فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

شعرية السرد في نص “مواسم قطاف الروح” لصدام الزيدي

أميرة زيدان*

يعد النص التفاعلي عنصراً أساسيا مصاحبا للشاعر صدام الزيدي (أحد شعراء الجيل الألفيني في اليمن) في أغلب تفاصيل كتاباته، مشكِّلا حلقة دائرية تدور رحاها على صفحاته الشعرية الآنية والمستقبلية، يتداخل مع مساحة التمرد على الواقع الراهن.

يُظهر الشاعر انتمائه لهوية الشعر المتدفق بالشعور في نص شعري أقرب ما يكون إلى قصيدة تنفتح على جنس القصة، يحكمها الخيال المربوط بالاسترجاع، لتبيان فلسفة (النذر المسبق) المتشكل من وعورة الحياة، والغياب واللاغياب، من الوعي واللاوعي، من الميلاد ومدافن الموتى، يحاول قراءة الحياة عبر استنطاقه لتيمات لا تشير للحياة، بل لصمت يقبع على وجوه الموتى. وهو ما عبرت عنها نزعات ما بعد الحداثة في السرد الحديث، من اختراق سياق اللغة السائد المقبول، وتحطيم سلسلة الزمن السائر في خط مستقيم، واقتحام مغاور ما تحت الوعي، وهذه التقنيات الشكلية ليست مجرد انقلاب شكلي في قواعد الإحالة على الواقع، بل هي رؤية، وموقف.

يوحي مطلع النص انه في حياته العادية لم ينجز شيئاً جديدا، يسير في رتابة يومية، لولا تدخل الرقمي (الايمو) في كسر هذه الرتابة، مع ان الشاعر يكرر ذكر هذا الرقمي وما يلحقه من رقميات أخرى إلا انه يعود بخُفّي (الايمو) الذي لا يمتلكه، أو لم يشترك به بعد، فالتفاعلية تظهر بجلاء في ثنايا النص، ومع ذلك يوهمنا الشاعر أنه لا يهتم بها؛ إذ هجرها منذ عام، وإن وصلت رسائل فلا يفتحها إلا بعد حين.

ثم تتشكل عملية المفارقة- نقلة سردية يواصل السرد فيها حكي مشهدا من المشاهد التي رافقت الشاعر عند انتظاره أمام موظف البريد، وما يعانيه من التعب، يظهر المشهد بـ دالّة (اصطدت)، وهنا يظهر التساؤل كيف سيكون الاصطياد؟ خاصة أنه في شارع عام ومكتب بريد عام، إلا أن الشاعر نقلنا إلى دهشة (اصطدت قيامة)، التي تحيل إلى انهيار منظومة الكون، بما يحمله من دلالات الخراب والموت وانتظار لعويل الذات والآخر.

ولا غرو أن يكون نوعاً من الخلاص من انفعالات مصاحبة للشاعر، يحاول عن طريق هذا الاصطياد إحكام السيطرة على الانفلات المفعم بالسواد، هي صورة مشهد تقريب لزمنية القيامة بدلا من وطأة الألم واستمراره؛ عله ينال الراحة التي ينشدها.

وينتقل السرد في مشهده الثاني عندما جسد الشاعر الحرب كشخص يُوكل أمره للآخر، بقوله:
“كنت في بادئ الأمر اصطاد خرافا برية نافرة قذفت بها الحرب إلى عرصات مفتوحة وأوكلتْ إليَّ إرشادها عبر طريق وعر” إذ تُوكل الحرب إلى الشاعر ارشاد الخراف، ويوحي مدلول (الخراف) إلى الاستهانة التي لحقت الإنسان جرّاء هذه الحروب، وليس له أهمية بمكان سوى الانصياع، وتظهر المهمة صعبة؛ لأن الطريق وعرة في عرصاتها المفتوحة واللانهائية، يُظهر السرد استسلام الشاعر عندما شرع يفتح جدارا واحدا بسرعة زمنية يتلاشى فيها الزمن الممتزج بفيزياء مبتكرة على عتبات الروح ( فتحتُ ثلاثة عشر ثقباً أسودَ) وهذا السواد القاتم يحيل إلى تفاقم هذه الجراح التي تزيدها الكتابة عمقا.

وتبلغ الصورة منتهى الوجع وهو يملأ هذه الثقوب التي فتحها بـ(جماجم بشرية وبقايا سكاكين وبارود ومنشورات من خنادق وجع كنت أحفرها بعناد منذ ميلادي…)، تظهر مصداقية الوجع وهي ممهورة بالحزن والألم؛ تشكّلا منذ بداية ميلاده، مع ما يظهره التناقض بين ذكره لتاريخين بين 1982-1983، إذ لا يدري الشاعر وقت مجيئه إلى هذه الحياة.

كما يحيل النص إلى ماضٍ بخرابه وزمنه الغابر الذين كانا سببا في نفي الروح داخل واقعها، حيث يوحي منطوق الحكي المنقول عبر تقنية الاسترجاع بأنه تشرّب الوجع المحاصر منذ مجيئه، ثم تظهر الوقفة الغريبة (قالت أمي انني غير مرة كنت أنهض من النوم وأؤدي شوط طواف فوق مدافن قريتنا)، خارج عن إرادته، عاجز في أرض خربة مسكونة بالصمت.

ثم يعاود سرده باسترجاع ذاكرة مغتالة بالصمت المؤود (مائة بالمائة)، بأن يكون بمثابة حارس لهذه المدافن، إذ لم تكن الحرب هي الوحيدة من تمسكت به، بل ان الحياة نذرته لذلك، واختيار الحرب له ما هو إلا تسلسل لحركة السواد والكون.

يعد الانصياع الثاني بمثابة تقديم للآلهة التي (اندثرت لحساب مكتبة pdf)، ربما يتحقق شيء ما بالرجوع إلى أساطير الآلهة إضافة للمكتبة الرقمية التي تحتفظ بكل شيء. بروح رمادية لا تحيل إلى سواد ولا إلى بياض ناصع، بل هو حالة من الإجبار على ارتداء غلالة رمادية.

حاول الشاعر أن ينهي هذه الحالة بدفن ميلاده ضمن مدافن الموتى، ومع ان خطابه الشعري يحيلنا إلى روح متطلعة لقراءة المستقبل وإلغاء الماضي من خلال قراءته في دفتر أبيه الخاص، إلّا أن الحياة لم تُقبل عليه من بداية ميلاده، بل عليه أن يعيش في رحى المكابدة.

و قد تكون هذه الحياة هي الوطن (الأم)، ومع ذلك فهي لم تُسقِه إلا آلاما متعددة، تجعل منه يمزق مدونة أبيه؛ لينهي حالة التشظي التي تعتريه، ذلك ان أباه لم يكن هو السبب، بل كانت الحياة، أيضا، قاسية على أبيه، إذْ -كانت- فتحت الغربة ( أفقاً نقياً في رأسه). وما رافقه من حالات الحزن والتشظي إنما كان نتيجة (وانني الوحيد من بينهم نذرتني للعزلة والوحدة والمشي ليلا فوق مدافن قريتنا…).

وأخيراً.. فالموسم الذي لم يبدأ بعد في حالة هذيان تعني بمواسم قطاف الروح المنهكة، الذي يُمثل حالة الفقد والوعي في الوقت نفسه، الفقد لأنه يشعر بالوحدة والغربة، والوعي بمرارة ما قدمته الحياة. كما أن شعرية الصورة في النص تُبدي حالة فقد وتشظٍّ وأسى، فهو يكتب معاناته المرتبطة بالألم سواء باختيار الحرب له، أم مع ماضيه.

ومهما يكن، فوجهة النظر المطروحة، ليست الوحيدة الممكنة، بل واحدة من ممكنات أخرى. وسيظل التحول السردي متوائما بين دفتي الرؤيا والتشكيل، في سياق “مواسم قطاف الروح”، أو النص الجديد، الذي يكتبه الشاعر صدام الزيدي.
_______________
*شاعرة وكاتبة يمنية

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *