صلاح الأصبحي*
أحياناً يأخذك الشعر أكثر من أخذ الشاعر له , كأنه في لحظة ما يختار فرداً ما, يصطفيه لنفسه , ينسجه ويصبغه بصبغته حد الوله, لا يفارقه ولو لبرهة, ذاك هو حال عادل نور والشعر.
عادل شاعر بدأ يكتب الشعر ولم يكن له بداية وإنما كان منطلقاً مما بعد البداية , يتصل الشعر به أكثر من اتصاله به, هو من الجيل الشاب الذي يحث خطاه باقتدار وإبداع بما يملك من وعي فني بكتابة النص الجديد وبما لديه من شواغل فكرية وإنسانية بالوجود وبالواقع, فهو لا يتردد في التوغل فيه, توغل المبصر والرائي ليفكك أنساقه ويبتر شفراته المعيقة لتقدمه والمجحفة بحق الحاضر والمستقبل, الشاعر المسكون بهموم الحداثة المستبصرة لمنطلقات اللحظة التي يلزم تحولها لصالح الفرد لا لمسخه.
ما من شك لديَّ وأنا أكتب عن هذا الشاعر الشاب عادل نور أن أتحمس جداً لموهبته الشعرية التي تتخطى نظيرتها في السياق الشعري لمن هم في سنه وربما الذين يتقدمون عليه سناً ويتأخرون عليه إبداعاً, لكن الشاعر الذي يخطو بعمق وبدون ضجيج أو ضوضاء ويريد أن يعرف به نصه, ولا يعرف به هو كشاعر وهذا الدافع لي أن أخط هذه السطور.
في الغالب ما يحاول الشاعر أن يرسم ملامح وجوده كإنسان وكمبدع من خلال نصه كون النص هو الحامل الأهم لشواغله ولا يمكن لمتفحص ما أن يأخذ النص إلى منطقة نائية بعيدة عن الشاعر ويقوم بالتعايش مع النص وكأنه قطعة فولاذ لا يمت بصلة لصاحبها, ليس هذا بمجدي وإنما النص هو الروح الحقيقة للشاعر يسكنه, يفرغ فيه آماله وأمانيه ويفصح عن شواغله, حيث يقول ابن نور في نص “لا شيء يشبهني سواي:
هذا أنا
وأنا كثير ربما
لكنما
لا شيء يشبهني سواي
من لجة الآتي أطل, وحدي,
كأني في انتظاري من رجوعي
ثم أحشدني إليَّ
وأجيئ مبتهجاً,
أتوجني بديعاً للخراب
هطلت على الصحراء روحي
فاكتنزت مهابتي
وجعلت ابتدئ المشيئة
كي تقاسمني البلادة والعذاب.
في هذا الجزء يفتتح الشاعر بيانه في رسم وجوده في حيز الوجود العام بحذر بالغ دون أن يفلت من قبضة المرمى الذي يعبره ودون أن يكلف نفسه ما يفوق طاقتها, ويؤكد أن بدايته هو من خطها ومشيئته كان هو سببها ريثما يتقن تثبيت وجوده ولا تتقاذفه وشايات السقوط بين الخراب والبلادة والعذاب, كل هذا يمثل انعكاساً للشعور بالتأزم الوجودي الذي يطوقه؛ فيحاول الشاعر أن يشق طريقه مبتعداً عن التقوقع داخله أو لنقل يحاول ابتلاع ذلك الطوق وتفكيكه داخل وجوده هو, يتابع إفصاحه بالقول أيضاً:
هذا أنا ما زلت أحترف الحياة
تجرني نحو البدايات انتهاءاتي
فأقرأني بساطاً
طاعناً وحدي بباب التيه
أمعن في امتدادي
ثم أدخل في احتمال ليس يشبهني
وألتحف الغياب
عصفت بأوردتي الجهات
فليس يذكرني البقاء مدججاً بالحلم
تلك خرائب ثكلى
هنا يدلي بالقول عن بدايته المحترفة في الحياة؛ لأن نهايته تأخذه عنوة فيتمدد في بسط شراعه ويشرع في فتح احتمالات لا تناسبه وقد تدفعه إلى الغياب لأنه لا تناسب بينهما طالما أن ما حوله من جهات وأحلام ثكلى بالخراب , يتمكن الشاعر بفرادة من إتقان لفظه في السطر الشعري بما يحمل ذلك الإفصاح التوهج الشعري الذي تغلب على عتمة الوجود ليستمر في تصديه للسواد القاتم عنده, ثم يكمل مجاراته للحظة بالقول:
وتلك محارتي علقت بخاصرة الزمان
كأن قافلتي سراب
أدنو بحزني والهجيع يلفني, مني ,
فيأخذني الشرود إلى ابتعاثي من صميم الغيب
لا أدري متى أسلمتني للتيه
ثم أتيت وحدي
لا سواي
أمد أشرعتي
وأجتر الخطأ نحوي
وافترش اليباب.
______________
*كاتب وناقد يمني
** الصورة للشاعر الشاب عادل نور