الوميض*

إيتالو كالفينو**
ترجمة: عبير الفقي

 

لقد حدث الأمر ذات يوم، عند مفترق الطرق، وسط جمع من الناس يجيئون ويروحون.
توقفت، ثم طرفت بعيني: فجأة احسست انني لا أفهم شيئًا.
لا شيء، لا شيء عن أي شيء: لم أفهم أسباب الأشياء أو الناس، كان الأمر كله لا معنى له، مناف للعقل. ضحكت.
ما وجدته غريبًا في ذلك الوقت هو أنني لم أدرك من قبل؛ إنه حتى ذلك الحين كنتُ متقبلا لكل شيء : إشارات المرور ،السيارات ، الملصقات ، الملابس الرسمية ، الآثار ، أشياء منفصلة تماماً عن أي إحساس بالعالم ، قبلتها كما لو كانت هناك ضرورة ما ، سلسلة ما من السببية والنتيجة التي تربطها معًا.
ثم ماتت ضحكتي. توردت خجلاً. لوحت بيدي لأجذب انتباه الناس. “توقفوا لحظة !” صحت ، ” ثمة شيء خاطئ ! كل شئ خاطئ ! نحن نفعل أشياء منافية للعقل. هذه لا يمكن أن تكون الطريق الصحيحة. أين يمكن أن تنتهي؟ ”
توقف الناس من حولي ، وأحاطوا بي ، بفضول. وقفت هناك في وسطهم، ملوحاً بذراعي، بيأس لأفسر موقفي ، لأشاركهم وميض البصيرة الذي فجأة أنار لي : ثم لم أقل شيئاً. لم أقل شيئاً لأنه في اللحظة التي رفعت فيها ذراعي وفتحت فمي، صار الوحيِ العظيم الذي نزل علي كان كما لو ابٌتلع مرة أخرى و خرجت الكلمات القديمة كما هي ، مندفعة.
“إذن ؟ ” سأل الناس ، “ماذا تقصد ؟ كل شيء في مكانه. كل شيء كما ينبغي له أن يكون. كل شيء هو نتيجة لشيء آخر. كل شيء يناسب كل شيء آخر. لا يمكننا أن نرى أي شيء خاطئ أو مناف للعقل “.
وقفت هناك ، تائهًا ، لأنه كما رأيت الآن قد عاد كل شيء إلى مكانه ثانية ويبدو كل شيء طبيعياً ، إشارات المرور، الآثار، الملابس الرسمية ، المباني العالية ، قضبان الترام ، المتسولون ، المواكب. ولكن هذا الأمر لم يهدئني ، لقد عذبني .
“أنا آسف ” قلت. “ربما كنت أنا المخطئ. لقد بدأ الأمر هكذا حينها. ولكن كل شيء على ما يرام الآن. أنا آسف “. ودثم شققت طريقي وسط غضبهم الهادر.
ومع ذلك ، حتى الآن ، في كل مرة (وفي كثير من الأحيان) أجدني لا أفهم شيئًا ، ثم ، بشكل حاسم ، أمتليء بأمل إنه ربما تكون تلك هي لحظتي مرة أخرى ، وربما يحدث انني لن أفهم شيئا مرة ثانية ، وحينها سأمسك بالمعرفة مرة أخرى ، تلك التي وجدتها وخسرتها في لحظة.

_________________
*من مجموعة “أرقام في الظلام”.
**إيتالو كالفينو من أشهر الروائيين الإيطاليين المحدثين. ولد فى هافانا عم 1923، وتوفى بمدينة سيينا بإيطاليا عام 1985، قاوم الفاشية فى شبابه، وتميزت أعماله الإبداعية بالسخرية ومن أهمها: البارون المعشش فوق الشجرة – قصر المصائر المتقاطعة – لو: فى ليلة شتاء مسافر – قصص إيطالية شعبية. تخرج (كالفينو) من جامعة (فلورنسا) قسم الزراعة. وكان مهتما بالسياسة، فالتحق بالحزب الشيوعي الإيطالي، وعمل في صحيفة الحزب، وكان يكتب المقال السياسي إضافة إلى كتابته المقالات الأدبية، والثقافية عامة. وقد ثبتت مكانة (كالفينو) كأهم أدباء ايطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، ومازالت مكانته محفوظة حتى الآن كأحد أهم الأدباء الإيطاليين، ومن الأدباء المعروفين عالمياً. توفي (كالفينو) عام 1985 تاركاً مجموعة من الأعمال التي ترجمت إلى معظم لغات العالم، ومنها العربية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

فيسبوك يعتقد أنك قد تعرفين ذلك الشخص

فورتيسا لاتيفي ترجمة: أسماء حسين   كان يجدر بكِ أن تكوني أشد ...