فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

قصة وسرد

مَشاهِدٌ..

فتحية دبش

“تونس…
سوسة…
توزر…توووزر….”
….
لم تكن واحدة من تلك الوجهات تناديه قط، بل كثيرا ما تساءل حتى إن كانت الأرصفة متشابهة و إن كان في هذه الأمكنة أطفال لحافهم الليل أيضا…
تسلل البرد إلى مفاصله، أعاد سحب بنطلونه إلى أعلى ثم إلى أسفل حين شعر بلسعة خفيفة بساقيه، و لكن البرد ظل يطارده و الصوت الأخرس يزداد قربا.

“سوسة؟”

رفع بصره من على الجريدة و تداعت ذراعه تتحسس حقيبته اليدوية المعلقة على كتفه الأيمن مخافة النشل و هزّ رأسه نفيا… ثم إيجابا .

تهللت أسارير السائق و انتعل ابتسامة جعلت فمه أشبه بحذاء قديم، و وثب على الحقيبة الكبيرة يرفعها ليلقي بها في آخر السيارة، ثم دعاه لاتباعه.
انتحى المقعد الذي يحاذي النافذة، كعادته يحبّ التحديق في المسافات و مراقبة الحصى تتقافز تحت ضغط العجلات.

بقربه جلست سيدة مكتنزة كانت بالكاد ترفع رأسها حين تخاطب السائق سائلة عن وجهة السيارة. تسترق النظر إليه و يباغته صوتها حنونا:

” هلاّ أفردت لأمك بعض مكان يا بني!”

كان يحاول ملاحقة حروف الجريدة و هي تتقافز عنوة أمامه، و تذكّره بمقاعد الدراسة التي فارقها باكرا.

غصّت السيارة البوجو 806 بالركّاب، بسمل السّائق و قذف بقامته الغليظة إلى المقعد، تمايلت العربة يمنة و يسرة قبل أن تستقرّ، و ارتفع صرير الكرسي ثم خفت، و خشعت كل العيون تنتظر أن يضغط على الدّوّاسة…

دفن رأسه ثانية بين صفحات الجريدة التي بدت مترهّلة من كثرة ما تداولتها الأعين و الأيدي، و راح يطارد الحروف المتقافزة و يمسك بخيطِ هذا لرتق ما تمزّق من ذاك…

تقترب جارته منه كثيرا، تكاد أن ترتمي بأحضانه، كان يبتعد، يبتعد حتى صار يشغل ربع مقعد سيدفع أجرته كاملة في ركن مظلم من أركان محطة نقل المسافرين …

همّ بها قليلا ثم عدل عن رأيه، و لكن حديد المقعد يؤلمه و يوشك أن يخترقه و يسقط تحت العجلات،
تحتكّ به، تسري بعض حرارة في ذراعه ثم سرعان ما تنتقل إلى فخذيه، يبتعد أكثر و لكن الحديد الذي يردّه إليها كان باردا و ساخرا…

رائحة البخور تضوع منها، تغزوه و تشاغب روائح المحطة التي حملها معه أنّا رحل … تحوّل هروبه إلى ربع المقعد إلى نوع من الإنتحار…
باغتته أحلام صباه بحضن دافئ غادرُه مذ وعى على الدنيا…

ماتت أمه و هي تصرخ بين أيدي حليمة القابلة، كان الوقت فجرا و كان ثلاثتهم كفراخ الطير، يفركون أعينهم و يهرولون يمنة و يسرة دون أن يدرون سرّ الصراخ الحاد المنبعث من خلف باب غرفتهم الوحيدة…

تجري النساء بأواني الماء الساخن، و أخريات يعقدن حبلا في حديد النافذة المتداعية و يسلمن طرفه الثاني إلى أمه، تمسك به، تجحظ عيناها، تعض على شفتيها قبل أن تطلق تلك الصرخة التي شقّت حياتهم نصفين، ثم .. صمْتٌ.

مال على جارته قليلا، غلب دفئها هواجسه، أغمض عينيه و استسلم للحنين الجارف الذي اجتاحه و عبث بيتمه، تدلّت ضحكات و تقاطرت كلمات يشتاقها قلبه المتعب…

حين همّ بلفّ ذراعه على رقبتها و تنفّس الأمومة التي أورثته يتما شقيا ارتطم بإسفلت القاعة باردا،
أيقظه ذلك الصوت الأخرس، و لم يفلح في فتح عينيه، كانت تنازعه و هو يحاول الفكاك من ثقل يجثم على جفون متعبة، تململ و عقد يدا بأخرى بعد أن استدار على جانبه الأيسر، جذب خرقة الغطاء ثانية و ثالثة و أعاد لفها حول رجليه و كلّه الذي بالكاد يشغل نصفة الكارتون الذي يأويه كل ليلة… ركله ذلك الدميم و هو يعيد ترتيب أزرار سرواله و يحفّ شواربه الغليظة:

“انهض!
أيها الكسول عليك اللعنة!
الشمس في كبد السماء، حسابك عسير إن لم تجلب رزق يومك…”

هبّ واقفا، تأبط أدوات عمله، و غادر الركن لينتشر في المحطات المجاورة و الأسواق لكن الليل ظلّ يطبق على روحه و يتناوبه اليتم أثناء النوم و الصحوة …

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *