فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

نصوص

عقربٌ لا يحبُّ التَّحليل

غادة الأغزاوي

“لم أتوقَّف أبداً عنْ حُبِّكِ، ولو لثانيةٍ واحدةٍ!
-أنا، بلى، لثانية واحِدةٍ.. ”
يَصلُ هذا إلى أذنيَّ، وأنا أغَيِّرُ صورةَ البروفايل على الفيسبوك. لمْ أرفعْ رأسي للنّظرِ إلى شاشةِ التّلفزيون. لمْ أشعُر بفضولٍ لمعرفةِ ملامِحهِما مَعاً: الرّجلُُ والمَرأة. كانا معاً صَوتاً واحداً، صَوتاً يكفي لثانية واحِدةٍ. ثمَّ اختفى الصوتُ.

دعنا نجرِّبُ شكلاً آخر لهذا الحبِّ. أقولُ للعقربِ (ب).
-كيف؟
دعنا لا نقولُ شيئاً.
لِنُفكّرْ، لثانيةٍ واحدةٍ، أنَّ أحدَنا قدْ مات. ماتَ وأخذَ معهُ صوتَهُ. الصَّدمةُُ التي ترافقُ مثلَ هذا الظنِّ مُهولة. تزرعُ في قلبِ صاحبِها صمتاً شفّافاً. الإنسانُ، في أغلبِ الأحيانِ، كائنٌ يستَسلمُ بخُنوعٍ للصَّمتِ. سيحدثُ كلُّ هذا. حتّى وإنْ لمْ نُجرِّب، الآنَ، شكلاً آخرَ لهذا الحُبِّ. سيحدثُ كلُّ هذا.

دعنا لا نحوِّلُ هذا الحبَّ إلى ذرّةٍ مُتعبَةٍ. أقولُ للعَقربِ (ب)
-كيف؟
دعنا لا ندخلُ في تحليل الأمورِ. لا يجبُ أن يصيرَ هذا الحبُّ شيئاً لزجاً يزحفُ داخلَ عقولنا ويمتصُّ منّا طاقةً رهيبةً في التفكير. لنُبقهِ بعيداً عنِ الفلسفةِ وعنِ الأدبِ. لنُبقهِ متشرِّّداً، مغامراً، منفجراً وعبقريّا. لا تحلِّل، أرجوكَ لا تحلّل. إنّنا سنموتُ معاً. سأموتُ داخلَ رأسكَ وستموتُ أنتَ كذلك داخلَ رأسي، وقتَها لن يكون الأمرُ بسيطاً، سنصيرُ معاً صامتين. صامتينِ ومزدحِمينِ بتحليلِ الأشياءِ التي حدثتْ والتي كادَتْ أنْ تحدثْ. دعنا إذن من هذا! لِنَجعلْ منْ هذا الحبِّ، الآنَ، كتلةً ساذجةً من الأفكارِ تحاولُ أن تعيشَ معنا مطمئنّةً.

(عندما يموتُ العقربُ (أ)، العقربُ (ب) لا يطلبُ منَ الله أنْ يعيدَ شريكهُ. لأنّ العقرَبَ (ب) ليسَ مُغَفّلا، هوَ يعرفُ بأنّ اللهَ لا يعيدُ شيئاً. العقربُ (ب) يُدركُ بأنَّ ذلكَ قدْ حدثَ فعلاً ثمَّ يفقِدُ صوتَهُ إلى الأبَدِ).

منذُ أنْ اختفى العقرَبُ(ب)، قرّرتُُ ألّا أسمحَ للتّفكيرِ بأنْ يُتعبَني. الأمرُ ليسَ سهلاً بالتأكيد. الإختفاء شكلٌ آخر للحبِّ، يحتاجُ إلى صدمةٍ أقوى لتجاوُزهِ. مثلَ تلكَ الصدمات الكهربائية التي يتلقّاها القلبُ ليستعيدَ ضرباتِه، الإختفاءُ يحتاجُ إلى صَدمةٍ تهزُّ العقلَ، تفرغُ شِقَّيه منَ الذّكرى، وتَضعَ مكانَها ضباباً كثيفاً. أسودَ. بارداً. الموتُ..

جلَسَ العقربُ (أ) فوقَ الأريكة. وضعَ الحاسوبَ فوقَ رُكبَتَيه.

قلتُ لقْد ماتَ العقرَبُ(ب).

منذُ ذلكَ الوقتِ أصمتُ. لا أحدَ يعرفُ بأنّني عقرَبٌ يصمتُ لثانيَةٍ واحِدَةٍ. عقربٌ سيُغيِّرُُ صورَتَهُ على الفيسبوك بعدَ لحظاتٍ.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *