فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

قصة وسرد

خداع الظل

سالم بن سليم

 

لأن النوم يجب ما قبله – بالنسبة لها- فقد استيقظت تقريبا من دون ذاكرة. لكن هذه الحالة لا تطول. شيئا فشيئا تعود الذكريات بحذر كغزلان جفلت من غدير ماء في أفريقيا ثم أخذت تقترب منه بمهل شديد. فحين فتحت شقي عينيها الصغيرتين, كان أول شيء تراه هو أغصان شجرة كبيرة ومتداخلة ترتفع قرابة ثلاثة أمتار فوقها, وهي تستلقي في مكان نومها. كانت الشمس قد بدأت تتخلل الأوراق والأغصان مشكلة أعمدة من الغبار والضوء تنسكب نحو الأسفل.

بالطبع هذا ليس سقف غرفتها الذي اعتادت أن تستيقظ تحته في سنواتها الثمان السابقة. ففي ذلك السقف كانت  توجد رسومات جميلة نقشتها أمها بيدها, فقد كانت تحب الطلاء. وتوجد أشكال زخرفية من الجص, ومروحة جميلة بشفرات تشبه أجنحة الفراشات, ولم يكن هناك أشعة تسقط على الأرض ولكن كان هناك ضوء ذهبي خافت ودافئ.

لقد فكرت إن هذا قد يكون يوما جميلا, وعلى هذا فإنها ستطلب أيضا فطورا مختلفا لهذا اليوم. وقالت في نفسها: لن آكل الخضروات ولا الخبز ولا أي شيء تعده أمي. سآخذ فسحتي وأبادلها مع أي من صديقاتي في المدرسة, أريد شوكلاته.. شوكلاته نعم.. ولكن! من سيعطيني شوكلاته مقابل الخبز؟ .. لا أحد. وأمي تمنعها علينا. ولكن لا يهم سأفعل المستحيل لأحصل عليها. تقول أمي إن علي أن أصبح دكتورة.. دكتورة أسنان. وبما أنني سأصبح كذلك فعلي أن أكون قدوة من الآن, يجب أن تكون أسناني نظيفة وقوية, والشوكلاته تضر بهم وتخربهم. ولكن لا يهم, هي مرة واحدة سأشبع رغبتي فيها بالشوكلاته. أختي لا تريد أن تكون طبيبة. إنها تريد أن تكون محامية, الغبية تتمرن على تطبيق القانون علينا, في المنزل كل شيء يجب أن يخضع للنظام تقول لنا. أتمنى لو أنني أتمتع بحصانة أخي الصغير ضد قوانينها الغبية. أخي يحبه أبي وأمي أيضا, لأنه الأصغر ولأنه أيضا خلق مريضا, فهو لا يستطيع الحركة ولكنه يحبو على ركبتيه. أمي تريد له أن يكون مهندسا. مهندسا معماريا. هي لا تحب الطلاء فقط ولكنها تحب أي شيء له علاقة بالبناء. سيصبح مهندسا صغيري أليس كذلك وتفرك رأسه. وتحضر كتبا على أغلفتها أشخص مقعدون على كراسي متحركة لكنهم ملهمون استطاعوا فعل الكثير برغم إعاقتهم الحركية. إنها تضع الصور أمامه بقصد في أغلب الأماكن في المنزل, صورهم وهم على منصات التكريم, وهم يلعبون ألعابهم الرياضية بمرح, وهم مع عائلاتهم وعلى وجوههم ضحكات عريضة.

على أغصان الشجرة الكبيرة يمرح طائر مع وليفته قطعا خيالاتها. ثم دوّى شيء مفزع بالقرب, وطار العصفورين, وحينما نهضت وجدت أمها تجلس بالقرب منها, وأختها ممدة بجانبها, والأخ المعاق يتعثر هاربا نحو أمه. تحت الشمس الكاملة تجلس الأم, وتحت الظل الذي تتخلله الأشعة تستلقي هي وأختها وبعض الأغراض الرثة. وهذه المساحة تخصهم منذ عدة ليال من ليالي الحرب والنزوح. أبوهم قتل قبل أسبوع ومنزلهم تناثر على وجه الشارع, وهي الآن بكامل ذاكرتها.

ولأن دماغها الصغير لم يستطع أن يجد لها سببا مقنعا لكل هذا فقد دست رأسها الصغير في حضن الجدار ونامت.

——————–
*كاتب وروائي يمني

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *