فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

رواية “أجنحة في سماء بعيدة” لجمال حيدر.. ألوان في سماء قاتمة

فيحاء السامرائي

 

صدر مؤخراً عن دار لندن للطباعة والنشر في بريطانيا، رواية للكاتب العراقي جمال حيدر بعنوان: “أجنحة فوق سماء بعيدة” التي يمكن اعتبارهما أول منجز أدبي يتناول الانتفاضة الشعبية التي شهدها العراق في آذار عام 1991. وقد احتفت الدار بصدور الرواية بحفل توقيع٬ إلى جانب اصدارات أخرى.
يستوحي المؤلف مادتها من معاناة شرائح واسعة من العراقيين إبان تلك الفترة، ويختار مقبرة (وادي السلام) كمكان يرمز الى الموت، حيث يستضيف الموتى فيه عدداً من الأحياء يتأملون فكرة الموت وطقوسه، والصراع بين الخير والشر.

 

تقنية السرد
يكون الراوي العليم هو السارد المهيمن، الذي يمارس فعل الروي لوحده في العمل الذي يسوده ضمير الغائب عموماً. أما الفصول فهي قصيرة مع حوارات مكثفة ومختصرة.
يبرع الروائي في توظيف البيئة بشكل متقن، جاعلاً المكان هو البطل الأساس في الرواية، ليوازي الزمان في سطوعه ويوائم الحدث السردي. يستخدم الروائي صيغة الأفعال المضارعة مع الماضية ويتنقّل فيما بينهما في الفقرة نفسها بنجاح ونسق لا يربك السرد، ولأجل التعريف بشخصيات الرواية، يلجأ الكاتب الى تقنية الزمن الاسترجاعي الاستذكاري، لتبرز في كل مرّة شخصية بحشد من الصور والتفاصيل الماضية.

 

البناء اللغوي
تكتظ الرواية بمفردات قاتمة مثل: (مقبرة ، موت، جثامين، أكفان، شواهد قبور، مغسيل، توابيت، نواح) بصورة تتواشج فيها مع بيئة النص الموضوعية وجسامة الحدث، بيد أن المؤلف، أضفى عليها طراوة معادِلة لسوادها، باختياره مفردات تزويقية ملوّنة أقرب الى الشعر، وطريقة بناء جمل، اعتمدت على تكرار المفردة بتوليفة شعرية، كإشتغال فني في اشتعال حدث، كما:( الشتاء طويل.. طويل لغاية الملل/ رغم الخواء الذي يلفّهم.. خواء يتسع/ شعرَ بالوحدة.. وحدة قاتلة/ ثمة حزن خيّم عليه.. حزن يدهم/ يقبض الثمن.. ثمن صولاته/ يرى الشبح.. الشبح إياه).
أولى المؤلف كذلك عناية جمّة لمكونات الفضاء السردي، اتضح ذلك في استجلاء محسنات بلاغية بمخيلة وتجليات شعرية، تساوقت مع جسد العمل الادبي وقامت بوظيفة جمالية، فجاءت الاستعارات والمجاز والوصف كتعزيز للغنائية الشعرية في نسيج الرواية، مما أتاح التمرير الناعم للأفكار ولإلتحام النسق البلاغي مع السرد: (يلعب قرص الشمس مع سعفات النخيل / المنائر الذهبية تتوضأ فجراً للصلاة / يطارد ضوء الفجر العتمة / الحزن.. كطائر سقط من عشه / أزمنة نسيت الربيع على الشرفات / شواهد بيضاء كطيور بأجنحة كبيرة / من يطرق على الريح).

 

الشخصيات
تجمع بين الشخصيات، كشرائح من الشعب، وشائج عديدة ويصْلَون ببوتقة القلق والخوف. في الفصلين الأول والثاني ظهروا مترقبين غير فعّالين باسم (الرجال) ثم نعرفهم على التوالي: سيد اسماعيل، رجل بصبغة دينية، عبود عامل، جميل معلّم مثقف يساري ومطارد سياسي، جعفر سائق متهم بتسهيل عمليات المعارضة، ستار جندي هارب من ثأر، ظهر في الفصل 7 وقُتل في الفصل 10، وعرفنا محمود في أول صفحة كوسيط دعارة، يضرب ويتنمر ثم يظهر في الفصل 20 كوسيط لثوار الانتفاضة، يتوارى في المقبرة ويبدو بشخصية جديدة استمدها من العذاب، كـ (آصرة بين حاملي الأسلحة والمدينة) ليعبّر عن سطوة القمع التي بامكانها أن تحّول الانسان السيئ الى عكسه، بمجرد مشاهدته لما يجري من قمع.
تأخذ المرأة حيزاً في الرواية بنموذجين، مديحة، بائعة الهوى، تأتي إلى النجف ثم إلى المقبرة لـ ( تعوض خسارة ستار) حبيبها.. أما أميرة، تتحدى مجتمعها وتتزوج حبيبها الريفي عبود، ويبقى مصيرها مجهولاً بعد ذهابها للبحث عنه.

 

التقريرية
بدا وصف الانتفاضة والثوار، بشكل تقريري نظراً لجسامة الحدث ورغبة في تسليط الضوء المباشر عليه، وكان تعاطفْ الراوي مع الثورة والثوّار مبرراً بسبب عدالة وشرعية حقوق المنتفضين ضد عسف السلطة وقسوة الجلادين.

 

الخاتمة
تغادر الشخصيات المقبرة – البلاد، إذ ربما يكون العراق رمزاً لتلك المقبرة، ويغدو رحيل ناسه مصيراً محتّماً، مما حدا بالروائي تالياً للتوصل الى خاتمة مفتوحة لخّصها بكلمة (سنعود) التي تمتم بها (جميل) مبتسماً، وقد توحي بأمرين: أولهما أن الغد يبعث على الأمل والتفاؤل ويبشّر بحتمية التغيير والعودة، وثانيهما، ينبئ بسخرية مُرّة، حين ذهب ملمّحاً بأنْ لا جدوى من انتفاضة بعد نكوصها، ولا أمل في تغيير طالما بقي النظام وهجرة الناس، ولكن ربما يقصد الكاتب “بالعودة” بأنه عائد للقرّاء بجزء آخر من الرواية، لمتابعة حياة المحّلقين من المقبرة بأجنحتهم الى سماوات بعيدة.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *