فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

نصوص

مِن الآن يا صاحبي يبدأ الحزن

عبدالعزيز المقالح

 

بُكائيّةٌ إلى روح صديقي الشاعر المناضل أحمد قاسم دماج

-1-
من الآن يا صاحبي يبدأ الحزن
بعد انتهاء طقوس العزاء
فللروح أن تتفجّع
للقلب أن يتوجّع
للأصدقاء الذين أحبوك أن
يخلعوا صبرهم وتجلدهم
غير مكترثين
ويستحضروا بعض أحلامك الخالدات
التي هي أحلام جيل المعاناة
في وطن ناهضٍ
ليس فيه جياعٌ ولا خائفون
له مدنٌ تتلألأ شفّافة
كالقصائد مغسولة كالسماء.

-2-
صاحبي صامتٌ لا يرد ندائي
كنت أحسبُ أني أقربُ منهُ إليه
وأنَّ صداقتنا وُجدتْ  للبقاء
فما بالُه صاحبي لا يرد ندائيَ؟
قيل لي روحهُ غادرتهُ إلى عالمٍ آخرٍ
آه حزني عليه وحزني عليّ
وحزني من العزلةِ القاسيةْ.

-3-
لست أرثيهِ أبكي مناقبه
فهو أكبر من كلمات العزاء
وما في القواميس من مفردات البكاء.
خِلته لن يموت
ولن يهجرَ الأرض حتى تعود الحقوق إلى أهلها
وتعود السماء لتمطر أشجارنا بمياه العدالة
آه عليه فقد كان أكثرنا حكمة
واحتمالاً
إذا عبس الخطب
بل كان أكبرَنا في اجتراح الرؤى النافذة.

-4-
آه يا صاحبي كيف سافرتَ وحدك منفرداً
لم يكن ذاك دأبُك
كان الرفاقُ حواليك أنىّ حللتَ
وحيث ارتحلتَ
فكيف ذهبتَ وحيداً وغافلتنا  ومضيتَ بلا مؤنسٍ أو رفيقْ؟

-5-
صاحبي ليس ينسى
وهيهات ينسى الرهينةَ ينسى عساكر “نيرون” حين
أغاروا على “النجد”
وانتزعوا الطفلَ من بين أحضان قريتهِ من لذيذ طفولته
ِ أودعوه لسجن الرهاين بين رفاقٍ لهُ
يحلمون بعشب القرى
ويحنون للأمهات
لَكَم حفر السجنُ في روحهِ صوراً وندوباً سيجعل منه عدواً لدوداً  لكل الطغاةِ
الألداء والظالمين.

-6-
افتقدتكُ يا صاحبي
وافتقدتُ عصاكَ التي كنتَ -في السنوات الأخيرة-
تحملها بأصابعك الناحلات
تهش بها غنم اليأس حيناً،
وحيناً تخط بها في الهواء قصائدك المقبلات
وترفعها في وجوه الذين يبيعون للظالمين  جواهر ما ادّخرته اللغات
من الكلمات
وما اكتسبته القصائد
من زخم العفةِ الخالدةْ.

-7-
آه،  لو قلتَ لي قبل يومٍ
بأنك تنوي الرحيل
إلى عالمٍ لا خصامَ بهِ
كنتُ يا صاحبي قلتُ لكْ.
توقف قليلاً وخذني معكْ
فأنا واحدٌ من ملايين هذي
البلاد الذين يريدون أن يرحلوا…
قبل أن يتهاوى الفلكْ.
لا أريد وقد وصل النصل للعظم
أن أشهدَ اللحظات الأخيرة من عمر الأرضِ
والبحر ساعةَ ينتظران الهلاك مع من هلكْ.

-8-
كنتُ أخشى عليه من الحزن
ما كنت أخشى عليه من الموت،
كم كان يعصره الحزن وهو يرى بعض أفلاذ أكبادنا  من شباب البلاد،
الشباب الطري
ِّ الشباب البريء
  الشباب الذي لا يفرِّق بين
اختلال الكلام وبين اختلال المواقف
بين النهيقِ وبين الهديل؟

-9-
صاحبي:
ما الذي اخترتَ من كتبٍ لترافقَ مسراك في الرحلةِ الأبديةِ،
أعرف أنك يا صاحبي لا تطيق الحياةَ بلا قلمٍ أو كتابٍ
وأنك تهوى القصائدَ والفلسفات،
وتهوى الروايات
ماذا تخيرتَ من كتبٍ للرحيل الطويلْ.

-10-
لم تكن لك سيارةٌ
كنت تمشي على قدميك
ورأسُك مرفوعةٌ
تقرأ الغدَ في أعين الكائنات
وفي أوجهِ البشر الظامئين إلى زمنٍ مورقٍ،
زمنٍ ليس فيه طغاةٌ ولا خائنون
ولا حاكمون  يلوذون باسم القبيلةِ والطائفة.

-11-
آه يا صاحبي
العصافيرُ في حارة البسطاء التي كنتَ تسكنها
لم تعد منذ أغمضتَ عينيك تلهو،
تغنِّي وتعزف أشجانَها تحت ظل الشبابيك
  هل أخرس الحزنُ منطقها،
انكفأتْ،
واحتواها سديمٌ يحاصر أشجارها
ويطوّقها بدخان كثيف  من الاكتئاب؟

-12-
سلامٌ عليكَ أهنيك يا صاحبي
اخترت موتَك في لحظةٍ غابتِ الشمسُ فيها عن الأرض
واصطدمت في السماء الكواكبُ
ما عادت الناس تدري أعائشةٌ هي حقاً على أرضها؟
أم رمتها حروب الطوائف
في قاع هاويةٍ كالجحيم؟

_________________
* صورة قديمة نادرة لأحمد قاسم دماج يتوسط الشاعر د. عبدالعزيز المقالح والمشير/ عبدالله السلال أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية بعد ثورة 1962، ويأتي هذا النص للمقالح في ذكرى مرور عام على وفاة الأديب والشاعر اليمني أحمد قاسم دماج.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *