مصطفى ملح
تمرين ضدّ الكراهية:
أُسامِحُ النَّجّارَ؛
ذَلِكَ الذي سَيَصْنَعُ التّابوتَ خاصَّتي،
ويُلْقي زَهْرَتي داخِلَهُ!
أُسامِحُ اليَدَ التي لَمْ تُبْقِني في رَحِمِ البَرْزَخِ إلاّ تِسْعَةً،
وأَدْخَلَتْني عُنْوَةً مِنْ ثُقْبِ إِبْرَةٍ نُسَمّيها الحَياةْ!
أُسامِحُ البِنْتَ التي صارَتْ يَمامَةً،
ولَمْ تَتْرُكْ بَريداً في حَقيبَتي،
وعُنْواناً بِدَفْتَرِ الرِّياحْ!
أُسامِحُ الرَّصاصَةَ التي مَشَتْ في بَدَني،
وحينَ غادَرَتْ، قُبَيْلَ مَصْرَعي، لَمْ تَعْتَذِرْ!
تمرين ضدّ العقل:
لا نَعْرِفُ الوِجْهَةَ.. تِلْكَ رَوْعَةُ المسارِ،
نَمْشي قُدُماً في ظُلْمَةِ الأَدْغالِ،
غَيْرَ عابِئينَ بِالخُطى التي تَغوصُ في فَمِ الضَّبابِ،
لا نَبْحَثُ عَنْ حَقيقَةٍ مَنْسِيَّةٍ في عُلَبِ الوَعْيِ،
يَقينُنا هُوَ التَّوَتُّرُ الأَقْصى،
فَلَيْسَ غَيْرُهُ مَنْ يَتَجَلّى عارِياً مِثْلَ المَطَرْ!
لا يَنْبَغي أَنْ نَعْرِفَ الوِجْهَةَ،
أَنْ نَعْرِفَ يَعْني أَنَّنا نَغْتالُ عُشْبَ الغَدِ،
لا بُدَّ مِنِ اسْتِقالَةِ الحاسَّةِ،
كَيْ نُشاهِدَ الغابَةَ خارِجَ الخَريطَةْ!
لا بُدَّ مِنْ حَرْبٍ،
كَثيرٌ مِنْ بِغالٍ يَجِبُ اغْتِيالُها!
تمرين ضدّ الطّلقة
اِمْرَأَةٌ في مِخْدَعِ الهاتِفِ،
تُخْبِرُ العَصافيرَ بِعَوْدَةِ الرَّبيعِ،
شَعْرُها جَزيرَةٌ،
بَياضُها اصْطِدامُ شَمْسٍ بِفَمِ المُحيطِ..
مَنْ تَكونُ؟ أَيْنَ عُشُّها؟
رَأَيْتُ قَنّاصاً، وَجِلْتُ، رُبَّما الطَّلْقَةُ تُخْطِئُ الوُحوشَ في البَراري فَتُصيبُ مِخْدَعَ الهاتِفِ، يَدْنو، أَتَفاداهُ، أَصابِعُ اليَدَيْنِ تَلْمَسُ الزِّنادَ، تَمْشي النّارُ نَحْوَ الهَدَفِ القَريبِ، تَهْوي لَوْحَةُ الزُّجاجِ، يُحْبَسُ البَياضُ في فِخاخِهِ، ويَكْبُرُ الصَّدى..
عِنْدَ الْتِفاتي لَمْ أَرَ المَرْأَةَ،
كانَ مِخْدَعُ الهاتِفِ مَغْموراً بِخُضْرَةِ الرَّبيعِ،
والعَصافيرِ الصَّديقَةِ التي تَلَقَّتِ الرِّسالَةْ..
تمرين ضدّ الجسد
أَسيرُ ولَيْسَ لي جَسَدٌ،
مُجَرَّدُ فِكْرَةٍ تَتَعَلَّمُ المَشْيَ البَطيءَ بِشارِعِ المَعْنى..
أَعَرْتُ يَدي لِفَرْخٍ خائِفٍ،
لِيَصُدَّ أَسْرابَ النُّسورِ بِها..
أَعَرْتُ فَمي لِنَهْرٍ،
كَيْ يُحاوِرَ ضِفَّتَيْهِ بِهِ..
أَعَرْتُ لِكَرْمَةٍ قَدَمي،
لِتَمْشِيَ – كُلَّما ظَمِئَتْ – إلى بِئْرٍ مُجاوِرَةٍ..
أَعَرْتُ لأُمَّتي جَسَدي لأُصْبِحَ فِكْرَةً،
فَيَخِفُّ وَزْني خارِجَ الأَقْفاصْ..
تمرين ضدّ العطش:
لَسْتُ أَحْتاجُ فَماً آخَرَ،
كَيْ أَشْرَبَ كَأْسَ العَطَشِ النّابِتِ في روحي.
سَأَحْتاجُ سَماءً خاصَّتي،
أَحْجِزُها في غُرْفَتي سَبْعَ لَيالٍ،
كَيْ تُنَقّي عَطَشي زُرْقَتُها،
ساعَتَئِذٍ لَنْ يَظْمَأَ العالَمُ قَطُّ!
لَسْتُ أَحْتاجُ سِوى ثانِيَةٍ أُخْرى،
لِكَيْ يَلْمَسَني اللهُ بِضَوْءٍ سَرْمَدِيٍّ،
حينَها أُولَدُ في عُشٍّ جَديدْ!
تمرين ضدّ الحياة:
البَلَشونُ في اتِّجاهِ الدُّودِ،
والطَّلْقَةُ تَسْعى في اتِّجاهِ البَلَشونِ،
والحَماسُ في اتِّجاهِ أُصْبُعٍ على الزِّنادِ:
مَنْ تُرى الأَسْبَقُ؛
جوعُ طَلْقَةٍ أَمْ جوعُ مِنْقارٍ؟
وفي مُنْتَصَفِ التَّمْرينِ غَيَّرَ الهَواءُ وِجْهَةَ الرَّصاصِ،
ثُمَّ انْحَرَفَ المِنْقارُ عَنْ مَسارِهِ العادي،
وسارَ البَلَشونُ في اتِّجاهِ دُودَةٍ أُخْرى،
وعادَ بَعْدَها القَنّاصُ في اتِّجاهِ كوخِهِ،
ولَكِنَّ الرَّصاصَةَ التي أَخْطَأَتِ المَرْمى،
أَصابَتْني.. أَنا!
تمرين ضدّ المجاز:
العُشْبَةُ في المَرْعى،
والأَفْعى في الوادي،
والسّاحِرَةُ المَهْزومَةُ في قِصَصِ الأَطْفالِ،
وأَحْزانُ اللَّيْمونَةِ في شَفَةِ العَطْشانِ،
وآياتُ القُرْآنِ على الأَلْواحِ،
وعائِلَتي تَنْحَلُّ كَحَبّاتِ الرُّمّانَةِ في مَلَكوتِ اللَّهِ،
ويَوْمُ السَّبْتِ يُخَبِّئُهُ جاري في الضَّيْعَةِ،
والقَنّاصُ يُصيبُ أَبي،
وأنا أَتَمَرَّنُ يَوْمِيّاً،
لأَكونَ العُشْبَةَ في المَرْعى،
لا الأَفْعى في الوادي!
تمرين ضدّ التّشابه:
تَحْتَ العِمارَةِ خَيْمَتانِ،
يَقومُ بَيْنَهُما مَمَرٌّ ضَيِّقٌ،
في الخَيْمَةِ الأُولى عَزاءُ مُعَلِّمٍ مُتَقاعِدٍ،
والخَيْمَةُ الأُخْرى يُقامُ بِها زِفافُ صَبِيَّةٍ،
ويَمُرُّ وَقْتٌ والمَمَرُّ يَضيقُ أَكْثَرَ،
والكَمَنْجَةُ في اليَمينِ،
وفي الشِّمالِ مَناحَةٌ،
حتّى إِذا هَدَمَ الرِّجالُ الخَيْمَتَيْنِ تَفَرَّقَ الغُرَباءُ،
واصْطَحَبَ العَريسُ رُخامَةً خَجْلى،
وداخِلَ غُرْفَةِ المَرْحومِ،
هَبَّ الوارِثونَ مَعاً.. لِتَوْزيعِ الجَسَدْ!
تمرين ضدّ الدّوران:
تُرى ما الذي يَجْعَلُ العَجَلاتِ تَدورُ؟
جُنونُ المُحَرِّكِ،
أَمْ مَلْمَسُ الطُّرُقاتِ المُحِبَّةِ،
أَمْ دَعَواتُ المُسافِرِ..؟
لَكِنَّني في الصَّباحِ اسْتَفَقْتُ بلا كَسَلٍ،
فَرَأَيْتُ المَسافَةَ ثابِتَةً،
والمَحَطّاتِ نائِمَةً في السَّديمِ،
ولَمْ تَدُرِ العَجَلاتُ التَّعيسَةُ قَطُّ،
ولَكِنْ.. أَنا مَنْ يَدورْ!
تمرين ضدّ الشّعر:
العالَمُ العَجوزُ صارَ غابَةً فَصِرْتُ حَطّاباً،
ولَمْ أَخُنْ غَزالاً قَطُّ،
غَيْرَ أَنَّني أَجْمَعُ أَعْشاباً مِنَ الرُّكامِ،
دونَ أَنْ أُعيقَ في مَساري عَطَشَ الغَزالِ،
بَلْ أُقَدِّمُ النَّهْرَ لَهُ،
وأَحْمِلُ الأَعْشابَ خاصَّتي لإِطْعامِ الهَواءْ!
***
ما عُدْتُ شاعِراً،
أَنا الحَطّابُ،
كُلُّ عُشْبَةٍ قَصيدَةٌ،
ما حاجَتي إِذَنْ لِتَحْنيطِ الكَلامِ في وَرَقْ؟!
تمرين ضدّ الفيزياء:
الأُفْعُوانِيَةُ التي بِالسِّرْكِ في حَيّي: أَيَرْفَعُها ويَطْويها تَماسُّ الكَهْرَباءِ، أَمِ المَخاوِفُ في عُيونِ الرّاكِبينَ؟ أَمِ المُكَلَّفُ بِالمُحَرِّكِ واضِعاً يَدَهُ على زِرِّ التَّحَكُّمِ، أَمْ غُرورُ الجاذِبِيَّةِ، أَمْ مُصافَحَةُ الرِّياحِ لِشَهْوَةٍ بَيْنَ المَقاعِدِ، أَمْ أَنا؟!
***
في النَّصِّ أَيْضاً أُفْعُوانِيَةٌ، سَأَرْكَبُها، أَدورُ، أَدوخُ، أَفْتَعِلُ الشِّجارَ مع الهَواءِ، أُغَيِّرُ المَمْشى الذي وَثِقَتْ خُطايَ بِهِ، وأَقْتَرِحُ انْقِلاباً جارِفاً ضِدَّ الغُبارْ..
***
الأُفْعُوانِيَةُ التي في النَّصِّ ما عادَتْ تُدَوِّخُني،
تَعَوَّدَتِ الحَواسُّ على مُصادَقَةِ الرِّياحْ..
______________
*من ديوان “لا أوبخ أحدًا” الصادر قبل أيام ضمن “منشورات مقاربات”