فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

التوغُّل بالشعر إلى مناطق اللامنطق*

أديب صعب

 

قراءة في “ليس الأرض بابٌ.. وسأفتحه” للشاعرة التونسية سونيا الفرجاني

 

شاعرة عربية في بيان عربي ناصع وفي كتابة فريدة متفرّدة، في زمنٍ يكاد عدد الشواعر العربيات يساوي عدد الحاملات القلم في عالمنا العربي. إلّا أنّ سونيا الفرجاني خارج هذا الصنف تماماً. هي شاعرة يبحث القلم عنها ولا تبحث عنه، حتى إذا وجَدَها راحت تذود الكلام عنها ذياداً. شاعرة تملك ناصية اللغة، مع غنى في المفردات والتراكيب ومع خيال يجعل من كل قصيدة مفتاحاً إلى عالم بل عوالم متداخلة.
هي عوالم غريبة كل الغرابة حقّاً. العبارةُ الأُولى في كل قصيدة مفتاحٌ لعالم يبدأ ولا ينتهي. هذه العبارة تسمَّى “المَطْلع” في الشعر الموزون على النسق العمودي، وهي البيت الأول في القصيدة. وهنا بعضٌ من هذه المَطالِع:
– حين انكسرَ قلبي لم يَصدر أيّ صوت.
– كتبتُ القصيدةَ الأخيرةَ ومتُّ.
– مِنَ البابِ دخلَت إليكَ القابلةُ ونساءُ الحيّ.
– ليلٌ أصفر لا يَذكر شيئاً عن فزّاعة النهار وعنكَ.
– ليس لي يدٌ. أصابعي فقدتُها.
– أنا امرأةٌ لا تنام في الليل ولا تفيق.
– عندما كنتُ في الأربعين سقطَتْ ملائكةٌ من السماء.
– يتَّخِذُ شوقي إليكَ شكلَ الهمزة على ألِف أبَد.
– هذا العالَمُ لن ينتهي. هو قَفا القيامة.
– تركْتَني وحدي ألتَهِمُ أشباحَ البيت المهجور.
– هكذا بلا أسبابٍ مقْنِعة سأدخل الجحيم.
– نحفَ الصيفُ هذا العام.
– ماعزٌ أزرقُ يحلِّقُ في السماء مع الأيائل.
الملاحَظ في هذه “المَطالِع” أنها كلها صُوَر. وإذ ينتقل القارئ بعد كل مطلع سطراً سطراً أو، قُلْ، بيتاً بيتاً – حيث الوحدة المعنوية الصغيرة تقوم مقام “البيت” في الشعر الموزون – حتى نهاية القصيدة، فلسَوف يجد أنه ينتقل من صورة إلى صورة. عبثاً يبحث القارئ عن مقطع تقريريّ، سواءٌ أكان كلاماً حِكَمياً أم غير ذلك، فيتأكد من أنّ هذا الشعر تنطبق عليه صفة “الرسم بالكلمات” أكثر من انطباقها على كثيرٍ من الشعر، وتقديري على معظم الكتابة الشعرية.
ولا بدّ من إيراد قصيدة كاملة لنرى كيف تنتقل الكتابة من صورة إلى أُخرى. هنا قصيدة “زوجة الشيطان”:
حين سَرقَت زوجةُ الشيطان وجهي
وحضرَت به حفلة عرس
كنتُ أبحث عنكَ.
أذكرُ كيف مَددتُ يدي للقمر بخفّة
وأخذتُه في كفّي كأنه عينُ هرّة ستَنامُ جائعة.
ربما نقصَ الضوءُ في المساء
وانتبهَت خفافيشُ الأرض لغيابِ الأرض
ولم أنتبِهْ أنّ زوجة الشيطان نَسِيَتْ أن تُعيدَ لي وجهي.
كنتُ أسير بالقمر كمصباحٍ خافِت
أُباعِدُ بين أصابعي أحياناً،
وكثيراً ألفّها كأني أُوزِّعُ الضوءَ خيفةً من ليلٍ
ربما يسرقكَ أيضاً فأبقى بلا وجهي.
عندما وصلتُ إلى باب الجنّة
كانت زوجةُ الشيطانِ تَرقص وتَدور
كان القمرُ قليلَ نَبْضٍ
والسلالمُ التي صعدنا عليها تداعَتْ.
لم أعرِف طريقَ رجوعي
غالبَني حزني الأصفر
فجلستُ كتمثالٍ رومانيٍّ بلا رأس.
كان الشيطانُ يَعبُر
لِيَعود بزوجته من العرس.
رآني.
تراجَعَ باكياً وعَوى.
زوجةُ الشيطان ما زالت تَرقص.
الشيطان يَنقص.
لكنّ ملاكاً صغيراً
يبني سلالمَ العودةِ لاهثاً، وينظر لي مُطَمْئِناً.
إذ نعيد قراءة هذه القصيدة، نجدها مصنوعةً من صُوَر: زوجة الشيطان، سرقة الوجه، حفلة العرس، أخْذ القمر بالكفّ، عين الهرّة، خفافيش الأرض، القمر مصباحاً خافتاً، رقْص زوجة الشيطان، السلالم إلى الجنّة، تمثال روماني بلا رأس، عواء الشيطان… في نقطةٍ واحدةٍ من القصيدة، تضطر الشاعرة إلى التعبير بما يشبه التجريد، أي الفكرة الذهنية، فتقول: “غالَبَني حزني”. لكن سرعان ما تضفي على حزنها لوناً: “غالبَني حزني الأصفر”. ولا تقف وظيفة اللون في هذه القصائد عند تجسيد ما هو تجريديّ، بل نرى الشاعرة تمسك بفرشاتها، هنا وهناك، لتضفي ألواناً على صورها. فهناك، إلى الأصفر، الأزرق والأبيض والأسود والأحمر وغير ذلك. ألوانٌ تبدو حيناً متوهجة تحت النور أو فاقعة، وحيناً ضئيلة، غامضة، مشوَّشة، كما تستدعي الحالة. وربما كان اللون الطاغي هو الأصفر، لون الحزن كما تراه الشاعرة.
نعم، هي مجموعة من صور مختلفة بألوان مختلفة. ولئن تميَّزَ الكثيرُ منها بالعنف، فكلها تتميز بالغرابة. وإذا شبّهنا الصورة بالبحر، فمعظم الصور التي تقدمها لنا هذه القصائد تحاكي أمواجاً عالية بل عاتية أحياناً. في العالم العنيف، الغريب الذي تُدخِلنا إليه هذه القصائد، نمرّ أمام تمثال روماني بلا رأس، ونسمع عواء الشيطان واصطكاك القتلى في بلاد مذعورة. ونرى امرأةً تتعثر بعظامها وتجتثّ فمها وتصرخ حتى تقطِّع أوصال السماء. نراها بلا يد، وقد أخفَت أصابعها في شَعر شيطانٍ رضيع؛ أو نراها فقدَت أصابعها وساقها وربطَت حول عنقها عقداً من رؤوس الأفاعي. وإذ خافت إحدى الأفاعي، وضعَت رأسها بين فخذَي ديكٍ مريض. كما نراها في صراع مع وحوش النهار الذين سلبوا الحياة من ذاكرتها، فتنزف حتى الموت، وتتعثّر بعظامها، وتستمرّ في الموت دون أن تصنع شاهدة لقبرها. وكانت قد وقفت تنادي أمام باب الساحرة المفتوح وشبّاكها الموصَد، لكنْ من غير أن تَخرج قطّة الساحرة العمياء. وبِعَينٍ لا تشبه العين الأُخرى، تقرأُ سطراً من كتاب الغول. وتتقاسم أسماك القرش مع الغول، ثم تعلِن: “سأَملأُ بطن الحوت بِحَشوَةِ غضبي من العالم”.
غريبةٌ هي هذه الصور، كما قلنا. وهي أيضاً متلاحقة وغير مترابطة، كأنها خارجة من خيالٍ جامح أو من أحلامٍ واعية وغير واعية. يمكن أن نختار أيّ قصيدة مثالاً على ما نقول. يمكن البقاء مع قصيدة “زوجة الشيطان” التي اخترتُها أعلاه. لكن سأذهب عشوائياً إلى قصيدةٍ، صدفَ أنها “سرير الإلاه”. “جسدي منقوعٌ في سرير الإلاه هذا المساء”، تكتب الشاعرة؛ وتُتابِع: “لا بدّ من تدوين هذا: الخامسة مساءً”. هكذا تستهل قصيدتها باختيار وقت الذروة حول العالم. توجِّه مخيلتها إلى طوكيو، “حيث سائق القطار السريع نسيَ خاتمه على الطاولة، فاضطرّ للعودة [إلى بيته] واضطربت مواعيد الرحيل”. طبعاً، هذا أمرٌ يفوق الواقع إذ لا يحصل إلا في الخيال. ومن طوكيو، تنقلنا القصيدة إلى مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة، حيث “الإسكافي مصاب بتوعُّك في القلب”؛ لذلك “لم يخرج للشارع هذا المساء”. لكنْ إذا تذكَّرنا أنّ الساعة هي الخامسة مساءً، لأدركنا أنّ الخامسة مساءً في شيكاغو هي الثامنة من صباح اليوم التالي في طوكيو. وإذا تجاوزنا هذا الأمر، نعود لنسأل كيف أنّ الاسكافي، الذي لم يخرج إلى الشارع لإصابته بتوعك في القلب، “جَيبُه فارغ وخياله متخم”. يمكن أن نكمل الصورة من خيالنا نحن، فنتصور أنّ ذلك الاسكافي القابع في سريره تمنّى لو يخرج إلى الشارع ويشتري ما تشتهيه نفسه، لكنه تذكَّرَ أنّ خياله، على تخمته، لن يسدّ حاجاته. من شيكاغو تحملنا القصيدة إلى بكين، حيث نرى “عاملة النظافة تبكي” لأنّ خاتمها سقط في دورة المياه “وأضاعت عنوان البيت”. لن نسأل كيف يعقل أن تُضيع العاملة عنوان بيتها الذي تذهب منه يومياً إلى عملها ثم تَؤوب. لكن نلاحظ أنّ التوقيت المحلي في بكين هو الرابعة عصراً، أي بتأخير ساعة فقط عنه في طوكيو. وعندما ننتقل إلى أغادير، حيث “العجوز أمام المستشفى تنتظر حفيدتها” التي نسِيَت جدّتها وهي “تتابع رقصة الأفعى”، نجد أنّ الوقت المعادل للخامسة عصراً في طوكيو هو التاسعة صباحاً.
غنيٌّ عن القول أنّ الشعر لا يقاس بهذه المقاييس. إلّا أنّ الصورة في هذا الشعر بالذات – وهي عُنصره الأساسي – لا تَعتَبِر مقاييس الزمان ولا مقاييس المكان ولا مقاييس الترابط ولا مقاييس المنطق. وعلى الرغم من كثافتها وغناها، لكنها تبقى مجموعةَ صورٍ من دون علاقة واضحة في ما بينها، كأنما هي أحلامٌ غذّت المخيلةُ الخصبةُ تفاصيلَها. يَضيعُ مَن يبحث عن المنطق هنا. والأحرى أن يعرف أنّ هذا الشعر أدخله إلى مناطق اللامنطق والعبَث والحلم والخيال واللاوعي.
ما بالي نسيتُ أنّ هذا الوصف يميّز النزعة السوريالية في الشعر والفنّ؟ ألا تبدو قصائد سونيا الفرجاني في هذه المجموعة امتداداً للشعر السوريالي مع أندريه بريتون وسواه؟ ألا تبدو معادِلاً لفظياً لرسوم من لوحات بابلو بيكاسو أو سلفادور دالي أو فريدا كاهلو أو أندريه ماسّون؟ هذا الأخير تكلم عن “الرسم التلقائي” (الأُوتوماتيكي)، فيما أَطلقَ دالي على لوحاته أسماء من النوع الآتي: “الزرافة المشتعلة”، “الحلم الذي سبّبَه تحليقُ نحلة”، “صيد أسماك التونا”، “تحولات نرسيس”، “إصرار الذاكرة”، “المعضلة التي لا تنتهي”. نلاحظ أنّ عناوين هذه اللوحات قريبة من عناوين القصائد التي بين أيدينا، من غير أن تكون الشاعرة بالضرورة اطّلعَت على لوحات دالي وعناوينها. لكنه الأُسلوب السوريالي نفسه هنا وهناك. وهو الأُسلوب الذي شَرَّعه بريتون في منشور الحركة الأول (1924) وفي المنشور الذي تلاه (1930)، ودعا فيهما، بتأثيرٍ من مدرسة التحليل النفسي ولا سيّما مع سيغموند فرويد، إلى ابتعاد الشعر عن عقلانية عصر التنوير الأُوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بغْيةَ كشف “العالم السفلي” في النفس البشرية، أي عالم اللاوعي والحلم والخيال، مهما انطوى عليه هذا العالم من مجافاةٍ للمنطق. فهذه الأبعاد اللاعقلية الهاجعة في عمق النفس البشرية يجب التعبير عنها. وليس أحرى من الفنون الجميلة، خصوصاً الشعر والرسم، بهذا التوغل والكشف والتعبير. هكذا بات الوَحي الفنّي مع دعاة هذه المدرسة يأتي من البُعد السيكولوجي، اللاواعي عموماً، لا من البُعد المنطقي أو العقلاني.
انطلاقاً من هنا يمكن أن نقرأ مجموعة سونيا الفرجاني. ومما يميّز الكتابة السوريالية عن بعض أنواع الكتابة الشعرية الأُخرى أنها تُقاس بمقولة “المعاني” لا بمقولة “الأفكار”، إنْ جاز التعبير. والعبارتان، في هذا النطاق، لي. في الكتابة المبنية على أبعادٍ عقلانية واعية يصحّ السؤال عن الفكرة وراء هذه القصيدة أو تلك اللوحة. أما في الكتابة المبنية على أبعادِ الحلم والخيال واللاوعي، فالمتذوق يظلم القصيدة أو اللوحة إنْ هو تحرّى عن الفكرة المحض. إلّا أنّ خلوّ الكتابة من أفكار ومفاهيم مجرَّدة لا يعني افتقارها إلى معنى. والمعنى هو الجوّ الذي تولّده القطعة الفنّية لدى القارئ. ولئن كان الشعر، والفنّ عموماً، المصنوع من أفكار – وإنْ كانت منقولة بالصورة والخيال والرمز – يشكِّل مجتمَعاً من القرّاء الذين يستطيعون تبيُّن هذه الأفكار إلى حدٍّ أو آخر، فالشعر في هذه المجموعة ليس مصنوعاً على قياس جماعة. إنه شعرٌ يَصنعه كل قارئ عبر تَفاعُله الخاص مع كل قصيدة. هنا لا يبقى السؤال: “ما هي الفكرة أو الأفكار التي أراد الكاتب أن ينقلها إلى القرّاء؟”، بل يصير: “ما هو المعنى أو المعاني التي خَرَجَ بها كل قارئ من كل قطعة؟”. ما يعطيه الشاعر في هذا النوع من الكتابة التلقائية هو صُوَرٌ تتوالد من صُوَر. والصور تتنوع من شاعر إلى آخر حسب عالمه الداخلي. أما الصور التي انبثقت في هذه المجموعة من عالَم الشاعرة الداخلي فهي إجمالاً حادّة، سوداوية، يطغى عليها اللون الأصفر الذي قد يشير إلى تَخلخُل العالم وتهافته مع أوراق الخريف. هذا لا يعني أنّ الشاعرة تزوّد القارئ بصورة جاهزة، إذ إنّ كلّاً من قصائدها مجموعة قطع مبعثرة، على كل قارئ بمفرده أن يركّب منها الصورة الخاصة به انطلاقاً من الكلمات التي دوّنتها الشاعرة، بِصُوَرها وألوانها وبدون أيّ نموذج تركَّب الصورة محاكاةً له.
إلى التنظير السوريالي، تَأخذُني هذه القصائد أيضاً إلى نظرية الفيلسوف الاسباني خوسيه أُورتيغا إي غاسيت في كتابه “لا-إنسانية الفنّ”، حيث يدعو إلى إبداع قصائد ولوحات تنتهج التقنية الخالصة بعيداً عن المشاعر الجيّاشة التي تميّز الفن الرومنطيقي على وجه الخصوص. وقد شاء أُورتيغا بهذه الدعوة إكمال فلسفته الاجتماعية القائمة على التفريق الحادّ بين “الجماهير” و”النخبة”، مع ما يميّز الجماهير من مشاعر وأفكار وأنماط حياة عاديّة أو مبتذَلة، وما يميّز النخبة – كما وصفها نيتشه – من تحليقٍ في الذرى، بعيداً عمّا هو مستهلَك.
لكنْ لا بدّ من تسجيل ملاحظة انطلاقاً من القصائد في آخر المجموعة، التي تطغى عليها لغة الحُبّ. وإذ لا تشذّ هذه القصائد عن باقي قصائد المجموعة من حيث هي رسمٌ بالكلمات، إلّا أنّ الصوَر هنا أشدّ ترابُطاً في القصيدة الواحدة وأسخى من سواها في كشف المعنى. ولعلها – في بُعدِها الساخط، الرافض لأحكام المجتمع وقيوده – تزوّد القارئ بما يشبه مشكاةً يعيد قراءة القصائد السابقة تحت أنوارها الضئيلة. نعم، ضئيلة، لأنّ نهج الشاعرة هو التلميح والإيحاء. وفي هذا لا تشذّ عن الطريقة الأجمل في الشعر والفن. وككلّ التعبير السوريالي، غير المنطلق من نموذج عقلاني مسبَق، يقف الشاعر والفنان أمام أعماله محاولاً أن يكتشف ذاته والعالم من خلالها. هنا تغدو قراءة القصيدة أو تأمُّل اللوحة تحليلاً نفسياً: إمّا تحليلاً ذاتياً يتوغل الفنان عبره إلى أعماق نفسه، وإمّا تحليلاً من الآخرين للفنان أو لذواتهم. وإذا صحّ أنّ السخط والرفض والمرارة هي التي تطبع صُوَر المجموعة، فمن هنا نفهم طغيان اللون الأصفر على هذا الصور.
هي صور متلاحقة لا يقرّ لها قرار، كأمواجٍ عاتية ترغي وتزبد. وإذْ قلتُ في بداية هذه المقدمة إنّ الشاعرة “تَذُود الكلام عنها ذياداً”، فإنما استعرتُ شطراً معروفاً من النابغة الذبياني: “أَذودُ القوافيَ عنّي ذِيادا”. وإذا تابعنا قصيدة النابغة لوجدناها تدور على كتابة الشعر:
أذودُ القوافيَ عني ذِيادا
ذِيادَ غُلامٍ غَوِيٍّ جَرادا
فلمّا كَثُرنَ وأَعيَيْنَني
تَخَيَّرتُ منهنَّ عَشراً جِيادا
الشاعرة تَذود عنها الصوَر. وبما أنّ الشعر صناعة فنّية، فهي تتخيّر ثم تنتقي من الصور ما تراه الأجمل. لكنّ الانتقاء هنا يختلف عمّا هو لدى الصنّاعين من المدارس الشعرية الأُخرى، ولا سيّما الكلاسيكية. والأحرى القول إنّ الشاعرة تختار ما تستطيعه من التيّار المتدفق الذي لا يقرّ له قرار، تيّار اللاوعي والوعي والخيالات والأحلام. إلّا أنها تستعير من العدّة الشعرية المعروفة بعضَ عناصر، أبرزُها لديها الجِناسُ والسجع. من هذه الجِناسات والأسجاع الكثيرة: “أعثر/أتعثّر”. “أَتكوَّن/أَتلوَّن”. “أَتعدَّد/أَتمدَّد”. “الواقع/القواقع”. “الملح/الحلم”. “أُنقِّح/أُلقِّح”. “تطلّان/تَطلِيان”. “زجاج/مزاج”. “خافِت/خيفة”. “في الريح أستريح”. “الأُسود السوداء”. “الحقيقة حديقة”. “أَكتب كي لا أَكبت”. “زمن الحلازين الحزين”. “اللصوص زَرَعوا السمسم في القمقم”. “بِصَوتٍ هشّ… أجمع الحصى والقشّ”. “أُعوّل على فاكهة الرمّان… لم يكن وحشٌ في المكان”. “كجذعِ نخلةٍ تَصلح خليّةً للنحل”. لكننا نلاحظ مغالاةً أو إيغالاً في بعض هذه الأسجاع والجِناسات؛ وهذا يحصل عموماً حين تتعدّى المرّتَين: “المصباح لا يُتاح لكائنات الصباح”. أو: “رجوعي إلى هذه الأرض مسألة عدوى. غير أني كلما عَدَوتُ بَعدها، عدتُ إلى منبتٍ وَجَدتُكَ فيه”. أو: “الطيرُ التي تَبِيضُ… تضع وصاياها البيضاء… أَشعرُ بِبَيضٍ في العظام… في مَبِيضي وفي رئتي”.
طالما قلتُ لأصدقائي أو طلّابي أو مَن يستشيرني من كتّاب قصيدة النثر الذين يلجأُون إلى السجع في كتاباتهم إنّ القافية وُجِدَت للشعر الموزون وحده. ولعلّ سونيا الفرجاني هي الوحيدة من بين كتّاب قصيدة النثر التي قَبِلْتُ أسجاعها وأحببتُها إلى حدٍّ بعيدٍ جداً، مع بعض تحفظ على المغالاة التي ذكرتُ نماذج منها، تكاد تكون الوحيدة في المجموعة. وظنّي أنّ كتّاب قصيدة النثر قصدوا هذه الجناسات والأسجاع أكثر من أيّ شيء آخر بعِبارة “الإيقاع الداخلي” التي ابتكروها دفاعاً عن انتساب كتابتهم إلى الشعر يوم كان هذا النوع من الكتابة يتلمّس طريقه وسط قرون طويلة من الشعر الموزون. لكنْ لم يقنعني يوماً ما يذهب إليه بعض كتّاب قصيدة النثر من أنّ “الايقاع الداخلي” في كتابتهم يحلّ مكان الوزن. فلا شيء يأخذ مكان آخر أو يغني عنه. ثم إنّ مفهوم الايقاع “الداخلي” غامض إلى حد الخلوّ من المعنى. فالايقاع موسيقى. ومصدر الموسيقى الشعرية الوحيد هو الوزن. ولا أفهم معنى للايقاع في الكلام غير الموزون سوى “نَظْم” الكلام على نحو غير متنافر في الكلمات المفردة والمركَّبة. وهذا ما يجب أن يميّز نظم الكلام، أي “صناعته”، شعراً أو نثراً. وقد أطلَق النقاد العرب على الشعر والنثر اسم “الصناعتَين”. لكنْ يبقى أنّ قصيدة النثر تختلف عن الكتابة النثرية العاديّة خارج الشعر. يبقى أنّ قصيدة النثر شعر. وأتمنى أن تكون النزعة الفئوية – الإلغائية قد انحسرت لا مع نقاد الشعر وقرائه فحسب، بل مع الشعراء أيضاً على كلا الطرفين، خصوصاً على طرف المغالين من كتّاب قصيدة النثر الذين ادَّعوا يوماً، وما يزال بعضهم يدّعي، أنّ زمن الشعر الموزون ولّى. هذا هراء. إذ كيف، أولاً، لخمس سنين أو عَشرٍ أو خمسين أن تزيل قروناً طويلة من الشعر؟ كيف لطريقة تعبير أن تلغي سواها؟ ثمّ إني لا أتوقع وجود شاعر يستطيع كتابة شعر عظيم بالوزن والقافية يدّعي أنّ هذين الشرطين يحدّان من حريته في الرسم بالكلمات الموزونة والمقفّاة. لا القافية ولا الوزن يحدّان من حرّية الشاعر الأصيل الكبير. ولا أتوقع وجود شاعر يقتصر على كتابة قصيدة النثر إذا كان يتقن كتابة شعر عظيم بالوزن.
لكن قلّما وجدنا صاحب شعر موزون اليوم يستثني قصيدة النثر من الكتابة الشعرية. وما كتبته سونيا الفرجاني من قصائد النثر ينتمي انتماءً حميماً إلى الشعر. والأكثر من هذا أنّ عالَم المعاني الواسع والعميق الذي ترسمه قصائدها لا يمكن التعبير عنه بأفضل من تعبيرها هي. إنّ مناطق اللاوعي واللامنطق والتيارات الداخلية المتلاحقة التي لا يقرّ لها قرار، والتي تتجرأ هذه الكتابة على ملاحقة متاهاتها المظلمة المتشعبة، هي حالات غير موزونة، بمعنى أنها غير منتظمة أو غير منسَّقة في نظام. فكيف يمكن أن يعبّر عنها أو يحويها وزن؟
لْنسمع سونيا، في إحدى سورات غضبها، تقول: “لا أُريد أن يكون لي اسم أُنثى. سأُغيّر اسمي”. وإذ أُحاول تبيُّن الدافع إلى كلامها، أجدها خائفة من أنّ غالبية الشعراء العرب اليوم إناث، وأنّ غالبية المهلِّلين لهنّ رجال. والتهليل آتٍ لا من روعة كتابتهنّ، إذ هي لا تنتمي إلى الشعر ولا إلى الكتابة، بل من سعي الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل. لكنّ سونيا تعلن أنها ترفض “العيش” وتسعى إلى “الحياة”. هي تدرك عمق انتسابها إلى الشعر، الذي يجري دماً في عروقها. لذلك ترفض أن يهلّل لكتابتها هذا النوع من المهلِّلين، كما تعرف أنها خارج هذا الصنف من الشواعر العربيات. وتصرّ على أن يُقرأ شعرها من حيث هو شعر، لا من حيث هي أُنثى. إلّا أنّ هذا لا يمنع أبداً كتابة دراسة عن شعرها من حيث هي شاعرة أُنثى بكامل أُنوثتها. وحين تُخيِّر نفسها بين الكتابة والحياة، نراها تختار الحياة: “كتابتي وَهْمٌ/بعضُ صقيع/وإني إذْ أُفكّرُ فيك/أُجيدُ الحياة وأُخفِق في الكتابة”. لعلّ الشعر يبلغ ذروته حين يتحوّل إلى حياة، والحياة تبلغ ذروتها حين تتحول إلى شعر. والعلاقة الجدلية بين الكتابة والحياة أو بين الفنّ والحياة موضوعٌ طريفٌ جداً في فلسفة الشعر وفي النقد الأدبي.
ملاحظة أخيرة، تتناول الربط بين السوريالية وهذه القصائد. لا يجوز أن يستنتج القارئ من كلامي أنّ الشاعرة اختارت هذه المدرسة الأدبية وقرّرت أن تكتب قصائد مجموعتها حسب مقتضياتها. وليس بالضرورة أن تكون مطّلعة على الأعمال السوريالية في الشعر والرسم لكي تكتب على هذا النسق. كل ما في الأمر أني، مع قراءتي هذه القصائد بِعَين المفكّر أو الناقد، وَجدتُ أنها – بسبب العالم الداخلي العميق الذي تحاول رسمه، بكل عناصره الغامضة، المشوَّشة، اللاواعية – تقترب كثيراً من المدرسة الفنية المذكورة. بل أسمح لنفسي القول بأنّ قصائد هذه المجموعة تشكّل ذروة ما يمكن أن نسمّيه “السوريالية العربية” إذا كنا في حاجة إلى تسميات. وهي “سوريالية” من صنع سونيا وحدها، من إبداع شاعرة لا تشبه أحداً في قاموسها وتراكيبها وأُسلوبها، ولا تحاكي إلّا أعماق نفسها.
سونيا الفرجاني: هنيئاً لكِ ولقرّائكِ بهذه المجموعة التي تدعو الضيوف إلى مائدة من طعام وشراب وفاكهة غنيّة باللون والنكهة وإتقان الصنعة، وبتلك الحلاوة الآتية من غَرابة ما أعدَدتِه وعرضتِه على هذه المائدة، وكنتِ نعم المضيفة. ولئن كانت عبارة exotique/exotic تعني، في لغتنا العربية، “الغريب”، فالغرابة في كتابتكِ التي تجمعين القراء اليوم على مائدتها آتية من كسر المعتاد أو المألوف. أنتِ تَعرفين أنّ خَوارِق العادات هي المعجزات. وما حقّقتِه بشعركِ ليس أقل من هذا.

—————————
* مقدمة المجموعة الرابعة للشاعرة التونسية سونيا الفرجاني التي صدرت حديثًا بعنوان “ليس للأرض بابٌ.. وسأفتحه” عن دار زينب للنشر والتوزيع في تونس. الطبعة الأولى، 2019.
** أديب صعب شاعر وناقد وأكاديمي من لبنان. من مجموعاته الشعرية: “أجراس اليوم الثالث” و”مملكتي ليست من هذا العالم”. أستاذ الفلسفة في جامعة البلمند، شمال لبنان. له خمسة كتب متكاملة في فلسفة الدين، استهلت هذا الموضوع في الثقافة العربية الراهنة، منها: “الدين والمجتمع” (1983)، “المقدمة في فلسفة الدين” (1994)، “دراسات نقدية في فلسفة الدين” (2015)، إضافة الى كتب في النقد الثقافي، منها: “هموم حضارية” (2006). رأس تحرير مجلة “الأزمنة” الثقافية التي أعتبرت، طوال فترة صدورها، من أبرز المجلات الفكرية والأدبية العربية. نشر عددًا من الدراسات الفكرية في مجلات وكتب علمية، وشارك في مؤتمرات فلسفية وأدبية وتربوية في العالم العربي والخارج.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *