فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

كتابات

ريتا الحكيم، أو: الحزن الذي صار مقدساً..

فتحية دبش

قراءة في نص ل ريتا الحكيم

أدسّ يدي في عبّ النّومِ
أقرأُ على جبينهِ، ما يلي:
أبي خذلتْهُ لفائفُ التّبغِ؛ فاحترقَ بينَ أصابعِها
وهوى رماداً في حُضنِ أمّي
مِنْ يومِها، لمْ تنفُضْ أمّي مِئزرَها
تُنادينا بأسماءِ حُزنِها السّبعة
كلّ شروقٍ
/
تقولُ لي أمّي:
اغرفي ما شئتِ مِنّي قبلَ أنْ يمضغَني الموتُ
مَنْ سيحكي لكِ عَنّي بعدَ ذلك؟
مَنْ سيُدوّنُ سيرتي، حينَ تَصحينَ على نحيبِ الأحلامِ
وهي تَسُدّ مساماتِ الطّريقِ
آه! تذكرتُ يا ابنتي
كنتِ قد أنشأتِ لي حساباً على الفيس بوك
ظناً منكِ أنّني ساتعاملُ معَ هذهِ التكنولوجيا
بحرَفيّةٍ، واقتدارٍ
خيّبتُ ظنكِ، ومارك حظرَ الصّفحةَ لأنّني لمْ أستخدمْها إلا لأتنصّتَ على لهاثِكِ بين السّطورِ، وأنتِ تُرسلينَ
ليَ القُلوبَ والزّهورَ على الخاصّ
لا أدري مَنْ أبلغَهُ بذلكَ
ربّما شوقي إليكِ، كانت تغصّ بهِ الكلماتُ
فتقفُ في حلقهِ وتقتلُهُ الغيرةُ
/
ماذا أقولُ لكِ يا أمّي؟
أنا أيضاً كنتُ أتتبّعُ عبقَ الحَبقِ في أنفاسِكِ
لأصلَ إليكِ مُضَمّخَةً بعِطركِ المُفضّلِ
لكنّني اكتشفتُ مُتأخِرةً أنّ مارك لا يُحبّ
إلا العطورَ الباريسيّةَ، وأنتِ عطرٌ عربيّ أصيلٌ
لا تنتهي صلاحيّتهُ
ويبقى كنقشٍ في ذاكرةِ الأزرقِ
مهما حاولَ مارك أنْ يكيدَ لي ويُعلنَ عنْ تحديثاتٍه
بين نكايةٍ وأُخرى

_______________
كلما قرأت لريتا الحكيم إلا وتنازعتني الدهشة بقواميسها المتعددة وبوجدانيتها الفياضة و صورها التي لا يكتبها إلاها…
كلما وقفت على نص باغتتني بآخر يفوقه عمقا و جمالا. و تبقى القراءة قيد نشر جديد و نص تسحّب من بين نشوة الإمتلاء ببوح ريتا…

عالم خاص تنسجه بدقة متناهية و بدفق لا ينضب و يطوحنا بين الجمال و الجمال حتى عندما تتحدث ريتا عن الخراب و الحرب و الفقد و هي تقريبا مدارات الشاعرة إلى جانب مسمى كبير هو الحب…

القصيدة التي سأحاول مراودتها عن نفسها افتتانا و ولعا لا تحمل عنوانا، لذلك اخترت أن أكنيها بمقطع منها بل هو مقطع المقطع (أدس يدي)…

ليس من المهم تصنيف النص فهو يحمل هويته الأجناسية بكثير من الألق و البهاء، و يطل على قارئه
( موجزا، متوهجا، مجانيا) على حد تعبير انسي الحاج… و يعبق بغيم قصيدة النثر محترما كل مقوماتها مشبعا بعمق ريتا و تجربة الإنسان.

تستهل الشاعرة القصيدة ب (ادس في عب النوم يدي) ولا يفوت القارئ ما في العبارات من تجديد على مستوى الشكل و المضمون،
ففعل دس /يدس يحيلنا على تلك الحميمية في الفعل تؤكده عبارة (عب) بما تحمل من هروب من عالم عاري إلى عالم متواري،
و من الكشف إلى المواربة، في سطر شعري واحد.

رسمت ريتا شخصيتها الساردة/الشاعرة، فتطل على القارئ طفلة(البراءة/الاسئلة) تحتمي بعب النوم من الواقع المحيط بها. و هنا تحيلنا على صورة أولى من صور الفقد و الغياب/غياب الأم التي هي الحضن الذي نحتمي فيه حتى من ذواتنا، و صورة من سلوك ثقافي (الصلاة قبل النوم)…
و تستخدم (أقرأ) للدلالة على التلاوة.. و هذا الحزن الذي صار مقدسا من فرط حضوره. فإذا بما تتلو متعدد:
*فقد الأب/السند/الهوية بفعل التبغ و الإحتراق.. كان الهم متوارث.. من الأب و الأم الى الإبنة/فاجعة شرقية بالأساس…
و كان غياب الأب بداية حضور جديد للأم… و لكنه حضور في الغياب.. فإذا كان الأب قد غاب جسدا تحت وطأة المرض و علل التدخين فإن الأم تغيب سيكولوجيا فتختلط عليها الأسماء بل لا تحتفظ لهم بغير( أسماء حزنها السبعة)…
في النص إشارات كثيرة و إحالات على السجل الديني( أقرأ، سبعة….) و كأنما الحزن و الفقد صار طقسا من طقوس العبادة، أو دليلا على الرضى بامتحان الله للإنسان،
و هنا أجدني أطرح السؤال: هل وصل الأمر حد تقديس الألم و الفقد؟ هل صار الغياب و الموت نوعا من أنواع العبادة و الإبتلاء؟ أم هل تحتاج النفس البشرية إلى تقديس الموت و الفقد و الحزن حتى تستعلي عليه فتخرج به من دائرة الفيزيقي إلى الميتافيزيقي؟

لنصوص ريتا كثير من صور الفقد، و بذلك تصبح نصوصها (جارنيكا) منثورة…
و يتحول القارئ إلى شاهد على الخراب، لا المادي و حسب و إنما المعنوي أيضا…

و في الفصل الثاني و الثالث تتحول إلى وجه آخر من وجوه الغياب/الحضور للأم،
فإذا بالتقنية حوار، و إذا بالحوار خطاب تؤكد فيه الأم على ضرورة معاندة الغياب و كأنها بنصف وعيها تعي الفاجعة… (الموت غول يمضغ ضحاياه) و الفايسبوك آلة الحضور التي تفتك بالغياب.
فإذا كان الواقع يشجع على الغياب و نصف الوعي فإن الفايسبوك يشجع على الحضور و الوعي الكامل.
في الأولى الغياب هو الحضور و في الثانية الغياب هو الموت…
و هذه الطفلة التي تكبر و تعي كيد مارك و تتشبث برائحة الأم (العربية الاصيلة)/ الهوية الأم…

و هنا أيضا أتساءل يا ريتا: هل مازال حقا العطر العربي متمردا على الصلاحية في ظل صراع خفي بين هوية وغزو، بين موت وحياة، بين غياب وحضور بنصف وعي؟

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *