وفاء وسوف
“خَطُكِ بشع.”
“أعرفُ ذلك.”
“هل تكتبين تقريرًا بأحد؟!!”
“لا، بل أكتبُ نعوة.”
“الجو مناسبٌ جدًا لكتابة نعوة، خاصة مع هذا اللون الأحمر الذي يلف المكان، يوحي بالموت، وربما أكثر…”
“بل يوحي لي بنبيذ معتق.”
“أهي نعوةٌ إذن؟ أم نخب الموت؟ لكن لمن النعوة؟”
“سأتركُ خانة الاسم فارغة، سأملأها في النهاية عندما تثمل جميع الحروف.”
“أسمعُ صلصلة أجراسٍ في كلماتك، أم تُراها استخفافًا بكلِ الأجراس؟! هناك بقعةٌ داكنة دومًا تعوقُ الإحساس بالجمال، لكنها تلهبُ الشغف بالفن، والحنين إلى الحب…”
أسقطتْ القلم من يدها قصدًا، ومالتْ بكليتها لتلتقطه، تريدُ أن تقطعَ الحديث، بل تريدُ الهرب من كلماته الأخيرة التي حملت معها تهديدًا خفيًا برغبتها الحقيقية بالبوح، أو بالتحدث إلى غريب سرعان ما ينسى ما كان وما حدث. فما كان منه إلا أن انهمكَ بهاتفه الذكي، افتعلتْ حركةً توحي بتجسسها على شاشة هاتفه، تريدُ البوح… نظرَ شذرًا إليها:
“أراكِ تتلصصين…”
“أنتَ من بدأتْ”
لا يزال هناك متسعٌ لشعرة لتقطعَ خطوها وترتدَ إلى حصونها، أو لتقفزَ فوق الحذر الذي يتكئ على كتف العادات وتدوس على زجاجه المتكسر أصلًا. أرادتْ أن تقولَ شيئًا، لكن تصفيقًا مفاجئًا أجفلها. نظرتْ إلى الشاشة الفضية الكبيرة أمامها لتعرف سبب التصفيق، رأتْ مشهد قتال، بطلٌ يُنازل الشرير، سينتصر البطل، اعتدنا على ذلك وعلى تلك النهايات السعيدة. قالتْ:
“يتقاتلان… أتمنى لو ينقذ أحدهما الآخر!”
“سيتقاتلان وسيظلان هكذا، لا يريدُ البطل أن يسقطَ من علٍ، بل يريد الخلود. إنهم يصفقون للخلود.”
“يا للأسف، هنا تتحولُ الإبادة إلى فنٍ جميل نصفقُ له.”
تركتْ المشاهد التي تُعرضُ أمامها وبدأتْ تراقبُ الناس من حولها، كانت إضاءة الشاشة الفضية تتغير من حولها، لكن الصالة المعتمة منحتها حرية التلصص.
بدتْ سارحةً وساهمة، تتنقلُ عيناها بتكاسلٍ من شخص لآخر، إلى أن استقر نظرها مطولًا على سيدتين تجلسان على مقربةٍ منها، سيدتين بوجهين بلاستيكيين، شفاه منفوخة وممطوطة نحو الأمام، ونحو “أن أنظروا إليّ” لكن لا تحدثوني، لأن تضاريسي المستولى عليها سيتم الإعلان عن تأميمها، عندها ستبكون على إرثٍ كان سيعود لأصحابه يومًا ما، لا تدري إن كانت قد أفلتتْ ضحكةً أم تأوهًا ينمُ عن حزن ممزوج بسخرية مُرة.
“ما بكِ؟ عفوًا لتدخلي، لكنكِ تبدين مشدوهة!”
“نعم، فأنا أنامُ فوق الحلم!”
صوتها الذي كان من تعبٍ وبلل، شجعه على خطوة، ليقتربَ أكثر.
“هل سبق لكِ ورغبتِ بالانسلاخ عن محيطك؟”
“بل ورغبتُ بالانسلاخ عن نفسي، لأعاند الإخفاق، وخيبات الأمل، لأمحو جراحًا قديمة.”
“بندوب جديدة؟”
“لا بكلمة، كلمة نضت عن نفسها ثوب العتمة، فالتهمها ضياء الشمس من شدة بساطتها.”
“هيا بها، أخرجيها، لا شاهد هنا ولا حتى مهتم”
“في وقتٍ غريب ليس من تقويمنا، كنتُ عينًا خلف النوافذ، ترصدُ حماقات الأحبّة وكذبهم لكن لا أدري لمَ لمْ يستبد بي العجب. استبدتْ بي رغبةُ أن أحميهم ليس من أنفسهم، بل من معرفتهم لرفضي لتلك الأكاذيب والحماقات المؤذية، كَبُرتُ وتقلصَ حقلُ الأماني واستحالَ يدًا صغيرة، تقبضُ على حلمٍ وحيد، أن أقولَ {لا}.”
“هل كان لذاك الرجل ظل؟”
لمْ تستطعْ ابتلاعَ ما علق في حلقها من طوفان سؤاله، ما أدراهُ أن كلماتها المعممة تخصُ رجلًا؟! متعاطف هو ربما مع أبناء جنسه، وسيُسخِّفُ ما ستبوح به، لأنه سيدّعي المعرفة بتفكير النساء وحماقاتهن وأكاذيبهن وخبثهن، وسيبني ردًا إما متعاطفًا لكسب بوح أكثر، أو ردًا يحفظُ فيه ماءَ وجه رجلٍ بظل.
“بل كانتْ له أحلامٌ عظيمة، وكان له على أرضه ظل، لكن تلك الأحلام تعاظمتْ واستحالتْ غيومًا ثقيلة، لكنها لا تمطر غير {نعم}.”
“سيصدمه جدًا أن يعرف ما لديكِ من {لا}، لكن أعتقدُ أنه سيتجاوز الأمر ويرسم غيومًا جديدة، ربما عقيمة، لكنها واضحة تحمل آثارًا لتفاح الجنة المغوي الذي جلبتيه في سلتك…”
“سلتي هذه كانت درعه، يتكور خلفها، آمنًا ومتنكرًا بريئًا، كنتُ أتمنى لو يرميها لأكون أنا درعه. لكن لا مجال للمحاولة، فلو أصغتْ أثينا لسقراط ما كانت لترتكب الخطيئة مرةً أخرى!”
“لا تقوين على أن تكوني درعًا، لأنك ستخوضين حروبًا وحروبًا، ضد تجلياته وتجسداته في كل مرآةٍ تنظرين إليها.”
ليس هناك أثقل من الذاكرة، كانت رغبتها بأن تحظى بفسحة استماع، وليس حديثًا يأخذها في حدائق منسية عرش عليها لبلاب عنيد، غطى كل جمال، انتظرتْ برهةً كانتْ تحاول فيها استلام الدفة وتغير المسار.
“هل ترثيني بكلامك هذا؟”
“بل أدعوكِ للتحايل على الذاكرة.”
كانتْ تحاولُ ضبط ارتجاف الضوء في داخلها، تحاولُ الاختباء وراء الضباب، مدتْ يدها كمن يمسحُ زجاج نافذةٍ مضببة، تكاثفتْ عليها قطراتٌ ودمعات، كانت تمسحُ المرآة لترى التجسد والانعكاس. في عمق المرآة لاحتْ زهور التفاح التي أزهرتْ على وجناتِ الأطفال، وعلى وجه الأم، على وجهها، مدتْ يدها بثقة وقطفت غصنًا مزهرًا، كانت رغبتها أن تقدمه له على سبيل التعارف أو الوداع.
“لا، لن أتحايل على ذاكرتي، بل سأحول نفسي إلى ليل، أستمع فيه إلى وقع خطا النجوم، وأسمع صرير الباب؛ هناك من يحاول إغلاقه خوفًا، وحماية، مترددٌ هو نعم، لكنه سيحسم أمره، سيفتح الباب والنافذة ليطلق فراشات الذاكرة في الصباح الباكر.”
“إذن ستنظرين صوبَ السماء، حيثُ الأبدية، أم ترغبين بمعاودة النظر صوب تلك الغيوم حيثُ اللحظة؟”
“لن أنظر، بل سأتحدثُ إلى تلك الغيوم البيضاء، سأطلقُ فينوس البرية نحو السماء لترسمَ لنا غيومًا بلون زهر التفاح.”
علا التصفيق مرةً أخرى معلنًا انتهاء الفيلم، وسمعتْ صوت انقلاب المقاعد في الصالة الكبيرة، بدأتْ الأنوار تومض وتبهر الأعين، نهضتْ واستدارتْ صوبه، ابتسمَ لها ابتسامةً رسمتْ غمازةً لطيفة لم تكن قد رأتها في العتمة، أفسحَ لها المجال لتمر، كانت يدها مقبوضة، تأسرُ حجرًا صغيرًا أبيض اللون، يشبه الغيمة. فردتْ يدها التي تحملُ الحجرَ الصغير الذي أصبحَ دافئًا، وقدمته إليه:
“أظن أن هذا وقع منك. يشبهُ الغيمة أليس كذلك؟”
ناولته الحجر، ولم تنتظر حتى ترى انعكاس ملامحها المرتبكة في عينيه، اندفعتْ تنزلُ الدرج المفضي إلى البهو، شيء ما أوقفها، فتحتْ حقيبتها على عجل، وأخذتْ الورقة البيضاء التي كانت تكتبُ عليها، ورفعتها له، نظرَ إليها من بين الحشود التي بدأتْ تتدفق خروجًا من صالة السينما، على الورقة كانت قد رسمتْ غيمةً تمطر. مشتْ ثلاث خطوات واستدارتْ فجأةً، كانت تعرفُ أنها استدارت لتحفظ في ذاكرتها غمازتين، وغيمة.
* كاتبة ومترجمة سورية