجها وتنميقها.

في مجموعته “وادي الضجوج” والذي يلمح سيميائياً منذ عنوانها اللافح بالتوجه صوب عالم الجن الذي خصص لهم هذا الوادي ” إنه الوادي المخيف الذي لا أحد يجرؤ على الدخول إليه وكل من يصادفه في طريقه يلتف حوله ولا يعبره, كان هذا المكان المظلم حتى في وضح النهار لتشابك أشجاره والتفافها حول بعضها بكثافة مسكناً للجن, وحتى أشجع الرجال لا يغامر بالدنو منه”  المجموعة(ص 56), هذا الوادي الذي يشكل مرتكزاً لاستقطاب الحكايات والأحداث المشابهة له في هذه المجموعة من قبل القاص مع أنه يمثل عتبة تسيل لعاب الحوادث المثيرة للدهشة بدأها بحادثة عبدالرحمن الدقداق” يروي أهل الجبل واقعة عبدالرحمن الدقداق كموعظة لمن تسول له نفسه وطء تراب الوادي المسكون, يقولون إن هذا الفلاح القوي البنية حمل فأسه ودخل وادي الضجوج وقت الزوال, ناوياً قطع شجرة  شوحط وبينما هو يتحسر جذوعها ليختار أجودها ليصنع من خشبها هراوات يبيعها في السوق إذا به يلحظ  جدياً وبره أسود, يجلس مقرفصاً بهدوء على العشب, أعجب بقرنيه, كانا مستديرين كهلالين يسلبان اللب من روعتهما, لاحظ أن الجدي كان ينظر إليه وعلى فمه ابتسامة بشرية! فكر عبدالرحمن في أخذ الجدي وقدر أن مذاق لحمه سيكون طيباً, اتسعت ابتسامة الجدي وامتدت إلى شدقه الأيسر وكأنه يسخر من الخواطر التي دارت في خلد عبدالرحمن, علق فأسه على أحد الأغصان وتقدم بثبات نحو الجدي, انحنى وبسط ذراعيه ليحمله, لمح عبدالرحمن تغضن جفني الجدي ونظرة نارية من حدقتيه ثم وثب عليه وضربه بأحد قرنيه على خده ولاذ بالفرار  ومنذ تلك الساعة عاش عبدالرحمن ألوقاً ” (نفسه , ص 56).

بهذه اللقطة السردية يجتذب القاص قارئه ليلج معه أزقة الوادي وكأن قارئه يسير معه خطوة بخطوة؛ ليبصره بحقيقة الوادي الذي يعج بالكثير من الخبايا المتشوقة للإفصاح عن سرها,” في النهار يسمع الناس باستمرار صوت امرأة تطلق صرخة رهيبة طويلة ترجف لها القلوب “آآآآآووو” ثم تخفت بالتدريج وكأنما صاحبتها قد ترددت من شاهق إلى قعر وادي الضجوج, فجأة ودون أي ارتباط بوقت محدد تردد الجبال صدى صرخة المرأة الساقطة, ويقال إنه يمكن توقعها مرة واحدة على الأقل  قبل غروب الشمس مباشرة, يتناقل أهل الجبل أن صاحبة الصرخة هي (سلمى بنت الزواك) التي مضت بقدميها إلى وادي الضجوج  قبل مائة عام وتسلقت شجرة ذرح لتقطع حطباً من أغصانها “( نفسه, ص 57), هذه المرأة التي لقت حتفها من الشجرة وحين البحث عنها من قبل أولادها كشفت سر حتفها ” أخبرته أن امرأة معلقة في الهواء دفعتها من فوق شجرة الذرح, أوصته أن يزغرد إذا رآها “( نفسه, ص 57), لا يكتفي القاص بسرد الحكايات المنبثقة من هذا الوادي فحسب بل يتأنى بتصوير ملامح الوادي جغرافيا ليتسنى له مناسبة حكاياته مع الشكل الخارجي المفزع ” وادي الضجوج هو الضلع الأعوج  المفقود من أضلاع الجبل, أعلاه حيد صخري أملس كحد الشفرة, لا يجرؤ حتى الضبع على الاقتراب من حافته, وأسفله غيل يترشح من بين تجاويف تعشعش فيها الثعابين ويتحدر منه ماء فيه بقع طحلبية ضاربة للسواد,  والقرويون يتجنبون  الشرب منه لمذاقه المر “(نفسه, ص58).

كما يحفل الوادي بالكثير من الفواجع الناشبة من ثناياه كالرجم التي يتلقاها من ضل طريقه وقاده حظه إليه, وابتلاع الأشخاص واختفائهم بمجرد مرورهم عبره, فالقاص هنا يكتب سيرة ذاتية للوادي على لسان ضحاياه وكذلك يتتبع الصورة الموحشة التي خلقها الوادي عند السكان المحيطين لدائرته, والذي مثل علامة هلاك وشؤم وإزهاق للأرواح التي لقت حتفها على يده, لكن القاص في نهاية قصة وادي الضجوج يبدد وحشته بتنميقها مع شخصية اللص الجبار ( جمل الليل) الذي احترف هتك الممتلكات سرقة, وتناهى أمره خلف قضبان حاكم الجبل؛ لكن تواطؤ السجان معه  والسماح له ليلاً بالخروج لدحض التهمة وتحقيق الانتقام من أهل القرية الذين كادوا أن يردوه صريعاً في ليلة من ليالي دحض تهمته؛ لكنه احتمى بالوادي المرعب فارتدّوا عن مطاردته “ارتمى  على أرض خضيلة قرب مجرى الغيل, وقال في سره: إن الجن على مساوئهم يظلون أفضل ألف مرة من الإنس الذين مقتوه وسجنوه  وسعوا بكل قواهم لسلبه روحه”( نفسه, ص 60), وهنا تتكشف قدرة القاص في استغلال حكاية هذا الوادي ليعالج موطن الشر المنبعث من عالم الإنس أكثر من الجن كما هو متجذر في المخيال الشعبي, الشر الذي يسكن الإنسي من الداخل ويتوهم نفسه مصدراً للخير وملصقاً إياه بعالم غير ظاهر, حتى أنه يجعل من عالم الجن مرتعاً آمناً لبطله (جمل الليل ) في نهاية القصة,” ظلت تنظر إليه بثبات  دون أن ترمش بعينيها فترة طويلة, ثم تركت النافذة فجأة فانقبض قلبه وشعر بالحزن  وبعد لحظات قصار وجدها تفتح باب البيت وتشير عليه بالدخول, لم يتردد, انطلق نحو الباب المفتوح  وهو يحس في قرارة نفسه بطمأنينة عميقة” ( نفسه, ص 62).

يسير القاص في أغلب قصص المجموعة متواشجاً بين التقاط حبل النجاة والهلاك من نقطتي الاختلاف بين الإنس والجن, نافضاً الغبار عن تلك المغالطة الشائعة المنصبة من فاه الشر الآتي من الخارج, ففي قصته ” الجنية سارقة الفطير” التي صادفها الجد وقد سرقت خمساً من الفطير, وتعرف على أنها تخص زوجته والتي لم تستطع الجنية الدفاع عن ملكيتها لها “اخضلت عينا الجنية بالدموع” وقالت متوسلة: “سامحني أعدك أعدك هذه آخر مرة مرة ” ” أخذ جدي الفطير وناولها فطيرتين وقال لها: تكفيك فطيرتان وإياكِ أن تسرقي الفطير من بيتي مرة أخرى, هل تسمعين, فرحتْ الجنية, وهزت رأسها مرتين ثم ركضت مبتعدة واختفت في فجوة بين صخرتين ” (نفسه, ص 32) , وبهذا يثبت القاص أنه من الصعب أن يعترف الإنسي بإثم أرتكبه وستقرح نخوته حتى لو كُشف متلبساً بمثل هذه الخطيئة وسيتصنع الشرف مهما كلفه الأمر, فالقاص هنا لا ينتصر للرجل الذي استرد فطائره بقدر ما انتصر لفكرة الاعتراف المتعلقة بالنبل والتي كلما ابتعدنا عنها كلما كنا أكثر زيفاً وانحطاطاً.

كذلك في قصة ” المكيال السحري” التي تتحدث عن زهرة التي اشتهرت بقدرتها على منح نساء المخاض النجاة, والتي كان يوم سعدها حين اصطحبها الجني  للقيام بالمهمة ذاتها مع زوجته, ومنحها مكيالاً سحرياً، قدم لها الجني مكيالاً ممتلئاً حتى حافته بالبر الأبيض الغالي الثمن,  وقال لها: إنه مكيال مسحور إذا أخذت منه النصف أو أكثر قليلاً فإنه في الغد سيعود ممتلئاً كما كان,  وهكذا يمكنها أن تأخذ منه كل يوم إلى ما شاء الله وحذرها من أن تفرغ المكيال من البر؛ لأنه إذا فرغ تبطل قوته السحرية” 

( نفسه, ص 8ـ9).

وكذلك في قصة” عيشة”  الفتاة التي أخطأت بيت جارتها ليلاً حينما ذهبت تستجلب حليباً للضيف الذي وطئ بيتهم, وأجبرت على الذهاب من أبيها رغم الفوبيا التي تغلفها من الليل لكنها لم تجد مفراً من الانصياع لأوامره,  وقادتها ظلمة الليل لتدلف إلى مسكن الجن المنشغلين بعرس ابنهم, ومكثت أياماً بينهم على عدد سنوات عمرها, وعادت بالحليب بعد هذا الزمن وقد لقت معاملة ودودة من قبل الجن واستحسن مقامها بينهم, عيشة التي لقت ذلك جراء اعتقاد أبيها أن فحولة ثوره مع بقرات القرية سترفده بثمار الأبقار وقت حاجته لها, تكشف القصة مدى الرأفة التي نالتها عيشة من الجن مقابل القسوة التي رفسها بها أبوها, كما أنها تشير تلميحاً إلى السن الذي حدد وتَقَبل أبيها بالضيف عريساً لابنته, فالقاص لا يفصل كما ذكرنا آنفاً بين العالمين بقدر ما يفصل عن حالة الشر والخير المنبعثين من العالمين مقارناً بين مستواهما.

ينوع القاص مكمن الصراع في قصصه ,منتقياً ومعالجاً حساسيتها المفرطة حيث يدخل أكثرها احتكاكاً في الأحداث وبالأخص تلك التي تستغل ظرفها وتسعى للتسلط, يظهر ذلك جلياً في قصة ” شباذة” الجنية التي عرفت كخادمة ضريح الولي (جمال الإسلام أحمد ), ” لا أحد يقترب ليلاً من الرحى الخاصة بالجنية شباذة  خادمة الولي حتى الأجنة في بطون أمهاتهم يعرفون هذا الكلام , هذه الرحى التي قُدّت من حجر أسود هي الأكبر من نوعها في الجبل “, ” تقوم شباذة بشغلها في جوف الليل وإذا واحد وضع أذنه على باب الضريح فإنه سيسمع هسهسة دوران الرحى؛ ولأن الكل يراعي الناموس فإنه لم يحدث أبداً أن قام واحد بفتح الباب ليراها وهي تطحن, آخرون كانوا ينذرون برأس من البقر أو الغنم ويصعدون إلى الضريح مهللين, ثم يوزعون اللحم المطبوخ والخبز على الفقراء” (نفسه, ص 27)

“وكما جرت العادة كانوا يخصصون جزءً من اللحم والخبز لخادمة الولي فيضعونه في قدر ويتركونه الليل كله داخل الضريح, وفي الصباح يأخذون القدر وقد فرغ من محتواه “(نفسه, ص 28), تبدو صورة الجنية شباذة أليفة وتسعى لتفادي البشر الوقوع في المصائب,” في المقابل كانت شباذة ترد الجميل لمحبي الولي فتهمس في آذانهم بالخيارات الصحيحة في الحياة وتجنبهم الأحداث التي ننسبها لسوء الطالع, شباذة هي اليد الخفية التي تطفئ الحريق في أول اشتعاله قبل أن يشعر به أهل البيت, والعين الساهرة التي تمنع الحنشان من دخول الحجرات,  والقدم غير المرئية التي تنشر روح الانسجام والسعادة بين أفراد العائلة” (نفسه, ص 27), لا تستتب الحالة على هذه الشاكلة بين أهل القرية والولي وخادمته لكن سرعان ما تجد الخصومة طريقها إلى نفس البعض؛  فيسعى لقلب المعادلة “سيفان أبو حربة شيخ الجبل كان يشعر بالغيرة من الولي, ينزعج من محبة الناس له, تتورم خصيتاه عندما يذكر اسمه, ” سيفان رجل غني يملك مدرجات زراعية لا يحدها البصر لاتساع رقعتها وتواصلها على جهات الجبل الأربع؛ لكنه كان مكروهاً من القرويين لبخله وتعسفه في تعاملاته معهم؛ لذلك تمكن الحسد من روحه وأكل قلبه وتوهم أن الجاه الذي نزل على الولي سببه خادمته شباذة, وأنها هي التي تفعل الأفاعيل كلها التي تنسب بغباء لرمة أكلها الدود”. (نفسه, ص 27).

 يمضي سيفان في تحقيق ذاته عبر انتزاع مهمة القيوم (أمحمد) وشجب الفرار من سمعته التي مرغها الشيخ وأسند المهمة لنفسه, ” استولى على الرحى ونقلها إلى حجرة بيته, رفعها على ظهر ثور أسود” (نفسه ,ص 28),” تدفق القرويون على الحجرة التي خصصها الشيخ لرحى شباذة؛ فكانوا يضعون الحبوب بأنواعها والقدور الغاصة باللحم والخبز عند الرحى ويمضون, وكان الشيخ آخر النهار وبعد إغلاقه لأبواب داره الواسعة يفرغ القدور عشاءً له ولعائلته ولحراسه ولعسكر الدولة الذين كانوا يعرجون عليه واضعين أنفسهم رهناً لإشارته” (نفسه, ص 29), تمكن القاص عبر هذه القصة من نقل صورة عن الواقع الاجتماعي والقهر الذي ينخره والسلطات التي نذرت نفسها لانتزاع حتى الفتات المخصص للنذور المتعلقة بعالم الجن وأضرحة الأولياء غير مكتفين بما نالوا من مال ومكانة, لكن القاص يجعل من هذا الجشع يلقى مصرعه على يد جنية ضاجعها بطريقة ما وكانت نهايته.

وفي قصة “بكير” الولد الذي لازمته محنة الهبل وخفة العقل كانت الجنية هي من منحته الخلاص من محنته ” وفي تمام الأربعين ليلة على وفاة والدته اقترب منه خيال غير واضح المعالم في غبش الليل ورمى في حجره حبة رمان, التهمها كعادته بقشرها, كان جائعاً جوعاً حيوانياً نهش الرمانة بأسنانه, وأجهز عليها في وقت قصير جداً حتى أن عصارة الرمان سالت من فمه,  فجأة صار واعياً وشكر في نفسه الجنية الطيبة التي أرضعته وجعلته ملاكاً شعر باسترخاء شديد ثم دب في جسده عضواً عضوا زفر بقوة, ورن شيء كالجرس؛ فابتعد عن الثقل الذي كان يقيده  بالأرض, نما له جناحان, وطار عالياً, عالياً جداً, حتى أن الأرض بدت له متناهية الصغر كذبابة فأغلق فمه وابتسم ” ( نفسه , ص 73).

 ما زال عالم الجن يشكل منقذاً لأبطال قصص المجموعة على خلاف التعسف الذي أنيط ببكير بعد فقدان أمه, وما لقيه من مقت ونبذ ممن حوله حتى واتته هذه الفرصة من عالم لا مرئي الذي وصفه القاص بخيال غير واضح كأنما عجز القاص عن تحديد ملامحه.

وفي قصه “خيزران وسلطانة” لا ينوح القاص بعيداً عن عالم الخوراق الجن إذ تدور أحداث القصة في حيد, وتكون شرارة البرق هي اللاعب الأهم في القصة التي خلطت بين جسدي الفتيتين وحلت الكارثة على زوجيهما شيعان وسنان في إشارة واضحة من القاص من خلال التسمية إلى السُّنّة والشيعة كمذهبين شائعين أفتيا بتحريم الزواج للأخوين؛ بينما كان لتأمل الرجل الصوفي الذي أسماه القاص بصائم الدهر الفضل في التمكن من إزاحة هول الكارثة ودلهما على الطريق التي ستعيد الأمور إلى مجاريها بحلول عام بكامله, وهذا انتقاد واضح من القاص لسلطتي المذهبين التي لا تجد في الغالب غير صيغة التحريم كلما تعثرت دون النظر بعقل  

لعل هذا الملح من أكثرها اشتغالاً عند القاص في هذه المجموع , وهو الملمح الذي يحمله مجمل أعمال وجدي الأهدل بحسب عبدالسلام الربيدي في دراسة له عن الأهدل والتي استخلص فيها أن الفكر الأدبي له متخم بالتنوير والتحديث,  وبالأخص أنه متمكن في تقديمه بقدرة فنية لا مثيل لها على الأقل في اليمن, حيث أكسبته خبرته السردية الطويلة استنارة فائقة في معالجة وفكفكة الأنساق المعتمة  التي تتحكم ببنية الوعي في المجتمع فهو يرسل أشعته السردية ويبدد ظلمتها الحالكة مغلفاً صنيعه هذا بحيل ترميزية تفادياً للتصادم المصاحب لذلك من المجتمع المتحجر.

وعودة للسياق السردي في وادي الضجوج يمكن القول إن القاص وقف سارداً بين ثنائية الأنا والآخر (الإنس والجن ) ليستخلص بحيادية دون تحيز بؤر ذلك الصراع ويكشف بشاعة الاستغفال التي يسيطر على المجتمع جراء انجراره لوهم الصراع الذي لا وجود له في الأصل؛ بينما لم يحدث التساؤل أو الوقوف لوضع حد لذلك الاتساق غير المنطقي, وقيام القاص بهذه المهمة ليس من السهولة بمكان الولوج لها لولا الحذر الشديد الذي التزم به القاص في رحلته هذه المحفوفة بالمخاطر فاستطاع اخضاع تلك الحكايات الهوائية الطائرة في أفق الذاكرة الشعبية وإمساكها وخلق واقعاً سردياً متخيلاً, راسماً إياه بحبكة تشبه أحداثه وشخوص مناسبة لتأدية أدوارها دون الوقوع في فخ الاعتباطية.

وعليه فإننا نجد وجدي في هذه المجموعة قد بطن قصصه بأنساق مضمرة تشي بعكس ما يقوله ظاهرها, ممرراً بتحرر نواياه الباطنة التي يتوسل منها تأثيراً في القارئ عبر وادي الضجوج بعالمه المليء بالمغامرة والتجاوز والذي جعل منه مصب ارتباط واحتكاك بينه وبين عالم الواقع كالقرى الملتفة حول هذا الوادي, محدثاً تغييراً في حياة الناس القاطنين فيها بما يمكن أن نسميه حافزاً ثورياً لتغيير حياة الكد والفاقة المتربصة في متون الحياة اليومية, ليس تحفيزاً في المضمون وإنما  في اللغة أيضاً.   

وفي الختام يمكن استذكار مقولة رائد الواقعية السحرية ماركيز الذي قال “إن السوريالية في كولومبيا تسير في الشوارع”, ونحن في خضم مجموعة وادي الضجوج لوجدي الأهدل الذي اغترف من هذا الوادي الكثير من الفنتازيا والغرائبية أحداثاً وقصصاً بدت وكأنها فيض من ميثولوجيا الجبل والوادي اليمني وأدهش القارئ بتسلسلها وسردها دون أن ينفلت في مخاض التفكك والتشتت كما لو كانت محتوزة في صرة سردية لكهل يجيد تنميق الحكي بلغة سلسة وصبغة فريدة لا تخلو من حقيقة دون أن يتملص القارئ من سماعها.   

  

                              _________________

  *كاتب من اليمن 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *