فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

قصة وسرد

النزوح إلى نفس المكان

رستم عبد الله/ اليمن

 

ألف النوم طوال النهار يقضيه متقلباً في فراشه الطيني الخشن بغرفته القاحلة العطنة ذات الجدران الباهتة أو بالأحرى سردابه المعتم الطويل الذي اتخذ منه مأوى يأوي إليه ليقيه من لسعات البرد القارص في ليالي الشتاء الباردة الطويلة ومن حرارة الشمس اللاهبة في النهار الذي عافه ولم يعد يعرفه قط منذ أعوام عديدة مضت.
منذ أن هجرته زوجته وصغاره الأربعة ,قرر أن يتخذ من سردابه خلوة يبث لها أوجاعه وأحزانه ويلقي إليها بجسده الشاحب الضئيل المنهك ويريح بها أقدامه التي كلت من السير الطويل بازقة وشوارع المدينة التي مزقتها آلة الحرب ودمرت بنيانها وهجرها سكانها وتبقت بها بضعة أسر.
كان يستجدي في براميل القمامة و أكياس الزبالة فتات طعامهم الرديء الذي قل ولم يعد كمثل دسم الأيام الخوالي بسبب وضع الحرب وما آل إليه وضع الناس من العوز والفقر والكفاف حيث عطلت الحرب مظاهر الحياة العامة و انعدمت فرص العمل وشحت الموارد ولم يعد بمقدور الناس الحصول على قوت يومهم إلا بمشقة وصعوبة وانعكس الوضع عليه وعلى المئات من أبناء جلدته الذين وجدو منذ الأزل ووجدوا أنفسهم عبر أزمنة غابرة يتسولون طعامهم أو يحصلون عليه بهذه المشقة والذل.
ورغم هذا الوضع المرير المؤلم وعذاب البحث الدءوب عن لقمة عيش قد تجدها أو لا تجدها في نفايات الآخرين ظل الناس يأخذون عنهم نظرة قاصرة أنهم أهل جحود لايقدرون ثمن هذه النعمة التي هم فيها ولايشكرون من يلقيها إليهم ترفاً بعد شبع لا إحساناً ولا إحساسا بهم.
وككل ليلة ذات ليلة صيفية حارة من ليالي الحرب المفزعة وقد لبس الليل قناعه الأسود المخيف ,خرج من مأواه الكئيب مرتجفاً يتلمس الظلام يبحث بعينين متوهجتين عن قوته وسط أصوات القذائف المدوية التي أخذت تمطر المدينة المستكينة الهادئة وراحت تدمر كل جميل في المدينة وتحصد أرواح من تجدهم في طريقها ومن يتحصنون تحت أسقف المنازل لم يعد بمقدور أي شخص الاحتماء من قوتها التدميرية الهائلة التي صارت أكثر عنفا وقوة من قبل وصارت تخترق العمارات المرتفعة وتحولها إلى كومة ركام وتتساقط على الملاجئ والأماكن المنخفضة وتنسفها هي الأخرى وتحرق من لا تقدر على تدميره وتقضي على كل ما ينبض بالحياة. جعله الجوع يخاطر. أخذ يغذ السير في الأماكن التي يتوقع أن يجد فيها طعامه لم تعد الحارة اليوم كالأمس لاشيء يوحي بالحياة لم يبق سوى ركام المنازل وآثار دمار ومعركة شرسة جرت وهو يغط في نومه العميق الذي كلفه الكثير, نزح الجميع عن الحارة أغنيائها وفقرائها حتى الحيوانات المستأنسة والمتشردة هي الأخرى نزحت. ظل يتنقل من مكان إلى آخر ومن حارة إلى أخرى.. وجد طعاما سد به رمقه وأسكت جوع يومه، اكتشف تجويف يأوي إليه في أنقاض منزل مدمر.
مرت بضعة أيام يحصل فيها على طعامه بمشقة من بقايا طعام الجند الذين يمشطون المكان ليل نهار ولم يلحظوا وجوده. لحظ أحدهم بعد أيام عيناه اللتان تنبثقان من بين الظلام الدامس. سلط عليه مصباحه اليدوي استغرب وجوده. نادى لرفقته الذين ألقوا عليه نظرة.. لا ومضوا ولم يعيروه اهتماما. تمر الأيام ثقالا وتزداد سوءًا، لا رفيق ولا أنيس له سوى زمجرات القذائف ولعلعت الرصاص. سئم الوحدة، الوحشة والضيق يكادان يفتكان به. صدره نافورة حزن على ما حل بالمدينة ولا يدري كنهه، الشوق والحنين يمزقانه لرحيل ناسها بكل تناقضاتهم وتكبرهم الذي صار يحن إليه، ويرى فيه ذكريات عيش رغيد، وزمن خير، يتنقل به شريط الذكريات إلى زوجته وأسرته وأيام الشباب ويوم مولد صغاره الأربعة الذين ولدوا بنفس الليلة يتذكر فرحته وفرحة زوجته العارمة ومداعبة صغاره وحنو الناس الغير معهود عليهم واغداقهم على زوجته باللحم الوفير وأواني الحليب لأطفاله. ينفجر بركان أسى وحسرة من صدره ويموء مواء حزينا يشق عنان السماء ويقرر النزوح ولكن آلة الحرب والقذائف المتساقطة كالمطر تعصف بقراره المتأخر جدا وتسد عليه كل فرص النزوح الذي فات آوانه وتحاصر آماله الفانية وتجبره على النزوح إلى مكانه الأول وسردابه الطيني المظلم.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *