فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

حمدان المالكي بين خمرة الألَمِ وعسلِ الشِّعْر المصفّى

أسماء غريب*

 

رسالةٌ في النّقد والنّقّاد/ قراءة في مجموعة “مجرد شجرة” للشّاعر العراقي حمدان طاهر المالكي

 

*من صقلّية عاصمة القِباب الحُمر ومعقل حدائق النارنج العَطِر، إلى دار السلام، بغداد الفيحاء، أرض الجمال والبهاء، ومنّي أنا أسماء غريب في الأولى مُقيمة، إليْكَ أخي حمدان طاهر المالكي في الثانية مُرابطاً، وقد جَمَعَنَا الشِّعرُ وعمّدَ حرفيْنا بخير جزيل وعطاء وفير منهُ تبرعمتْ دواوينُكَ التي قرأتُ بعضَها بعين المحبّة والإخاء والوفاء، وأخصُّ بالذّكرِ منها (مجرّد شجرة) و(نخلة الحلم).

أمّا بعد،
سلاماً على أهلِ السلام بعد أن غابتْ شموس الحقّ وما بقي لنا منها صاحب، بل سلاماً عليّ في ديار الغربة وعليكَ في ديار اليتامى الغرباء، وقد جئتُكَ اليومَ بحرفٍ باتَ يأنفُ النّقدَ والنّقدَة، ويعافُ معشرهُم وما رأى منهم في ساحة الفكرِ إلّا ما يسدُّ النّفسَ ويغمُّ الفؤاد، بيْنَ مُتَفَيْقِهٍ لا يعرفُ من أصولِ النقد شيئاً، وأُسَيْتِذٍ ليس له سوى نظّاراته ومسطرته التي بها يحصدُ ما قدْ يجودُ به عليه شعراء الحسرة والزّبَد اليابس، وآهٍ من الطلبة الجامعيين الذين يصبحون بين عشيّةٍ وضحاها “أساتذة” ومساعدين جامعين لا يعرفون الألفَ من العصَا، ولا الضّاد من الصاد، ولا التاء المربوطة من أختها الهاء. لذا فإنّي إلتُ على نفسي ألّا أحدّثكَ من منبرهم، ولا أوجع عقلك بقبيح تعابيرهِم وهم ينفثون سمومهم ونظرياتهم الغبيّة في القصائد، ويشتمون الشّعراءَ وكأنّ بينهم ثأر قديم، ويصبّون جام فشلهم العلميّ على كل ذي نصّ وقصيدة، حتى لأنَّ المرء يخالُ نفسه في مشاجرةٍ بين نساء عوانس على عريس تجرّأ وطلب يد إحداهنّ. لا عليكَ، سنخرجُ من سوق الكوارثِ هذا، وسنذهبُ بعيدا بحرفنا، نقمّطه كالرضيع بالمحبة تحت فيء نخلتكَ الوحيدة، ونحفظه من عيون الدخلاء والحاسدين المارقين، وسنقول فيه قصائد، لا تقلُّ جمالا عن تلك التي نظمتَها أنت في ديوانيْكَ الجديديْن. فهل أنت مستعدّ؟ ضع يدكَ إذن في يدي، ولنقل بسم الله مجراها ومرساها، إنّ ربّي لغفور رحيم!

الحمد لله حمداً لا انقضاء لهُ في السرّ والعلن، والحمد لله الذي يَسّرَ لي أن أعرج بروحي ليلة واحدة لأقضيها في حضرة حرفك: أتدري يا أخي حمدان أنّكَ أخذتَني إلى الجنّة في أكثر من قصيدةٍ لك؟ نعم، هناك حيث سمعتُكَ تقول: ((أريدُ الجنّة كاملةً / لقد عشتُ طويلاً / في الجحيم))، أتعلمُ ماذا يعني هذا؟ أنّكَ حدّدتَ مُسبقاً ماذا تريدُ وكيفَ تريدهُ؟ وقلّةٌ هم أولئك الذين يملكون القدرةَ على الوصول إلى ما وصلتَ إليه. وقد هالني جدّاً استخدامُكَ لفعل (أريدُ)، لأنّكَ به أردتَ أن تعبِّرَ عن قرار اتخذتَهُ بعد معاناة شديدة، وقسّمتَ الوجود بموجبه إلى قطبين: جنّة وجحيم، ثمّ خير وشرّ، ولستَ مستعدّا للتنازل عن حقّك في الجنّة، وكأنه ثمن بديهيّ لا مراء فيه عمّا رأيته، أو عمّا أرتكَ إياهُ تجاربُ الحروب، حروب العراق طبعا، أولستَ القائل: ((أمرُّ من فجوة الحياة الضيّقة / كهواء أخرس / وأرفع قلبي / مثل كأس قديم / كسرته الأيام / أرفعهُ محيّيا / كلّ الشهداء / والنساء والصغار / وأمرّ دون ضجيج / حفاظا على هدوء الحياة / الحياة التي تنام الآن / على خدّ رضيع))؟ لكن تعال يا صديقي الطيّب، تعال ودعني أتَعَرْفَنُ معك بعض الشيء أو أتصوّفُ معك كثيراً، وأسألك: لماذا تريدُها هذه الجنّة يا حمدان؟ ولماذا تقول إنك عشتَ طويلا في الجحيم؟ طبعا وأنت تسمع أسئلتي لا بدّ ستسألني أيضا وتقول: وما الجنّة والجحيم في عرفكِ؟ وسأجيبك قائلة: عليك أن تتذكّرها معي الآن قصيدتَك التي تقول فيها: ((لم يسمع بالفردوس / ولا بالحور العين / وهنّ ينتظرن في خيام النّور / ولا بأنهار اللبن / والعسل المصفى / ولا بالآرائك التي ليس / فيها شمس ولا زمهرير / لم يسمع بكلّ ذلك / لكنه سمع صوتاً واحداً / صوت غريب / كان يرفعه من شغاف روحه / ليرى كلّ هذا /))، ألا ترى معي أنّك تقدِّمُ للجنّة وصفا استقيته مما نقله إليك أنبياء الرحمة من كتبهم المقدسة؟ وعليْهِ فإنّ الجحيم سيكون نقيض ماذكرتَ مع إضافة واحدة تقول فيها إنّكَ رأيتَهُ على الأرضِ وقد عشتَ فيه طويلاً، ومن قولك هذا ينبثق سؤال جديد دعني أطرحه عليك: هل الجحيمُ تجربة أرضية دنيوية، أم أنه تجربة روحية أخرويّة؟ وقبل أن تردّ عليّ أسمعك تسألني سؤالا آخر: الجحيم هو الحربُ بالنسبة لي، فهل لديك سبب مقنع واحد يفسّر لي لماذا تندلعُ الحروب يا صديقتي وأختي في الحرف أسماء؟  وجوابي سيكون لكَ ولكلّ من سيقرأ بعدنا رسالتنا هذه كما يلي: ليس كلّ ما يحدثُ بهذا العالم بالشيء السيّء، بما فيه الحروب يا صاحبي، إنما كلّ ما يقع هو نتيجة لاختيارات الإنسان الواعية، وكل هذا الحجيم الذي عشت فيه لدرجة أنك قلت في إحدى قصائدك إنه لم يعد في مقدور الملائكة أن ترسلك إلى جحيم آخر، وإنك حينما وصلت إلى الجنة وجدتها ورفاقَكَ مزدحمة جدّا فبقيتم واقفين، كلّ هذا إنما خلقه الإنسانُ ولا دخل لله به تماما، والإنسانُ يا صاحبي هو في حالة خلقٍ دائم من وعيه الخاصّ والشخصيّ جدّا، ولك أن تتخيّل حينما يتحوّلُ فعل الخلق هذا من المستوى الفرديّ إلى المستوى الجماعيّ، إنه يكون بلا شكّ قويّ لدرجة أنهُ يمكن أن يغيّرَ العالم والكوكب.

وعليه وبهذا الشكل لا يوجد في العالم ضحايا ولا أشرار بل الكلّ في خلقٍ مستمر، وكلّ على طريقته بالضبط كما قلتَ أنت في قصيدتك:
((سيذهب القتيل إلى أهله
يقبل أطفاله كمسافر
يربت على كتف زوجته
ويمسح بمنديله
دموع أمه
يغلق الباب باصابع روحه
ويمضي
طريقه رشفة ضوء
ليصل هناك
لم تكن عائلته
سوى ندبة صغيرة
في وجه حياة سوداء.
***

القاتل أيضا سيذهب إلى أهله
لم يضجر من مهمته بعد.
يقبل نقوده
كعاشق
يمسح مسدسه من بقايا الذكرى
ويضحك بأسنان حمراء.
لا يحفل بزيارة ضحاياه كثيرا.
ودائما يراهم
وهم يملؤون بيته
بأنفاسهم المتقطعة
يخرج من البيت
بعد أن يطمئن
على قلبه المغلق
ويمضي )).

لا أحد يحفلُ بأحد كما ترى يا صاحبي، لا القاتل ولا المقتول، إنهما معا اختارا الحدثَ وإن ليس بالطريقة نفسها التي بها يختار البارئُ أحداث الكون، وبفعل الخلق هذا يقعُ ما يدّعي الإنسانُ أنه يكرهه في الحياة أو لا يحبّه، والفرق فقط يبقى في كيفية تحمّل مسؤولية هذا الفعلِ، حينما سيحدث ذلك سيكونُ الأمل في التغيير كبيراً. ولا يقع الخطأ إلّا حينما يسمّي الإنسانُ النتائجَ التي تترتبُ عن فعل الخلق بالسيئة، أو بأنها تشكل ما يسمّى بالجحيم الذي ما هو في الحقيقة سوى شعورِه الحقّ بنتائج اختياراته وقراراته الأكثر سوءاً من غيرها، ولكي أكون معك أكثر وضوحا فإني سأقول لك إنّها الاختيارتُ التي تنكِرُ وجودَ الله وتتعارض مع حقيقته كرمز للحبّ والسلام المطلقيْن، هي التي تسبّبُ في ظهور الجحيم على الأرض. دعني الآن أمرّ إلى رغبتك في الموت وأنت تقول في قصيدتك: تعلّم / أن تموت / دفعة واحدة (…) / وقل كما قال من قبل / السياب / أمام باب الله / (أريدُ أن أموت يا إله)، أليست هذه “الأُريدُ” شبيهة بتلك التي قلتَ فيها (أريدُ الجنة كاملة)؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أنّ الموتَ مرادف للجنّة بالنسبة إليك، لأنه طريق إليها، هذا الطريق الذي سيعيدك إلى سماء الله طفلاً نسي الكلامَ. نعم، ستنسى الكلامَ حقّاً، وستنسى الألم والتعبَ، وستتذكر شيئا واحدا فقط: أنه في حضرة الله لا أحد يتحدّثُ عن الجحيم، وكيف لك ذلك وأنت الذي صنعتَ لنا من خمرة المتعبين عسلا مصفّى، أو شِعراً نقيّاً كذاك الذي اعتدتُ أن أقرأ للإيطاليّ دجوزبيه أونغاريتي، وصاحبيْه الأمريكي إدغار آلان بو، والفرنسي شارل بودلير. نعم، شِعرُكَ رحيقٌ زلال، فيه الكثير من السموّ، ولغته شفيفة تختزلُ الحرفَ وترقى به إلى مدارج الرؤيا والعرفان، لذلك كتبتُ عنه بأسلوب الرسالة، وحرف المحبّة – مبتعدةً به عن أوكار النقّاد المهووسين الذين ما قرأوا شيئا إلا وحرّفوا كلمَه عن مواضعه -، وذلك حتّى أقولَ لك فقط: إنكّ قد تكونُ تشبهُ الشّجرة، أو لنقل النّخلة في خضرتها وسموّها، لكنّك لستَ حقيقة بهذه ولا بتلكَ، وإنّما أنتَ أسمى من الشجرة و النخلة، إنك شاعر قادر على خلق الكون بكلّ ما فيه من أشجار وفراديس؛ شاعرٌ يرى الآن كلّ ما لا يُرى
يرى قمره الوحيدَ
غارقاً
بدمعته الغريبة
ويرى ويرى….

———————
*د.أسماء غريب: شاعرة وناقدة ومترجمة مغربية مقيمة في إيطاليا

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *