فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

توظيف اﻷقنعة: جدة وابتكار أم استنساخ واستهلاك؟

هشام شمسان

 

مقدمة:
□ هل شعراء، وكتاب ما بعد الحداثة بحاجة إلى استدعاء وتوظيف اﻷقنعة الشعرية للاختباء خلفها والتداخل بها للتعبير عن مواقف ذاتية ما يريدون إيصالها للمتلقي؟.
□ لقدكان القناع الشعري بجميع أنماطه: اﻷدبية، والتراثية، والدينية، والأسطورية، والصوفي، والتاريخية وسيلة وتقنية جمالية لكثير من النصوص العربية الحديثة في فترة سابقة منذ الخمسينات وحتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي والتي كان شعراؤها العرب بدورهم يحاكون شعراء غربيين أفادوا من تقنية الرمز بالقناع في فترات أسبق مثل تي.سي. اليوت مثلًا.. وغيره.
□ ولكل ما سبق يمكن القول بأن تقنية الرمز بالقناع صارت أداة فنية مستهلكة، في عصر ما بعد الحداثة، ومالم يتم تنقيحها، وتحويرها، وتهذيبها، وتوظيفها بإبداعية مغايرة ووفق أبعاد جديدة فيها الجدة، والابتكار؛ فإن هذه التقنية ستبقى في نطاق المستهلك والمستنسخ الذي فقد بريقه وشعريته مع الزمن؛ إذ إنّ القناع وظّف في فترة الستينات وما بعدها من القرن الماضي لانتشال القصيدة العربية من حالة التردي الفني؛ وتخفيفا لها من حدة الغنائية والمباشرة؛ مما جعل الشاعر العربي يستعين بقناع رمزي أدبي أو تراثي أو ديني أو أسطوري؛ ليتفاعل من خلاله دراميا أو هارمونيا ليضيف للنص نوعا من الغموض الشفاف “ليحاكم من خلال نقائض العصر الحديث” أو ليتحد به الناص فنيا للتعبير عن موقف وجداني ما، أو موقف رؤيوي فكري ما، من خلال منظور ذاتي متعدد اﻷصوات كما في اﻷقنعة المركبة التي يوظف فيها الشاعر أكثر من قناع أو شخصية، أو من منظور ذاتي يتحكم به صوت واحد، كما في القتاع البسيط (وحيد الصوت).
وكان ممن وظف القناع في نصوصه عبد الوهاب البياتي، وأدونيس، وعبد العزيزالمقالح، وبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، و سعدي يوسف وغيرهم، والقليل من شعراء التسعينات اليمنيين كما لدى الشاعر علوان الجيلاني (القناع الصوفي) وأحمد ضيف الله العواضي
(القناع التاريخي)، وغيرهما.
□ وأكرر: هل النص الجديد والحديث بحاجة إلى تقنية القناع ليتماهى من خلاله الشاعر ويتمازج ويتداخل مع ذاتياته وآلامه وأحزانه والتعبير من خلاله عما يجول في نفسه من عوامل ومواقف ورؤى شعرية دون أن يحدث ذلك ترهلا فيه، أو تراكمية فنية لاطائل منها.
سوف نختبر ذلك من خلال اختيارنا لنص
“فاتحة الليل” للكاتب اليمني المبدع أمين الملحاني، وهو من النصوص الحداثية الجديدة التي تتماهى مع القناع وتعيد توظيفها تعبيريا وذاتيا..

النص:
فاتحة الليل
▪في السطر الأول من فاتحة الليل
خلع “كيوبيد” رداء العتمة عن عينيه،
تنصل عن دعوته بوحدانية الحب،
آمن ألا استنساخ ل” الماموث “،
وألا عين للتوهان..
▪في السطر الثاني من فاتحة الليل
مات كيوبيد!،
جوليت تقصّ ظفائرها؛ لتحرّرنا من تلك الصلوات اللاتي نرفعها استجداءً للشمس،
الكل هنا يتأبّط خوف تحقق وعد كيوبيد المشؤوم، كشف السر المدفون لرغبتنا حبات القمح.
▪في السطر الثالث من فاتحة الليل
حشد لنساء مدينتنا يتقاسمن الخصلات
يلهجن بتعويذتهن بملء الصرخة
“كيوبيد” لا يموت!
اللعنة على جوليت!
▪في السطر الرابع من فاتحة الليل،
زعيم الحارة يخطب في جمع للمكسورين.
الموت للتفاحة حين تناول آدمنا منها،
و الموت لشجرتها الملعونة حين ينام “نيوتن” تحت ظلالها،
الموت لها!
الموت لها!
▪في السطر الخامس من فاتحة الليل،
تناقش حواء العلم رسالتها الموسومة “سر التفاحة جاذبية وسقوط”،
تمجد فيها مذاق التفاح،
تصف تدلّي ثمرتها،
كل الجمهور تحور عن آدميته كف و فم و لسان.
▪في السطر السادس من فاتحة الليل
لم أفقه من كلّ المكتوب سوى كلمة “آي فون “،
و إشارة كاتبه إلى تفسيرٍ في الهامش،
لا سطر آخر،
لا هامش،
“جزء من الليل مفقود”

■ الرموز القناعية: تحليل وتوصيف:
وظف الكاتب في نصه ستة رموز قناعية هي:
– كيوبيد  Cupid: قناع أسطوري، وهو من آلهة الرومان وابن الآلهة فينوس ويعد من أشهر أساطير الرومان. يصور على هيئة طفل ملائكي أعمى وله جناحان وبيده سهم. تقول اﻷسطورة: من أصابه السهم وقع في الحب.

– الماموث: رمز بهمي غابي ويسمى بالماموث الصوفي، ويعد تاريخيا من أكبر الثديات وعملاق العصر الحجري.

– عين التوهان: رمز أسطوري، وهي عين يقال:  إن من شرب منها
ظل تائها في اﻷرض أربعين سنة.

– جوليت: قناع أسطوري، كلاسيكي، وهي بمسماها العطفي (روميو وجوليت) اسم لرواية شعرية عالمية من أعمال وليم شكسبير، حيث تعد من أعظم مسرحياته الكلاسيكية. وهي قصة حب تنتهي بفاجعة أليمة.

– آدم وحواء: قناع ديني. تقول الروايات اﻷسطورية: إن سبب خروجهما من الجنة كان أكلهما تفاحة من الشجرة الملعونة.
– نيوتن: قناع تاريخي. وهو مكتشف نظرية الجاذبية بالتفاحة.

□ اﻷقنعة: رموز وإحالات:
بعد أن توقفنا عند توصيف اﻷقنعة، نقف تاليا مع ما مرموزات وإحالات كل “قناع” لمحاولة دمجه مع نص الشاعر ومقولاته الشعرية: جماليا وتقنيا.
وبادئا نشير إلى أن الناص لجأ إلى تقنية القناع المركب المتعدد اﻷصوات بحيث يجد القارئ أكثر من قناع متحرك ضمن سياق النص، وهي محمولات احتفائية متشاجرة أعطت للنص (القصير) حمولة معرفية كان يمكن أن تشذره لولا تدارك الناص لذلك -بقصد أو بعفوية الكتابة – من خلال تقسيمه إلى عدد من اللوازم الشعرية المبدوءة بتعبيرية موحدة: ( في السطر ….)
لتصل تلك اللوازم إلى ست وكل لازمة من اللوازم الخمس اﻷولى كان يبرز لنا قناع  وحيد، أو صوت مشتجر بآخر، كقوله مثلا:
▪في السطر الثاني من فاتحة الليل:
مات كيوبيد!
جوليت تقص ظفائرها
لتحررنا من تلك الصلوات
اللاتي نرفعها استجداءً للشمس
وحتى يعطي الكاتب لقناعه الحيوية اللازمة وجب أن يجرده من رمزيته المعروفة ويخرجه من نمطيته وجموده اﻷسطوري أو التاريخي حتى يستطيع أن يتفاعل معه نفسيا وذهنيا:
■ في السطر الأول من فاتحة الليل:
خلع “كيوبيد” رداء العتمة عن عينيه
تنصل عن دعوته بوحدانية الحب
وها هنا نرى أن الناص جرد “كيوبيد” من رمزيته المعروفة، فبعد أن كان يغطي عينيه بمنديل “خلع رداء العتمة عن عينيه…” وصار مبصرا. و”تنصل عن دعوته بوحدانية الحب…”
ولاشك أن ذلك أعطى للقناع حيوية وتفاعلية حين حوره شعريا وجرده من وظيفته الرمزية التي عرف بها منذ آلاف السنين ليتماهى وفقا لما يعتمل بذاتيته. وحتى يكثف من تلك الذاتية فقد جعله يتعالق نصيا مع رمزين آخرين هما “الماموث ” و”عين التوهان” حيث اﻷول يرمز إلى القوة الحجرية (التي لا عقل لها) والثاني يرمز إلى التيه والضياع.
وحتى نؤلف ونؤالف بين الأقنعة الثلاثة  فإننا نكون أمام حالة نفسية ساخرة ورافضة لمفهوم الحب من أول نظرة (وحدانية الحب) التي يقدسها العاشق ويتخيلها قوة له واﻷصل فيها السراب والوهم والتيه في غمار حبّ لا منطقية فيه ولا عقل وغير محمود العواقب. فـ(كيوبيد) هنا يكون هو الصوت أو اﻷنا المتحدثة نيابة عن الذات.
□ الطريف والمدهش أن الشاعر في اللازمة الثالثة يحاول أن يميت الرمز المتحدث باسم الذات، لكن يظهر لنا قناع جديد هو “جولييت” وهي:
“تقص ظفائرها لتحررنا من تلك الصلوات اللاتي نرفعها استجداءً للشمس..”
وقص الظفائر هنا كناية عن الحداد ويأس وتحرر من مفاهيم العشقية العنيفة التي مآلها حتما السقوط في بئر الانكسار.
وبما أن “كيوبيد” هو الرمز اﻷكبر للحب اﻷعمى أو الحب من أول نظرة.
فإن أسطورة “روميو وجوليت” هي تجسبد لهذا الحب اﻷعمى (من أول نظرة) والذي انتهى بفاجعة أليمة.
حيث ظهرت رمزية جوليت متماهية تماما مع الصورة التي تداخل بها مع “كيوبيد”؛ ليحقق بذلك معادلا موضوعيا وشعريا تحفيزيا للقارئ.
وتبدأ مهرجانات الدهشة:
■ في السطر الثالث من فاتحة الليل:
حشد لنساء مدينتنا
يتقاسمن الخصلات،
يلهجن بتعويذتهن بملء الصرخة
“كيوبيد” لا يموت!
اللعنة على جوليت!

■ في السطر الرابع من فاتحة الليل
زعيم الحارة يخطب في جمع للمكسورين:
■ الموت للتفاحة
حين تناول آدمنا منها
والموت لشجرتها الملعونة
حين ينام”نيوتن” تحت ظلالها
الموت لها!
الموت لها!
لا يمكن أن نجد تسمية لهذين المقطعين سوى العنونة أعلاه؛ حيث ينقلنا الناص إلى دهشة صدام فيها الكثير من الطرافة واﻹثارة العقلية، وهنا تكمن العقدة النصية اﻷشبه بعقدة القصة أو الرواية حين تتداخل اﻷحداث وتتمازج، وتتماهى؛ بتكثيف عنصري المتعة والتشويق معًا؛ حيث يجد القارئ نفسه هنا مشدودا بكل جوانحه إلى ما سيسفر عنه صراع الذوات واﻷقنعة مع ذوات الشاعر الأدبية.
إذ تنقسم الذوات اﻷدبية إلى فريقين متصادمين:
▪ فريق الذوات المؤنثة والتي ترفض تخلي “كيوبيد” عن مبدئه، ثم إعلان موته كأب روحي للحب الرومانسي من أول سهم يطلق نحو القلب، ثم استنكارهن لتخلي “جوليت” عن مبدئها.
▪ والفريق اﻵخر فريق الذوات المذكرة تحت زعامة (العقل) المرموز له بـ(عاقل الحارة) والذي يحمل الذوات المؤنثة كل تبعات الانكسارات والانهزامات والانهيارات العاطفية الذكورية؛ حيث يتخذ الشاعر من “التفاحة” في قصتها اﻷسطورية رمزا  للأنثى باعتبارها أول من أغوت آدم بأكلها، ولم يكن ليصدقها “آدم” لولا (حبه اﻷعمى لها) الذي قاده إلى تلك النهاية البائسة.
والمفارقة المدهشة أيضا -هنا- أن الناص استطاع بحذق وجرأة وابتكار أن يقسم الذوات المؤنثة على أنفسها أيضًا وهو يدير استنكارًا من قبل أصوات التأنيث على أنثى منهن هي “جوليت” كما أدير النص فنيا ليجعل “جوليت” في صف الصوت المذكر.
■ لنتأمل الخاتمة:
في السطر الخامس من فاتحة الليل،
تناقش حواء العلم
رسالتها الموسومة
سر التفاحة جاذبية وسقوط”
تمجد فيها مذاق التفاح
تصف تدلي ثمرتها
كل الجمهور تحور عن
آدميته كف و فم و لسان.
بهذا “القطع” ولا أقول المقطع يجد القارئ نفسه أمام مشهد سينمائي مبدع.
انتقال زمني واسع من حالات قناعية أسطورية وتاريخية تخللها أصوات مهرجانية تظاهراتية إلى حالة سكونية ليلية. الصورة فيها عصرية محضة وهي عصر العلم والتكنولوجيا.
لكن المفارقة الجميلة في هذه الصورة هو الربط بين العقلية القديمة للأنثى (ماقبل التاريخ) بالعقلية الحديثة لها لعصور ما بعد التاريخ وهو عصرالعلم:
………..
“تمجد فيها مذاق التفاح
تصف تدلي ثمرتها…
ففي تعبير “تمجيد التفاح” إيحاء جمالي ودلالي يلتذ القارئ بسماعه وقراءته ﻷنه ينقلنا من حالة معنى سطحي لأكل التفاحة بمعناه اﻷسطوري والتراثي إلى حالة استعارية ومجازية مبتكرة توحي باستمرار حواء في إغواء آدم ولكن بطرق علمية وعصرية جديدة فيها من التشويق واﻹثارة واﻹغراء ما يؤكد قدرتها ويطور أساليبها اﻹيقاعية به.
وللقارئ أن يتأمل في تعبير:
“تصف تدلي ثمرتها”. ليتخيل أسلوبا من أساليبها في جذب ودحرجة آدم إليها.

– سأترك للقارئ ارتباكه مع آخر نصية أو لازمة قرائية:
■ في السطر السادس من فاتحة الليل:
لم أفقه من كل المكتوب
سوى كلمة “آي فون”
و إشارة كاتبه إلى تفسيرٍ في الهامش:
لا سطر آخر،
لا هامش،
“جزء من الليل مفقود”.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *