فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

شعر حر

نبيُّ الحكايا

زين العابدين الضبيبي

 

*إلى جدي في الذكرى الثانية لرحيله:

ربما كنتُ في العاشرةْ..

مُمعِناً في شرودٍ عميقْ..

حينها قال جدي: 

“ستصبحُ يا ولدي شاعراً”

لم أكن أعرفُ الشِعرَ ساعتَها

غيرَ أنِّي ابتسمتُ 

ورُحتُ أبشِّرُ أطفالَ قريتِنا

حالِماً، داخِلاً في شرودٍ جديد..

………

………

 

“ستصبحُ يا ولدي شاعراً” 

شاعراً؟؟

ما الذي كان يعنيهِ؟

هل “شاعرٌ” هذه 

مهنةٌ مثل كلِّ المهن؟

إذا صرتُها وتحقَّقَ ما قال جدي! 

تُرى هل سأجني من الشاعريةِ مالاً وفيراً!؟

وأبني لعائلتي منزلاً في المدينة؟

 

كان جدي 

نبيَّ الحكاياتِ في قريتي

كلما هيأَ الوقتُ متَّكأً وجلستُ إليهِ: 

يحدُّثني عن خبايا الزمانِ وأسرارِهِ، وملاحمِ أسفارِهِ 

في دروبِ الحياةِ التي ناصَبَتْهُ الشقاءْ.

 

كان جدي يُرَبِّي غصونَ النقاءِ

ويزرعُ في وجهِ كلِّ الصغارِ ندى الضحكاتِ

ونخلَ الأمل..

كان يحكي 

ويحتشدُ الناسُ من حولِهِ، 

والحصى والشجر..

يثمَلُونَ بسحرِ حكاياتِه

ويغيبونَ في دهشةِ الكلماتِ

ليتركَهُم بقلوبٍ معلقةٍ في سماءِ الخيال..

وحدَهُ روَّضَ الصخرَ، 

لوَّنَهُ

ثمَّ شكَّلَ من صلبِهِ منزلاً وحقولاً من الأمنياتِ

وطرَّزَها بالرياحينَ والدفءِ

حتى دَنَت لتُقَبِّلَ هامَتَهَ 

شامخاتُ الجبال..

كان عصفورَ سدرتِنا

وصديقَ عصافيرِ قريتِنا

وقصيدةَ بهجتِنا

وأميرَ مجالسِنا

وصلاةَ سعادتِنا

كلما جفَّ عشبُ الفرح..

 

كانتِ الشمسُ

تصحو إذا ما صحا

وتصافحُ مِعوَلَهُ

كلَّ صُبحٍ

وتحنو على رأسِهِ

في الضُحى

وتزفُّ إلى حقلِهِ 

وارفاتِ الغيوم..

 

كان جدي عصيَّاً

إذا ذُكِرَ الموتُ 

سوَّى عمامتَه باسماً 

وتناول خيطَ “مداعتِه” 

هازئاً واعتدل.. 

بسرورٍ كثييييرٍ وحزنٍ أقل..

“المداعةُ” كانت عشيقَتَهُ 

بعد أنْ يركعَ الفجرَ 

كان “يُعمِّرُها”

وكعشَّاقها المخلصين 

يصفِّي حساباتِهِ معها 

ويودُّعُها للقاءٍ قريب..

 

في الظهيرةِ 

يأكلُ “فتَّتَهُ والقَشِير”.. بحمدٍ كبير..

مادحاً كفَّ فاتنةِ الروحِ

يرتشفُ الشايَ 

يستلُّ “مَرقَحَةَ القاتِ” منتشياً،

ويجرِّدُها من شوائبها.. وينادي: 

المداعةُ يا “بنت”

– يعني بها جدتي – 

فهي لمَّا تَشِخ قطُّ في عينِهِ

وهو ما زال فارسَها والفتى المنتظر..

 

كان في الحبِّ قيساً

وفي عينِ كلِّ القرى سندباد

بعد أن وطأت رجلُه كلَّ تلٍّ وواد…

 

كان جدي يقولُ: 

إذا أخذَ الموتُ منَّا أحد

ستزيدُ السماواتُ نجماً على سطحِ منزلِهِ 

تلك صورتُهُ في الأبد..

ها أنا الآن في سطحِ منزلِنا 

ثَمَّ نجمٌ أنيقٌ يُلَوِّحُ لي؛ ذلك النجمُ جدِّي 

سأتلو عليهِ قصيدتَهُ 

يا ترى هل سيسمعني مُغمَضَ العينِ 

مبتسماً مثل عادتِهِ؟

كانَ لي خيرُ جدٍّ 

ترى هل أنا كنتُ نِعْمَ الولد؟

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *