فضاءات الدهشة

يهتم بالكتابة المدهشة..رئيس التحرير أحمد الفلاحي

نصوص

حُمَّى الدّيناصُورات تلبسُني كالقميص

محمد المهدِّي

مَن هذا الذي يأكلُ يدي اليمنى
وهو يمسحُ على رأسي كاليتيم؟
أنا لست شجرة خوخٍ أو صنماً من التَّمر،
ليس بمقدوري أن أصرخ كمن يسقطُ في بئرٍ عميقة،
صُراخي مسجونٌ في رئتي كأسير حرب،
ودمي يمشي ببطءٍ كعجوزٍ في عمر التِّسعين،
ماذا أفعل بالمرآة المقلوبة في هذا الليل الحجريِّ!
سأغُضُّ الطَّرف عن هذا الحنين الذي يتلوَّن كالحرباء؛
الذي يُشبهُ سُعالَ الأزمنة واحتراق الجماجم في الغابة،
أنا رَجُلٌ مريضٌ مُنذ ثلاثة عقود،
حُمَّى الدِّيناصورات تلبسني كالقميص
وصُداعُ الحمير الوحشية على رأسي كالقُبَّعة
لا أستطيع أن أكذب على الطبيب النفسي
حين يسألني عن طفولتي التي ملأتها
بحمل الحطب من وادي المقابر القديمة
لا أستطيع أن أُخفي عليه
أنني كنت لا أُفرِّق بين عظام الموتى والحطب الذي أجمعهُ إلاَّ حين كنت أصلُ إلى البيت،
كان يُجنُّ الليلُ وأنا هناك في وادي المقابر القديمة
أجمعُ الحطبَ وأُفتِّشُ في الأكواخ عن بيض الحجل،
لم أكن مهتماً باللعب كإخوتي وأبناء القرية المُشاغبين
الذين كانوا يسرقون السنابلَ من الحقول الفقيرة
رغم الجوع والصقيع والحرمان.
من هذا الذي يأكلُ أصابعي؛
لأن قلبي في يدي كالمحبرة وأنا أكتبُ وأتخيَّلُ المسبحة التي كانت في يدي قبل عامٍ وأربعين ليلة.
يا صلوات أُمِّي ودعواتها المباركة،
يا نبرة صوت أبي وحكمتهُ التي تحفُّها أرواحُ الأنبياء،
يا أعمال الأولياء الصالحين:
أُُشهدكُم الكونَ الفسيح
والبكاءَ المُتراكمَ من ملايين السنين،
أُشهدُكم أنني وحيدٌ ونحيلٌ جدَّاً كالمسطرة،
وهذه الحُمرَةُ التي في عينيَّ هي علامة الهول
بها يعرف الأصدقاء المقرَّبون من العاطفة والخوف
أنني انتهيت للتَّوِّ من قراءة سورة الحشر.
من هذا الذي يناديني من مكانٍ بعيد
وهو يرسمُ صورتي على زجاج النافذة
في هذا الليل الممطر؟!
كما لو أنه يرسمُ خاتمَ سليمان على صفيحٍ من الفضَّةِ،
أنا لست آية كُبرى أو عزيمة أو تعويذة،
لست رَجُلاً صالحاً كما ينبغي لِيُضيء أجواءه بأسمائي
أو ليستحضرَ رُوحي في مثل هذا الشُّحُوب القارس.
أنا رجُلٌ مريض
يهزمني الجوعُ والصَّقيعُ والغُربةُ والتأمُّلِ في الخردل،
وتزعجني المواعيدُ واللِّقاءاتُ،
ومَن يقول لي: «يا طَويلَ العُمر» فهو يُشعرني
أنني من فصيلة النُّسُور.
من هذا الذي يُثرثرُ فوق رأس النَّدم كالشَّيطان!
ليس في رأسي شعرةٌ واحدة تتجعَّد بها الحسرة،
فقط أنا رجُلٌ مريض بالفوضى والملل،
عُلُبُ السَّجائر الفارغة تملأ غُرفتي المُتشقِّقة كالشتاء
والدُّخانُ يتصاعدُ ويخرجُ من الشُّقوق كالأفاعي،
والأشباحُ خارج المكان، تهمسُ في آذان بعضها:
هُناك شاعرٌ يحترقُ كالبخور
أو كالحطبِ الذي كان يجمعهُ من وادي المقابر القديمة.
أيتها الأرواحُ الشِّريرة
أيتها الأرواحُ الطَّيِّبة
أيها الملكوتُ المُتناسلُ في الذُّهول والغيب:
كثيراً ما يستضيفُني العالمُ الآخرُ
وكثيراً ما تحتفي بإقامتي معها قبائلُ الجنِّ،
لم أكُن ساحراً في يومٍ ما؛
فكلُّ مَن لهُ صِلةٌ بالعالم الآخر لا يعني أنَّهُ ساحرٌ مثلاً،
إنها علاقةٌ وثيقة منذ وقتٍ بعيد،
لا يعلم حكايتها أحدٌ من البشر،
جِنِّيَّةٌ حميمةٌ بادلتُها الحبَّ،
أَخَذَتنِي إلى مُدُنٍ خارج التُّراب والشَّوك والملح.
من هذا الذي يفتحُ عينيه أمامَ منقارِ الزَّمن؟
وما جدوى أن تنفرطَ مسبحةُ الأسئلة
في صحراء من الزِّئبق!!
سأحتفظ بمعادلةِ الرُّوح لي وحدي،
وسأخبِّئُ الجمرَ في جيبيْ
دونَ أنْ يتحسَّسَ العشبُ جسَدَهُ الجافَ كالمنفى
ودون أن يستغيثَ بغيمةٍ في المهجر،
البلاءُ عظيمٌ والحكمةُ ذروةُ سنامِ العَظَمَة.

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *